موقف أمير المؤمنين (ع) من سياسة عمر في العطاء
ما هو موقف الإمام عليّ (عليه السلام) من سياسة الخليفة عمر بالعطاء؟ وهل قبل العطاء الذي فرضه له عمر؛ لأنّه فضل بني هاشم بالعطاء؟
بسم الله الرحمن الرحيم في بداية الأمر لا بدّ من توضيح الأسس التي اعتمد عليها الخليفة الثاني في تقسيم أموال بيت المال، لفهم كيفية تعامل الإمام عليّ (عليه السلام) مع هذه الظاهرة لاحقاً. فالخليفة الثاني أسّس ديوانَه الماليّ على أساسين: القرابة من رسول الله (صلّى الله عليه وآله) والسابقة الإسلاميّة، فقد نقل الطبريّ عن عمر قوله: بأنّه سيقسّم بيت المال على أساس السابقة الإسلاميّة [ينظر: تاريخ الطبري ج3 ص613]، كما روى عنه أنّه سيتصرّف وفقاً لمعيار القرابة من النبيّ (صلّى الله عليه وسلّم) [ينظر: تاريخ الطبري ج3 ص 614]. ويبدو أنّ القرابة كانت المعيار الأوّل، فإذا تساوت طبقةٌ ما فيه، انتقل النظر إلى سابقة أفرادها [ينظر: الطبقات الكبرى ج3 ص225]. بناءً على ذلك، خُصِّص للعبّاس عمّ النبيّ (صلّى الله عليه وآله) مبلغٌ يتراوح بين خمسة وعشرين ألفاً واثني عشر ألف درهم سنوياً، ولكلّ واحدةٍ من زوجات النبيّ (صلّى الله عليه وآله) بين عشرة آلاف واثني عشر ألف درهم [ينظر: تاريخ الطبريّ ج3 ص614، الكامل في التاريخ ج2 ص503]. أما المسلمون غير ذوي القربى، فقد قُسّموا إلى مراتب وفقاً لمشاركتهم في الجهاد، حيث نال أهل بدر خمسة آلاف درهم، والمشاركون في الغزوات بين بدر والحديبية أربعة آلاف، ومن شهد الحروب بعد الحديبية حتّى حروب الردة ثلاثة آلاف، ومن شارك في القادسية واليرموك ألفي درهم، بينما حصلت فئات أخرى على مبالغ متدرجة بين ألف إلى مئتي درهم [ينظر: تاريخ الطبريّ ج3 ص614-615]. رغم طابعه الديني، فإنّ هذا التقسيم كان اجتهاداً شخصياً مستوحًى من نُظم ملوك الفرس والروم [ينظر: التاريخ الفخريّ ص87-88؛ مآثر الإنافة ج3 ص336]، وقد فتح الباب لاحقاً أمام الحكّام المسلمين للتصرّف في بيت المال بأسلوبٍ أقرب إلى التملّك الشخصيّ، كما حصل في عصر الخليفة الثالثة. تأثيرات التقسيم الطبقيّ: أدّى هذا التقسيم التفصيلي الذي اعتمده عمر إلى ظهور فجواتٍ طبقيَّةٍ بين المسلمين، حيث تزايدت الفوارق الماليّة بشكلٍ ملحوظٍ مع ازدياد الثروات، حتى أصبح التفاوت بين بعض المخصّصات يصل إلى آلاف الدراهم، في حين لم تتجاوز مخصّصات آخرين ثلاثمائة أو مائتي درهم [ينظر: بررسی وضع مالی ومالیه مسلمین ص105]. من اللافت أنّ عمر نفسه أدرك هذا الاختلال؛ إذ صرّح في موضعٍ بأنّه إذا كثرت الأموال، فسيجعل لكلّ رجلٍ أربعة آلاف درهم [الطبقات الكبرى ج3 ص226]، مما يدلّ على احتمال عزمه إعادة الأمور إلى التقسيم بالسوية. وفي آخر عامٍ من حياته، أعلن بوضوح: (إن عشتُ إلى العام المقبل، لألحقنّ آخر الناس بأوّلهم، حتى يصيروا سواءً) [الأموال ص336]. كما أكّد قائلاً: (كنتُ أفضّل بعض الناس على بعضٍ في العطاء، تأليفاً لقلوبهم، ولو عشتُ هذا العام، ما فضّلتُ أحمرَ على أسودَ، ولا عربياً على عجميّ، وجعلتُ العطاء بالسوية، كما فعل رسول الله وأبو بكر) [تاريخ اليعقوبي ج2 ص154]. والجدير بالذكر أنّه يستبعد أنْ يكون عمر بن الخطّاب بنفسه أدرك هذا الخلل في العطاء الذي سبّب الطبقيّة والتفاوت بين المسلمين؛ وذلك لأنّه حكم المسلمين أكثر من عشر سنوات ولم يكن في نيّته تغيير هذا العطاء إلّا في آخر أيّام حياته على حدّ قوله، وهذا الأمر يقودنا إلى احتمال أنْ يكون المنبّه لابن الخطّاب على خطورة التقسيم الطبقيّ شخصاً آخر تميّز بالعلم والنصح والحكمة ومعرفة الآثار السلبيّة المترتّبة على هذا التقسيم، ليس في هذا الموضوع فحسب، وإنمّا في مواضيع أخرى أيضاً، ولا يمكن أنْ يكون هذا الشخص إلّا أمير المؤمنين (ع) الذي طالما أفنى عمره في النصيحة خدمة للإسلام والمسلمين، وهو معروف بتقديم النصح لابن الخطّاب في إشكالاتٍ ومعضلاتٍ كثيرة كاد يقع فيها لولا أنّ أمير المؤمنين (ع) أنقذه منها، حتّى اشتهر عنه أنّه كان يقول: (لا أبقاني الله لمعضلةٍ ليس لها أبو حسن)، أو قوله الآخر: (لولا عليٌّ لهلك عمر)، وعليه فاحتمال أنْ يكون أمير المؤمنين (عليه السلام) هو الناصح لابن الخطّاب في العدول عن سياسته في العطاء ليس بعيداً وإنْ لم نجد في الأخبار ما يُشير إلى ذلك، ولكنْ بقرينة موقف أمير المؤمنين (ع) من التقسيم الطبقي – الآتي بيانه - يصبح الاحتمال متّجهاً. موقف أمير المؤمنين من التقسيم الطبقيّ: من الواضح أنّ أمير المؤمنين (عليه السلام) لم يقبل هذا التفاوت الطبقي والتقسيم غير العادل، الذي لا يستند إلى معيار التقوى والحاجة، بل يتعارض مع روح الإسلام التي تقوم على المساواة بين المسلمين، حيث لا تفاضل بينهم إلَّا بالتقوى، كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [سورة الحجرات: 13]. فعندما تولّى الخلافة (عليه السلام) أمر بكسر أقفال بيوت الأموال، ووزّع ما فيها بالسويّة بين الناس، ولم يقبل التقسيم الطبقيّ [ينظر: البدء والتاريخ ج5 ص208]. وكان هذا التوزيع بالسويّة للمال إجراءً يهدف إلى إلغاء أيّ تمييزٍ أو محاباةٍ في توزيع الثروات العامّة، بحيث يحصل الأشراف والوجهاء على نصيبٍ مماثلٍ للفقراء والمستضعفين، دون أنْ يكون لأيّ فردٍ نصيبٌ محدّدٌ وثابت، حتى لو كان من بني هاشم، فأعظم إجراءٍ ثوريٍّ اتّخذه أمير المؤمنين (عليه السلام) خلال فترة خلافته كان إلغاء الامتيازات التي مُنحت لزعماء الدولة، وإصدار أمرٍ بتوزيع أموال بيت المال بالتساوي بين جميع المسلمين، دون تمييزٍ بين العسكريّ والمدنيّ، أو بين العربيّ وغير العربيّ، و هذا يعني لم يقبل بما فعله عمر من العطاء. غير أنّ هذا الإصلاح الماليّ والاقتصاديّ لم يَرُق لكبار القوم، فاستثقلوه واعترضوا عليه، وكان في مقدّمتهم طلحة، والزبير، وعبد الله بن عمر، وسعد بن العاص، ومروان بن الحكم، وجماعةٌ من أشراف قريش وغيرهم. وتصاعدت اعتراضاتهم إلى أن انتهت بكسرهم للبيعة، ورفعهم راية الحرب ضدّ الإمام (عليه السلام) تحت شعار الاقتصاص لعثمان، ولَـم يتقبّله بعض أصحابه ممّن اعتادوا التمييز الطبقيّ في توزيع الأموال. فمن كلامٍ له (عليه السلام) – لـمّا عُوتِبَ على التسوية في العَطاء -: «أتأمروني أن أطلب النصرَ بالجو فيمَن وُلِّيتُ عليه؟ والله لا أطورُ به ما سمر سمير وما أمَّ نجمٌ في السماء نجماً، ولو كان المال لي لسوّيتُ بينهم، فكيف وإنّما المال مال الله؟ أَلَا وإنْ إعطاء المال في غير حقّه تبذيرٌ وإسرافٌ، وهو يرفع صاحبَه في الدنيا ويضعُه في الآخرة» [نهج البلاغة ج2 ص7]. وقال (عليه السلام) - فيما ردّه على المسلمين من قطائع عثمان -: «والله، لو وجدتُه قد تُزُوِّجَ به النساء، ومُلِك به الإماء، لرددتُه، فإنّ في العدل سعةً، ومَن ضاق عليه العدلُ فالجور عليه أضيق» [نهج البلاغة ج1 ص46]. بل إنّ بعض أقرب الناس إليه لم يرضَ به، نظراً لِـما اعتادوه من تفاوتٍ في العطاء، ولكن لم يفضّل الإمام بني هاشم على غيرهم في تقسيم الأموال، فقد روي عنه عليه السلام أنّه صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال : «إنّي والله لا أرزؤكم من فيئكم درهماً ما قام لي عذقٌ بيثرب، فليصدقكم أنفسكم أفتروني مانعاً نفسي ومعطيكم؟ قال: فقام إليه عقيل فقال له: والله لتجعلني وأسود بالمدينة سواءً، فقال : اجلس أما كان ههنا أحد يتكلم غيرك وما فضلك عليه إلّا بسابقةٍ أو بتقوى» [الكافي ج8 ص182]. ممّا تقدّم يتّضح أنّه من المستبعد أن يكون الإمام (عليه السلام) قد أخذ نصيباً من العطاء المستند إلى التقسيم الطبقيّ الذي اعتمده الخليفة الثاني، ولم يرد في المصادر التاريخية ما يدلّ على ذلك وإن كان الامام مشمولاً بالعطاء على الأقل من ضمن أصحاب البدر لو أغمضنا عن القرابة و السابقة، إلّا أنّه لم يثبت في أيَّة وثيقةٍ تاريخيَّةٍ موثوقةٍ أنّه نال عطاءً يفوق غيره أو جمع المال من هذا الطريق، خلافاً لغيره من الصحابة، كطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف، الذين راكموا ثروات طائلة نتيجة هذا التقسيم غير المتكافئ [ينظر: صحيح البخاريّ ج5 ص21، مروج الذهب ج1 ص434، عقد الفريد ج2 ص279، و غيرها من المصادر] ولو كان الإمام (عليه السلام) قد استفاد من هذا العطاء، لكانت النصوص أشارت إلى ذلك أكثر من غيره، ولكنّ خلوّها من ذلك دليلٌ على عدم حصوله عليه. ويؤكّد هذا المعنى: ما وقع بينه (عليه السلام) وبين طلحة والزبير، حينما خاطباه بقولهم: إنّه لا يملك شيئاً، فقام الإمام (عليه السلام) بجمع الأموال التي حصل عليها من بستانه، حتى بلغت مئة ألف درهم، ثم قال لهما بوضوح: «هذا المال – واللهِ – لي، ليس لأحدٍ فيه شيء» [الكافي ج6 ص440]. وهذه العبارة تحمل دلالةً واضحةً على أنّه لم يكن يأخذ من أموال العطاء، وإنما كان ماله من كدّ يمينه وكسب يده، وفي الوقت ذاته، كان تعريضاً بطلحة والزبير، اللذين كانا يحصلان على العطاء، وأنّ ما لديهما ليس ملكاً لهما حقيقة، بل هو مال المسلمين. ويؤكّد هذا المعنى: المصادر التي كان يعتمد عليها الإمام (عليه السلام) في كسب الأموال ، حيث لم ينقل أنّه اعتمد في معيشته على أموال العطاء، بل كان يكتسب المال من كدّ يمينه وعرق جبينه، فاشتغل بالزراعة وحفر الآبار واستصلاح الأراضي، ولم يكن يحتفظ بهذه الأموال لنفسه، بل كان ينفقها بعد تنميتها في وجوه البرّ والإحسان، مواساةً للفقراء والمحتاجين، وقد أكّدت الروايات هذا الجانب من سيرته (عليه السلام)، فقد ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) قوله: «كان أمير المؤمنين (صلوات الله عليه) يضرِبُ بالمرّ ويستخرج الأرضين... وإنّ أمير المؤمنين أعتق ألف مملوك من ماله وكديده» [الكافي ج5 ص74]. وهذا يبيّن أنّ الإمام (عليه السلام) لم يكن يجمع المال عبر الامتيازات السياسيّة أو العطاءات السلطويّة، بل من عمله الشخصيّ، ثمّ كان يضعه في خدمة المحتاجين والمحرومين، على عكس غيره ممّن استثمروا النظام الطبقيّ لمراكمة الثروات. ويؤيّد هذا المنهج ما نُقل عنه (عليه السلام) من مواقفه الصريحة تجاه الأموال العامّة حين خلافته، حيث قال في خطبته المشهورة: « والله، لو وجدتُه قد تُزُوِّجَ به النساء، ومُلِك به الإماء؛ لرددتُه»، وهذا القول دليلٌ واضحٌ على أنّه (عليه السلام) لم يكن يستلم من أموال العطاء، وإلّا لما كان لكلامه هذا أيّ معنى؛ إذ لو كان قد أخذ من العطاء نفسه، لكان مشمولاً بهذا الحكم. وفي ردّه على عثمان حين أراد أن يعطيه مالاً، قال له بكلّ صراحة: «وصلتك رحم، إن كان هذا المال ورثته أو أعطاكه معطٍ أو اكتسبته من تجارة، كنتُ أحد رجلين: إمّا آخذٌ فأشكر، أو أوفرُ فأجتهد. ولكن إنْ كان من مال الله، وفيه حقّ المسلمين واليتيم وابن السبيل، فوالله، ما لك أنْ تعطينيه، ولا لي أنْ آخذه» [شرح نهج البلاغة ج9 ص16] وهذه النصوص وغيرها تدلّ بوضوح على رفض الإمام (عليه السلام) التكسّب من بيت المال بغير وجه حقٍّ والتقسيم الطبقيّ، وتدلُّ على حرصه البالغ على العدل والمساواة، وإقامته سياسةً ماليّةً قائمةً على الإنصاف، بعيداً عن أيّ شكلٍ من أشكال المحاباة أو التمييز الطبقيّ. ثمّ حتّى لو سلّمنا بقبول الإمام عليّ (عليه السلام) للعطاء القائم على التقسيم الطبقي، فلا إشكال في ذلك؛ لأنّه ليس كغيره من المسلمين الذين يأخذون على أساس هذا النظام الباطل، بل باعتباره الخليفة الشرعيّ المنصّب من قِبل الله تعالى، وصاحب الولاية الإلهيّة، فله حقّ التصرّف في الأموال والأنفس، والعالم الإسلاميّ بأسره، بما فيه من ثروات وغنائم، بل هو ملك للإمام (عليه السلام) في الحقيقة؛ إذ هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم وخليفة الله في أرضه. وله حقّ الخمس وما في الأرض من كنوز وأموال، وليس مجرد العطايا التي كان الحكّام يمنحونها، ولذلك لا يصحّ أصلاً الإشكال على قبوله لهذه الأموال. وفي هذا السياق، رُوي أن الإمام الكاظم (عليه السلام) حينما سأله المهديُّ العباسيُّ عن حدود فدك بغرض إرجاعها له بعد أن قرّر إعادة المظالم إلى أهلها، أجابه الإمام قائلاً: «حدٌّ منها جبل أحد، وحدٌّ منها عريش مصر، وحدٌّ منها ساحل البحر، وحدٌّ منها دومة الجندل، فقال: كلّ هذا؟! قال: نعم يا أمير المؤمنين هذا كلّه، إنّ هذا كلّه ممّا لم يوجف على أهله رسول الله صلّى الله عليه وآله بخيلٍ ولا ركاب، فقال: كثير!! وأنظر فيه» [الكافي ج1 ص543]. تُبيِّن هذه الرواية وغيرها من الروايات الواردة في هذا السياق أنّ ما كان يصل إلى الأئمة (عليهم السلام) من أموال لا يُقارن بما سُلِب منهم من حقوق على يد الحكّام؛ إذ لم يكن ما يحصلون عليه سوى جزءٍ يسيرٍ من الحقّ الذي جعله الله تعالى لهم.
اترك تعليق