لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبيّ
السؤال: ما هو سبب نزول آية: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ﴾؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
قال الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2].
والملاحَظ في هذه الآية المباركة أنَّها تخاطب (المؤمنين) بأنْ لا يرفعوا صوتهم فوق صوت النبي الأعظم (صلَّى الله عليه وآله) كما فعله بعض الصحابة في محضر النبي الكريم (صلَّى الله عليه وآله)؛ ولذلك نزلت هذه الآية توبِّخ هؤلاء، وتحذِّر المؤمنين من الوقوع في أمثال ذلك؛ لكونه سبباً في حبط الأعمال.
وأمَّا سبب نزول الآية، فكما ورد في بعض الروايات، أنَّ بعض الصحابة قد رفعوا أصواتهم في حضرة النبي (صلَّى الله عليه وآله)، فجاءت هذه الآية الكريمة توبيخاً لهم على فعلهم وتحذيراً من أنَّ عاقبة رفع الصوت فوق صوت النبيّ هي إحباط الأعمال دون أنْ يشعروا بذلك.
من ذلك:
1ـ ما رواه أحمد بن حنبل بسندٍ صحيح عن ابن أبي مليكة قال: «كاد الخيران أنْ يهلكا: أبو بكر وعمر، لما قَدِم على النبي (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) وفد بني تميم، أشار أحدهما بالأقرع بن حابس الحنظليّ أخي بني مجاشع، وأشار الآخر بغيره. قال أبو بكر لعمر: إنما أردتَ خلافي، فقال عمر: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتُهما عند النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) فنزلت: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ﴾ إلى قوله: ﴿عَظِيمٌ﴾ [الحجرات:2ـ3] قال ابن أبي مليكة: قال ابن الزبير: فكان عمر بعد ذلك ـ ولم يذكر ذلك عن أبيه، يعني أبا بكر ـ إذا حدَّث النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) حدَّثه كأخي السرار، لم يسمعه حتَّى يستفهمه» [مسند أحمد ج26 ص55، صحيح البخاريّ ج4 ص1833، أسباب النزول ص258] وغيرها.
2ـ وروى محمَّد بن سعد الزهريّ - واللفظ له - ومُسلم بن الحجَّاج بالإسناد عن عكرمة قال: «لما نزلت ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾ [الحجرات:2]. قال ثابت بن قيس بن شماس: فأنا كنتُ أرفع صوتي فوق صوت رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم)، وأجهر له بالقول، فأنا من أهل النار، فقعد في بيته، فتفقده رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) فسأل عنه، فقال رجل: يا رسول الله، إنه لجاري، فإنْ شئت لأعلمنَّ لك علمه، فقال: نعم: فأتاه فقال له: إنَّ رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) قد تفقَّدك وسأل عنك، فقال: نزلت هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ﴾، فأنا كنتُ أرفع صوتي فوق صوت رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم) وأجهر له بالقول، فأنا من أهل النار، فرجع إلى رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم)، فأخبره، فقال: بل هو من أهل الجنَّة، فلما كان يوم اليمامة انهزم المسلمون فقال ثابت: أفٍّ لهؤلاء ولما يعبدون! وأفٍّ لهؤلاء وما يصنعون! يا معشر الأنصار، خلوا سنني لعلِّي أصلِّي بحرها ساعة، قال ورجل قائم على ثلمة فقتله وقتل» [الطبقات الكبرى ج4 ص344، صحيح مُسلم ج1 ص77].
3ـ وروى عبد الرزاق الصنعانيّ عن معمر، عن الزهريّ، عن ثابت بن قيس بن شماس قال: «لما نزلت: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ﴾، قال: يا نبي الله، لقد خشيت أنْ أكون قد هلكت، نهانا الله أنْ نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت، ونهى الله المرء أنْ يحب أنْ يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال. قال النبيّ (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): يا ثابت، أما ترضى أنْ تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنَّة، فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة» [تفسير القرآن ج3 ص239].
4ـ وروى الطبريّ بسنده عن الزهريّ، قال: «إنَّ ثابت بن قيس بن شماس، قال: لما نزلت: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ﴾ قال: يا نبي الله، لقد خشيت أنْ أكون قد هلكت، نهانا الله أنْ نرفع أصواتنا فوق صوتك، وإني امرؤ جهير الصوت، ونهى الله المرء أنْ يحب أنْ يحمد بما لم يفعل، فأجدني أحبُّ أنْ أحمد، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحبُّ الجمال، قال: فقال له رسول الله (صلَّى الله عليه [وآله] وسلَّم): يا ثابت، أما ترضى أنْ تعيش حميداً، وتقتل شهيداً، وتدخل الجنة؟ فعاش حميداً، وقتل شهيداً يوم مسيلمة» [تفسير الطبريّ ج26 ص154].
أقول: المستفاد من نقل الصنعانيّ والطبريّ أنَّ (ثابت بن قيس بن شماس) لم يرفع صوته بالفعل، وإنما كان يخاف من ذلك خشية أنْ يحبط عمله، بخلاف ما تقدَّم في نقل ابن سعد المصرِّح برفع الصوت فعلاً، الأمر الذي يُوجب الريبة في هذا المروي، ولعلَّ من أجل ذلك نشاهد ابن العربيّ يجعل السبب الوحيد في نزول الآية هو ما روي في حقِّ الرجلين دون الإشارة إلى ثابت بن قيس، فدقق.
قال ما نصُّه: (قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، الآية ... إلى قوله: المسألة الأولى: في سبب نزولها: ثبت في الصحيح عن ابن عمر قال: كاد الخيِّران أنْ يهلكا أبو بكر وعمر، رفعا أصواتهما عند النبيّ حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر، قال نافع عنه لا أحفظ اسمه. فقال أبو بكر لعمر: ما أردت إلَّا خلافي، قال: ما أردتُ ذلك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ﴾، الآية. قال ابن الزبير: فما كان عمر يسمع رسول الله بعد هذه الآية حتَّى يستفهمه) [أحكام القرآن ج4 ص145].
وعلى كلِّ حالٍ، فإنَّ المتحصَّل من هذه المرويَّات أنَّ أبا بكر وعمر أو ثابت بن قيس بن شماس ـ كما قيل ـ قد رفع صوته فوق صوت النبيّ الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، مما صار سبباً في نزول هذه الآية الكريمة.
هذا، ولابأس بالإشارة إلى ما ذكره العلَّامة الحلِّي (طيَّب الله ثراه) في خصوص هذه الآية المباركة، قال (طاب ثراه): (وفي الجمع بين الصحيحين، في مسند عائشة، من المتَّفق على صحته: أنَّ عائشة قالت: أعتمَّ رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) بالعشاء حتَّى ناداه عمر: بالصلاة، نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله (صلَّى الله عليه وآله)، وقال: وما كان لكم أنْ تنذروا رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) على الصلاة، وذلك حين صاح عمر بن الخطَّاب» [صحيح مُسلم ج1 ص 241، وصحيح البخاريّ ج1 ص141]، وقد قال الله تعالى: ﴿لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبيّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾، فجعل ذلك محبطاً للعمل. وقال: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ﴾ [الحجرات: 4 ـ 5]) [نهج الحق ص337]، وللمزيد يلاحظ ما ذكره الشيخ المظفر في [دلائل الصدق ج8 ص255].
والنتيجة النهائية من كلِّ ما تقدَّم، أنَّ سبب نزول الآية كان لبيان ذمِّ بعض الصحابة الذين رفعوا أصواتهم فوق صوت النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، فجاءت الآية توبيخاً لهم وتنبيهاً على خطئهم.. والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق