هل الإلحاد حالة فطريَّة للإنسان؟

السؤال: الإلحاد لا يستلزم نظريات التطور والجاذبيَّة أو نشأة الكون، بل هو الحالة الفطريَّة التي يولد عليها الإنسان. في المقابل، الإيمان بدينٍ معيَّنٍ يتطلَّب أدلةً وبراهين لإثبات صحته.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

هذا الادّعاء يتجاهل أنّ الإلحاد ليس مجرّد غيابٍ للإيمان، بل هو موقفٌ فلسفيٌّ يتطلّب تقديم تفسيراتٍ ماديّةٍ متماسكةٍ لنشأة الكون والحياة والوعي، وهي تفسيراتٌ لم تثبت قدرتها على الاستغناء عن وجود خالق.

ولتوضيح ذلك سنذكر مجموعةً من النقاط:

أوّلاً: القول بأن الإلحاد هو (الحالة الفطريَّة) التي يُولًد عليها الإنسان، مجرّد ادّعاءٍ ليس إلّا، فالدراسات في علم النفس والتاريخ البشريّ تشير إلى أنّ البشر عبر العصور كانوا ميّالين للاعتقاد بوجود قوّةٍ عُليا أو كائنٍ متعالٍ، وعلم النفس التطوريّ يشير إلى أنّ الميل إلى الإيمان بوجود خالقٍ أو قوىً غيبيّةٍ قد يكون جزءاً من البنية الإدراكيّة للإنسان، وليس مجرّد اكتسابٍ ثقافيّ.

أمّا الإلحاد، فهو موقفٌ يتطلّب رفض الاعتقاد بوجود إله، وهو ليس موقفاً (محايداً) أو (أصلياً) يُولد عليه الإنسان، بل ينتج عن عمليّة تفكيرٍ وتحليلٍ للمعتقدات الدينيّة ومحاولة استبدالها ببدائل ماديّةٍ أو طبيعيّةٍ؛ ولذلك، القول بأنّ الإنسان يولد بلا اعتقادٍ دينيٍّ هو خلطٌ بين غياب المعرفة والاتّجاه الفلسفيّ الواعي الذي يتبنّاه الشخص فيما بعد.

وثانياً: القول بأنَّ الإلحاد (لا يستلزم) نظرياتٍ مثل التطوّر أو الجاذبيّة أو نشأة الكون، يتجاهل أنّ الإلحاد موقفٌ يحتاج إلى تفسيرٍ للكون والوجود بدون اللجوء إلى إلهٍ أو قوّةٍ خارقة. فالإلحاد باعتباره نظرةً للواقع يعتمد على تفسيرٍ ماديٍّ بحتٍّ للكون، ومن هنا فإنّه مضطرٌّ لاحتضان نظريّاتٍ علميّةٍ معيّنةٍ لتفسير الظواهر التي كانت تُفسَّر سابقاً بوجود خالق.

منها: نظرية التطوّر: فالإلحاد يقتضي رفض التفسير الدينيّ لنشأة الإنسان؛ ولذلك فإنّ الإلحاد المعاصر يعتمد على نظريّة التطور لتفسير نشوء الحياة وتنوّعها دون الحاجة إلى خالق. حتّى لو لم يكن كلّ ملحدٍ متخصّصاً في علم الأحياء، إلّا أنّ الإلحاد نفسه يعتمد على التطوّر ليشرح كيفيّة نشأة الكائنات الحيّة دون تدخّلٍ إلهيّ.

ومنها: نظريّة الجاذبيّة والفيزياء الكونيّة: فالإلحاد لا يمكنه تجاهل حقيقة أنّ قوانين الفيزياء يجب أنْ تفسّر نشأة الكون وتطوره. فبدلاً من الإيمان بأنّ الله هو مَن وضع قوانين الكون، يسعى الإلحاد إلى تفسير نشأة الكون عبر آلياتٍ طبيعيّةٍ بحتة؛ مثل الانفجار العظيم والتضخّم الكونيّ. ولذلك، فإنّ الإلحاد يحتاج إلى تفسيراتٍ ماديّةٍ بحتة، وإنْ لم يكن كلّ ملحدٍ فيزيائيّاً، فإنّه مضطرٌّ لقبول هذه النظريّات أساساً لرؤيته للعالم.

ومنها: نشأة الكون: فالإلحاد لا يقتصر فقط على رفض الإله، بل يجب أن يقدّم تفسيراً بديلاً لكيفيّة نشوء الكون؛ نظراً لأنّ الكون لم يكن موجوداً في وقتٍ ما، فإنّ رفض وجود خالقٍ يتطلّب تفسيراً لكيفيّة نشأته تلقائيّاً عبر قوانين الطبيعة وحدها، وهو ما تحاول نظرياتٌ مثل (الكون من لا شيء) أو (الفراغ الكمّيّ) تقديمه.

إذن: الإلحاد لا يمكنه أنْ يكون موقفاً مجرّداً من هذه القضايا العلميّة، بل يحتاج إلى تفسيراتٍ طبيعيّةٍ لكلّ الظواهر التي يرفض تفسيرها دينيّاً.

وثالثاً: القول بأنّ الإيمان (يتطلّب أدلّةً وبراهين) بينما الإلحاد هو (الحالة الطبيعيّة)، يعكس تحيّزاً غير موضوعيّ. في الواقع، الإيمان بالله أو بالقوّة الغيبيّة هو جزءٌ من الفطرة البشريّة، وهذا ما تدعمه الدراسات الأنثروبولوجيّة والنفسيّة التي تشير إلى أنّ الأطفال يميلون تلقائيّاً إلى الاعتقاد بأنّ العالم له غرض، وأنّ الأحداث الكبرى لها سببٌ غير ماديّ. حتّى التجارب مع الأطفال الصغار أظهرت أنّهم يفترضون وجود (مصممٍ ذكيٍّ) للأشياء المعقّدة في الطبيعة.

من هنا، فإنّ الإيمان لا يبدأ من العدم ولا يحتاج إلى (إثبات) بالطريقة نفسها التي يحتاج فيها الإلحاد إلى إثبات بديلٍ لتفسير الظواهر. بل على العكس، إنكار وجود الله هو الذي يتطلّب تقديم تفسيرٍ ماديٍّ شاملٍ يغطّي كلّ شيء، من نشأة الكون إلى الأخلاق إلى الوعي البشريّ.

فبعض الملاحدة يدّعون أنّ عبء الإثبات يقع فقط على المؤمنين. لكنّ هذا غير دقيقٍ فلسفيّاً؛ لأنّ الإلحاد ليس مجرد (غياب الإيمان)، بل هو تبنّي رؤيةٍ محدّدةٍ للكون والوجود تنفي وجود إله. وبما أنّ الملاحدة يقدّمون تفسيراتٍ بديلةً للظواهر الطبيعيّة والأخلاقيّة والمعرفيّة، فهم أيضاً مطالبون بتقديم أدلّةٍ على صحّة مواقفهم.

على سبيل المثال:

ـ إذا قال الملحد: (إنّ الكون نشأ من لا شيء)، فعليه أنْ يثبت كيف يمكن للعدم أنْ يُنتج شيئاً.

ـ وإذا قال الملحد: (إنّ الأخلاق مجرّد تطوّرٍ اجتماعيّ)، فعليه أنْ يفسّر لماذا نشعر بأّنَّ بعض الأفعال شرّيرةٌ بذاتها، وليس فقط لأنّها ضارّةٌ بالمجتمع.

ـ وإذا قال الملحد: (إنّ الوعي مجرّد عمليّةٍ دماغيّةٍ)، فعليه أنْ يفسّر كيف تنشأ الذاتيّة والشعور من تفاعلاتٍ ماديّةٍ بحتة.

في المحصلة، الإلحاد ليس الحالة الفطريَّة للإنسان، بل هو موقفٌ فلسفيٌّ يتطلّب تبنّي رؤيةٍ ماديّةٍ بحتةٍ للكون والوجود. كما أنّه لا يمكنه أنْ يكون منفصلاً عن النظريّات العلميّة التي تفسّر نشأة الكون والحياة، بل يحتاج إليها بديلاً للتفسيرات الدينيّة. أمّا الإيمان، فله أساسٌ فطريٌّ وبديهيٌّ، ولا يحتاج إلى (إثباتٍ) بقدر ما يحتاج الإلحاد إلى تفسيرٍ شاملٍ بديلٍ لكلّ الظواهر التي يرفض تفسيرها دينيَّاً