كيف يدل استخلاف النبيّ (ص) عليا (ع) في تبوك على إمامته بعده؟
السؤال: يستدلّ علماؤنا الأبرار ببقاء أمير المؤمنين خليفةً على الناس في يوم تبوك بقولهم: (إنّ النبيّ لم يعزله إلى أنْ توفّي، فذلك دليلٌ على إمامته)، فهل يوجد دليلٌ على عدم عزل رسول الله (ص) أمير المؤمنين (ع)؟ وهل يوجد دليلٌ على عزل رسول الله (ص) الذين أخلفهم عند الغزوات؟ وكيف يمكن تقرير بقائه في تبوك وعدم عزله عن إمامته (ع)؟
الجواب:
السائل يشير إلى حادثة استخلاف النبيّ (صلى الله عليه وآله) أمير المؤمنين (عليه السلام) في المدينة عند خروجه إلى غزوة تبوك، وهي الواقعة التي ورد فيها الحديث الثابت المشهور بـ حديث المنزلة. نقل البخاريُّ ومسلمٌ عن سعد بن أبي وقّاص قال: «لمّا خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله) إلى تبوك خلّف عليّ بن أبي طالب، فقال: يا رسول الله، تخلّفني في النساء والصبيان؟ فقال: أما ترضى أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسى، إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟»
[صحيح البخاري ج٥ ص١٢٩، صحيح مسلم ج٧ ص١٢٠].
هذه الحادثة تدلّ على أنّ استخلاف النبيّ (ص) الإمام عليَّاً (ع) لم يكن مجرّد تدبيرٍ إداريٍّ كما كان في استخلاف غيره، بل حمل دلالةً خاصّةً أكّدها النبيّ (ص) بتشبيهه بهارون (ع) الذي كان خليفة موسى (ع).
أمّا السؤال عن الدليل على عدم عزل النبيّ (ص) أمير المؤمنين (ع) بعد ذلك، فجوابه أنّه لو كان النبيّ (ص) قد عزله، لنُقل ذلك كما نُقل استخلافه، خصوصاً مع وجود من كان يسعى للطعن في موقعه. لكنّ التاريخ لم ينقل أيّ خبرٍ عن عزله، ممّا يدلّ على أنّ استخلافه بقي حتى وفاة النبيّ (ص).
وهنا يرد الإشكال: قد يقول البعض إنّ النبيّ (ص) استخلف غير عليٍّ (ع) أيضاً، مثل معاذ بن جبل وابن أمّ مكتوم، فهل يدلّ استخلافهم على إمامتهم كما تدّعون في استخلاف عليّ (ع)؟
ويجيب الشريف المرتضى عن ذلك بقوله:
(قد ثبت استخلاف النبيّ (صلى الله عليه وآله) لأمير المؤمنين (عليه السلام) لما توجّه إلى غزوة تبوك، ولم يثبت عزله عن هذه الولاية بقولٍ من الرسول (صلى الله عليه وآله)، ولا بدليل، فوجب أنْ يكون الإمام بعد وفاته لأنّ حاله لم يتغيّر. فإن قيل: ما أنكرتم من أنْ يكون رجوع النبيّ إلى المدينة يقتضي عزله وإنْ لم يقع العزل بالقول؟ قلنا: إنّ الرجوع ليس بعزلٍ عن الولاية في العرف، وكيف يكون العود من الغيبة عزلاً؟ وقد يجتمع الخليفة والمستخلف في البلد الواحد، ولا ينفي حضوره الخلافة له)
[الشافي ج٣ ص٥٢].
وهذا يعني أوّلًا: أنّ الاستخلاف لا يسقط بالضرورة بعودة النبيّ (ص)، بل يبقى ما لم يرد نصٌّ بعزله.
وثانيًا: النبيّ (ص) لم يعزل عليًّا (ع) لاحقًا، بينما استخلف غيره ثمّ عزله، ممّا يثبت خصوصيّة استخلافه.
وفي المقابل، ثبت أنّ النبيّ (ص) كان يعزل أو يستبدل من استخلفهم في غزواتٍ أُخرى، مثل ابن أمّ مكتوم، الذي استخلفه في المدينة أكثر من مرّة، ثم استبدله. فقد نقل الذهبي:
(وقال قتادة: استخلف النبيّ (ص) ابن أمّ مكتوم مرّتين على المدينة، وكان أعمى)
[سير أعلام النبلاء ج١ ص٣٦١]،
ممّا يدلّ على أنّ النبيّ (ص) لم يكن يترك استخلافه ثابتًا إنْ لم يكن له دلالةٌ خاصّةٌ.
ثمّ لو قيل: كيف يدلّ بقاء أمير المؤمنين (ع) في هذا الاستخلاف على إمامته؟
يتّضح الجواب بملاحظة أمور:
أحدها: خصوصيّة الحديث النبوي؛ فإنّ النبيّ (ص) لم يكتفِ باستخلاف عليّ (ع)، بل قرنه بمنزلة هارون من موسى، ممّا يدلّ على أنّ هذا الاستخلاف يحمل أبعادًا تتجاوز مجرّد الإدارة إلى الدور الدينيّ والسياسيّ المستمرّ.
ثانيها: عدم وجود أيّ استخلافٍ آخر بمثل هذه الخصوصيّة؛ إذ لم يثبت أنّ النبيّ (ص) استخلف غير عليٍّ (ع) في مثل هذه الظروف مع تصريحٍ صريحٍ بمكانته.
ثالثها: عدم عزله رغم مرور الزمن، بخلاف غيره ممّن استخلفهم ثمّ عزلهم أو عاد بنفسه، فإنّ عليًّا (ع) بقي في استخلافه إلى أن انتقل النبيّ (ص) إلى الرفيق الأعلى، ممّا يدلّ على أنّ هذا الاستخلاف لم يكن مؤقّتًا، بل هو تأكيدٌ عمليٌّ على إمامته.
النتيجة:
عدم عزل النبيّ (ص) لعلي (ع) بعد استخلافه في تبوك - رغم وجود دواعي العزل كما حصل مع غيره - يدلّ على أنّ استخلافه لم يكن مجرّد إدارةٍ مؤقّتةٍ للمدينة، بل كان تأكيداً عمليّاً على موقعه الفريد بوصفه خليفةً للنبيّ (ص) بعده.
اترك تعليق