عليٌّ (ع) أعدلُ وأعظمُ حاكمٍ عرفتْه البشريّةُ بعدَ رسولِ اللهِ (ص).

محمد باقر: السلامُ عليكمْ ورحمةُ الله ِوبركاتُه، أحتاجُ إلى ردٍّ منكمْ على ما كتبَه المدعوُّ ميثاقُ العسر تحتَ عنوانِ: (مثاليّةُ عليٍّ "ع" واستحقاقاتُ عصرِه) حيثُ يقولُ: إذا أردْنا أنْ نرفعَ اليدَ عنْ مفردةِ العصمةِ الاثني عشريّةِ وعرضِها العريضِ مؤقّتاً، ونجنحُ لمحاكمةِ الأداءِ السّياسيِّ لعليِّ بنِ أبي طالبٍ "ع" بنظّارةِ علمِ الّسياسةِ المعاصرِ _ وما تقدّمَ قيودٌ مهمّةٌ جدّاً _ فربّما يُقالُ كما قيلَ أيضاً: إنّ مثاليّةَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ لم تستطعْ فهمَ روحِ عصرِه؛ حيثُ كانَ لديْه مجالٌ واسعٌ للمناورةِ وتقديمِ شيءٍ بسيطٍ من التّنازلاتِ لصالحِ خصومِه وبشكلٍ شرعيٍّ مجْمَعٍ عليهِ أيضاً؛ ممّا يبعِدُ المسلمينَ آنذاكَ عنِ الحروبِ والمعاركِ الطّاحنةِ الّتيْ دارتْ في وقتِه وسبّبتْ مقتلَ الآلافِ منَ المسلمينَ من الطّرفينِ، لكنّهُ أصرَّ على القتالِ انطلاقاً من تقديراتٍ معيّنةٍ ورؤيةٍ مثاليّةٍ كانَ يحملُها عنِ الدّينِ، الأمرُ الّذيْ أوقعَه في فخِّ الصّلحِ أيضاً، فكانَ ما كانَ وحصلَ ما حصلَ، ولم تستمرَّ خلافتُه سوى أربعِ سنواتٍ وشهورٍ قضاها بالحروبِ!! بلى؛ ربّما يستفزُّك هذا الكلامُ في يومِ ميلادِه "ع" وأنتَ تنتظرُ مديحاً وتبريكاتٍ، لكنْ عليك أنْ تأخذَ نفَساً عميقاً وتستمعَ إلى وجُهاتِ نظرِ الأغلبيّةِ السّاحقةِ منَ البشرِ ممّنْ لا يؤمنُ بمعتقداتِك المذهبيّةِ، ويقيّمُ أفعالَ وأقوالَ الشّخوصِ على وفقِ الدّليلِ المحايدِ، وحينذاكَ منْ حقِّك أنْ ترفضَها وتُسقطَ قناعات المخالفينَ لمعتقداتِك بدليلٍ محايدٍ أيضاً. أباركُ للمؤمنينَ ولادةَ عليٍّ "ع"، وأسألُه تعالى أنْ يأخذِ بيدِنا لما فيهِ الخيرُ والصّلاحُ، وهوَ منْ وراءِ القصدِ.

: اللجنة العلمية

الأخُ محمدٌ المحترمُ، السلامُ عليكمْ ورحمةُ اللهِ وبركاتُه.

الذينَ يقرؤونَ عليّاً (عليه السلامُ) قراءةً مجتَزأةً يقعونَ في أخطاءَ بالغةٍ ، وبالتالي ينتهونَ إلى نتائجَ  غيرِ صحيحةٍ من الناحيةِ العلميّةِ ، وهذه هيَ مشكلةُ أرباعِ المثقفينَ وأنصافِهم .

وحتى لا نشتِّتَ البحثَ في الجانبِ السياسيِّ عندَ عليٍّ (عليه السلامُ) ، سنقفُ عندَ محطاتٍ ثلاثٍ من حياتِه فقطْ :

المحطةُ الأولى : موقفُه من مناهضيهِ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّمَ ) .

المحطةُ الثانيةُ : موقفُه أيامَ خلافةِ الذينِ سبقُوه .

المحطةُ الثالثة ُ: مواقفُه أيامَ حكمِه .

في المحطةِ الأولى ( وهيَ موقفُّه ممن اعتدى على بيتِه وأرادَ بيعتَه منه بالقوةِ ) نجدُه ( عليه السلامُ ) وقفَ موقفاً مسالماً ، وكانَ صبوراً جدّاً إلى درجةٍ مذهلةٍ لم يكنْ يتصورُها أحدٌ  ، وخاصّةً أنّ هذا الصبرَ يأتيْ من  رجلٍ كانتِ الفرسانُ تفرُّ من بينِ يديْهِ جزعاً من سيفِه .. فلماذا صبرَ عليٌّ ( عليه السلامُ ) في هذا الموقفِ بالذاتِ ؟!!

الجوابُ : يعدُّ هذا الموقفُ - في العُرفِ السياسيِّ الاستراتيجيِّ - موقفاً سياسياً حاذقاً من الدرجةِ الأولى ، فقدْ كانَ اليهودُ والمنافقونَ ينتظرونَ هذه الفرصةَ ، أيْ فرصةَ الخلافِ بينَ المسلمينَ بعدَ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّمَ ) مباشرةً واقتتالِهم حتى يقضُوا على الإسلامِ نهائيّاً، وهوَ بعدُ غضٌّ طريٌّ لم تتعمقْ جذورُه، ولم تقوَ شوكتُه ، ففوّتَ ( عليه السلامُ ) عليهمْ  هذهِ الفرصةَ بصبرِه وتجلُّدِه ، كما احتفظَ في الوقتِ نفسِه بحقِّه كمعارضٍ حينَ امتنعَ عنِ البيعةِ لأشهرٍ عديدةٍ - حسبَ رواياتِ أهلِ السنّةِ ـ ، فحافظَ بموقفِه هذا على أمرَينِ :

الأولِ : على بيضةِ الإسلامِ وإبقائه عزيزاً من غدرِ اليهودِ والمنافقينَ .

الثاني : على حقِّه وعدمِ التفريطِ بهِ  من خلالِ امتناعِه عنِ البيعةِ لعدّةِ أشهرٍ .

وفي المحطةِ الثانيةِ ( وهوَ موقفُه أيامَ خلافةِ الذينَ سبقُوه ) نجدُه ( عليهِ السلامُ ) قدْ اعتزلَ الخلفاءَ ولمْ يشاركْهم في حكمِ أيِّ ولايةٍ بلْ حتى دعوى مشاركتِه في الفتوحاتِ لم تثبتْ بأسانيدَ صحيحةٍ ولا معتبرةٍ ، ولكنْ كانَ له حضورٌ فاعلٌ في قضيةٍ واحدةٍ فقطْ ، وهيَ الذبُّ عن الإسلامِ حينَ يداهمُه الخطرُ أيامَ حكمِهم ، ولم تكنْ تلكَ المشورةُ العظيمةُ التي قدمَها لعمرَ بن ِالخطابِ بعدمِ الخروجِ للحربِ بنفسِه مع َإعطاءِ الخطةِ الكاملةِ في كيفيّةِ التصدّي لجيوشِ الفُرسِ التي أقبلتْ لدكِّ حصونِ المسلمينَ ، وفي الوقتِ الذي عجزَ كلُّ الصحابةِ عن تقديمِ مثلِ هذهِ المشورةِ ، حتى صدحَ عمرُ بقولِه المعروفِ : لولا عليٌّ لهلكَ عمرُ ، إلا مؤشراً واضحاً على مدى حِنْكةِ أميرِ المؤمنينَ ( عليه السلامُ ) وقدرتِه على إدارةِ الأمورِ من الناحيةِ السياسيةِ والإداريةِ ، بل ثبتَ مثلُ هذا  الموقفِ معَ عثمانَ أيضاً ، فصرّحَ بما صرّحَ به عمرُ وقالَ  : لولا عليٌّ لهلكَ عثمانُ ( فيما ينقلُه العاصميُّ في زينِ الفتى ج1 ص 318).

أما المحطةُ الثالثةُ ( وهيَ مواقفُه عليهِ السلامُ أيامَ حكمِه ) نجدُه ( عليهِ السلامُ ) يقرِّرُ عزلَ كلِّ الولاةِ الذينَ عيّنَهم عثمانُ لجزمِه بفسادِهم ، وكذلكَ يقرّرُ استرجاعَ كلِّ الأموالِ التي وُزِّعتْ على الأقرباءِ والوجهاءِ من قِبَل عثمانَ  بغيرِ حقٍّ وإعادةَ توزيعِها على المسلمينَ بعدالةٍ وإنصافٍ ، وهذهِ الحالةُ هي التي جعلتِ الوضعَ يتأزّمُ في أيامِ حكمِه كثيراً ، فخرجَ الناكثونَ والقاسطونَ لحربِه - بسببِ عملياتِ العزلِ والمحاسبةِ هذهِ -  متذرِّعينَ بالأخذِ بثأرِ عثمانَ ، معَ أنّهم أعرفُ الناسِ بأنّه ( عليه السلامُ ) بريءٌ من دمِ عثمانَ، ولا صلةَ لهُ بمقتلِه مطلقاً ، لكنّها لعبةُ الغدرِ والكذب التي يركبُها طُلابُ الدّنيا غالباً في الوصولِ إلى مآربِهم !.

وهنا يُطرحُ هذا السؤالُ - ولعلّه هوَ الذي عجزَ عن إداركِ أبعادِه صاحبُ المقالِ فقالَ ما قالَ - : لماذا لم يداهنْ عليٌّ (عليه السلامُ) هؤلاءِ الولاةِ والأقرباءِ والوُجَهاءِ من أتباعِ عثمانَ ويُبقيهمْ في مناصبِهم ويُبقي الأموالَ التي حازُوا عليْها أيامَ عثمانَ ، وبعدَ أنْ يستتبَّ له الأمرُ وتقوى شوكتُه يقتصُّ منهمْ واحداً واحداً ، وهيَ النصيحةُ التي قدمَها له المغيرةُ  وغيرُه فرفضَها ( عليه السلام ُ) ؟!!

الجوابُ : لقد كانَ ( عليه السلامُ ) يعلمُ  بما بلّغَه بهِ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلّمَ ) ، وبما منّ اللهُ عليهِ من معرفةِ بالأمورِ المستقبليّةِ بأنّه سيقاتلُ الناكثينَ والقاسطينَ والمارقينَ ،وأنّ معاويةَ سيستوليْ على الحكمِ منْ بعدِه ، وهوَ ما قالَه صريحاً : ( أمَا إنّه سيظهرُ عليكمْ بعديْ رجلٌ رحْبُ البلعومِ مندحقُ  البطنِ  يأكلُ ما يجدُ ويطلبُ ما لا يجدُ . فاقتلُوه ولنْ تَقتلوه  . ألا وإنّه سيأمرُكم بسبّي والبراءةِ منّي . فأمّا السبُّ فسُبّونيْ؛ فإنّه لي زكاةٌ ولكمْ نجاةٌ . وأمّا البراءةُ فلا تتبرّؤوا منّي فإنّي وُلدتُ على الفطرةِ ، وسَبقتُ إلى الإيمانِ والهجرةِ) . [ نهجُ البلاغةِ 1: 106 ] ، ولهذا لم تكنْ عمليةُ المداهنةِ معَ هؤلاءِ أو معَ معاويةَ وإبقائه في الحكمِ ثُمّ عزلِه أمراً ناجحا ًومفيداً ، فلم يكنْ أمامَه ( عليه السلامُ ) إلا الموقفُ الحازمُ الذي يُبقي روحَ المعارضةِ والمناهضةِ ضدَّ هؤلاءِ مستمرةً ودائمةً حتى بعدَ وفاتِه كيْ لا يتمكنَ هؤلاءِ من تنفيذِ خططِهم في هدمِ الإسلامِ والقضاءِ عليه ِ، وبالفعلِ فقدْ كانَ للخطِّ المعارضِ والقويِّ الذي انتهجَه  ( عليهِ السلامُ ) ضدّ معاويةَ أبلغُ الأثرِ في خروجِ الحسينِ ( عليه السلامُ ) بعدَ ذلكَ على  يزيدَ ، فكانتْ تلكَ الثورةُ العظيمةُ التي صحّحتِ المسارَ كثيراً، وأبقتْ جذوةَ الحقِّ مشتعلةً في قلوبِ المؤمنينَ ، والتي تلتْها  الثوراتُ العديدةُ  ضدَّ الأمويينَ  حتى أسقطتْهم .

فهذا هو سرُّ الحزمِ - الذي يسمّيه البعضُ على جهلٍ منه بالمثاليّةِ - من عليٍّ ( عليه السلامُ ) أيامَ حكمِه ، وذلكَ حتى يحفظَ للإسلامِ جذوتَه وثورتَه ضدَّ كلِّ تياراتِ الفسادِ والانحرافِ التي كادتْ تأتيْ على الإسلامِ وأهلِه لولا هذا التأسيسُ العظيمُ لموقفِ المقاومةِ والممانعةِ من قِبَله ( عليه السلامُ ) !

بينما نجدُ في الجانبِ الآخرِ الرخاءَ والنعيمَ الكبيرَ الذيْ عاشَه المسلمونَ أيامَ حكمِه ( عليهِ السلامُ )، فقدْ نقلَ لنا التأريخُ بأنّ الناسَ في عهدِ أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلامُ) عاشُوا الرخاءَ بأروعِ صورِه بحيثُ لم يوجدْ فقيرٌ واحدٌ في دولتِه، ولمْ يوجدْ شخصٌ بلا مسكنٍ  يُؤويه ، فقدْ نُقلَ عنه (عليهِ السلامُ) أّنه قالَ :

" ولعلّ في الحجازِ أو اليمامةِ مَن لا عهْدِ لهُ بالشِّبَع أو لا طمعَ له بالقُرصِ "

فهذا الكلامُ منهُ ينفي وجودَ الفقراءِ في الكوفةِ - التي يقطنُها أربعةُ ملايينَ حسبَ إحصاآتِ المؤرّخينَ  - ، ويشكِّكُ في وجودِ الفقرِ في البلادِ البعيدةِ عنهُ ، الأمرُ الذي يكشفُ عن مدى الرخاءِ الذي عاشَه الناسُ في زمانِه (عليهِ السلامُ) .

وهوَ ما نقلَه أحمدُ في فضائلِه وابنُ أبي شيبةَ في مصنَّفِه  ، أنّه (عليهِ السلامُ) قالَ : " ما أصبحَ بالكوفةِ أحدٌ إلا ناعماً ، وأنّ أدناهمْ منزلةً مَن يأكلُ البُرَّ ويجلسُ في الظلِّ ويشربُ مِن ماءِ الفراتِ " .

فهذهِ هيَ حالُ الرخاءِ التيْ عاشَها الناسُ في زمانِه - وهمْ يُعدّون َبالملايينِ - لا تجدُ فيهمْ فقيراً واحداً، وقولُه ( عليهِ السلامُ ) : " ما أصبحَ  بالكوفةِ أحدٌ إلا  ناعماً " صريحٌ فيْهذا المعنى .

 أما الحريّاتُ السياسيةُ والتعبيرُ عن الرأيِ فحدِّثْ ولا حرجَ ، فالتعبيرُ عن الرأيِ متاحٌ للجميعِ بأروعِ ما يكونُ، بشرطِ أنْ لا يؤذيَ الآخرينَ ولا يتجاوزَ على حقوقِهم ، فلمْ يكنْ يمنعُ الخوارجَ - وهمْ معارضوهُ - منْ بيتِ المالِ، وكانَ يعطيْهم عطاءَهم.

فدولةٌ لا فقيرَ فيها ، والرخاءُ يعمُّ أطرافَها ، والحريّاتُ السياسيةُ مكفولةٌ فيها ، أيُّ دولةٍ عظيمةٍ هذهِ ، وهلْ توجدُ مثلُها في تاريخِنا المعاصرِ فضلاً عن تاريخِنا الغابرِ.

وهذا كلُّه تحقّقَ في غضونِ أربعِ سنواتٍ فقط ْوأشهُرٍ ، هيَ مدةُ حكمِه (عليهِ السلامُ) ، فما بالُك لوْ كانَ الأمرُ بيدِه (عليهِ السلامُ) بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلِه وسلَّمَ) مباشرةً واستمرّ إلى ثلاثينَ عاماً ، أيْ إلى يومِ وفاتِه (عليهِ السلامُ) ولم ينغِّصْ عليهِ معاويةُ وأمثالُه إدارةَ بلادِ الإسلامِ ؟

هل لكَ أنْ تتصورَ الرخاءَ والسعادةَ والاستقرارَ الذي يمكنُ أنْ ينعمَ به المسلمونَ والبشرُ بوجودِ مثلِ هذا القائدِ والإمام الذي يحكمهم ؟!

ومنْ هُنا تعرفُ السرَّ الذي جعلَ الأممَ المتحدةَ تعلنُ في 2002 أنّ الإمامَ عليَّ بنَ أبي طالبٍ (عليهِ السّلامُ) هو أعدلُ حاكمٍ في تأريخِ البشريّةِ !!

ودُمتُمْ سالمينَ.