تَوضيحُ عِبارةٍ للسَّيِّدِ الخُوئيِّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) حولَ شرطيَّةِ الحُبِّ الشَّديدِ فِي مَرجعِ التَّقليدِ.
حسن النجار: مَركزُ الرَّصدِ العقائديِّ السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبركاتُه هَلْ مَقولَةُ لَا يُشترطُ بمرجعِ التَّقلِيدِ أنْ يَكونَ شديدَ الحُبِّ لآلِ البَيتِ عليهِمُ السَّلام؟ القائلُ السَّيِّدُ الخُوئيُّ أعلَى اللهُ مقامَهُ. ومَا هوَ تَفسيرُ هَذا الكلام؟ دُمتُم سالِمين.
الأخُ حسنٌ المُحترمُ، السَّلامُ عليكُم ورَحمةُ اللهِ وبركاتُه
هَذا الكلامُ مِنَ السَّيِّدِ الخُوئيِّ (قُدِّسَ سِرُّهُ الشَّريف) جَاءَ فِي كِتابِ "التَّقليدِ" مِنْ مَوسوعتِهِ الكُبرَى، عِندَ التَّعرُّضِ إلَى بَيانِ شرطِ "الإيمانِ" فِي مَرجعِ التَّقليدِ وإستعرَاضِ جُملةٍ مِنَ الرِّواياتِ الدَّالَّةِ عَلى ذلكَ ، حَيثُ قَالَ مَا نَصُّهُ:
(ومِنهَا: رِوايتَا عليٍّ بنِ سُوَيدٍ وأحمدَ بنِ حاتمٍ بنِ ماهويه فقَدْ وَردَ فِي أوَّلهِمَا: «كَتبَ إليَّ أبو الحسنِ (عليهِ السَّلامُ) وهوَ فِي السِّجنِ: لا تَأخذنَّ مَعالمَ دينِكَ عَنْ غيرِ شِيعتِنَا فإنَّكَ إنْ تعدَّيتَهُم أخذتَ دينَكَ عنِ الخَائنينَ...» وفِي ثانيتِهِمَا جَوابَاً عَمَّا كَتبَهُ أحمدُ بنُ
وذَلكَ للنَهيِّ فِي الرِّوايةِ الأُولَى عنِ الرُّجوعِ إلى غيرِ الشِّيعةِ، والأمرُ فِي الثَّانيةِ بالإعتمادِ عَلى المُسنِّ فِي حبِّهِم وكثيرِ القِدَمِ في أمرِهِم (عليهِمُ السَّلام).
ويَدفعُهُ: أنَّ الرِّوايتينِ ضَعيفتا السَّنَدِ، فإنَّ فِي سندِ أولاهُمَا محمَّدٌ بنُ إسماعيلَ الرَّازيِّ وَعليٌ بنُ حبيبٍ المَدائنيِّ وكِلاهُمَا لَمْ يُوثَّقْ فِي الرِّجالِ، كَما أنَّ فِي سَندِ الثَّانيةِ جُملَةٌ منَ الضِّعافِ مِنهُمْ أحمدُ بنُ حاتِمَ بنِ ماهويه.
مُضافَاً إلى أنَّ الظَّاهرَ أنَّ النَّهيَ فِي الرِّوايةِ الأُولَى عنِ الأخذِ مِنْ غَيرِ الشِّيعةِ إنَّمَا هوَ مِنْ جِهةِ عدمِ الوُثُوقِ والاِطمئنَانِ بِهِم لأنَّهُمْ خَونَةٌ حيثُ خَانُوا اللهَ ورَسولَهُ (صَلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وَسَلَّم) وخَانُوا أمانَاتِهِمْ كَما فِي الرِّوايَةِ، وأينَ هَذا مِمَّا هوَ مَحلُّ الكلامِ، لأنَّ البَحثَ إنَّمَا هوَ فِي جوازِ الرُّجوعِ إلى مَنْ كانَ واجِداً لجميعِ الشَّرائطِ وتَصدَّى لإستِنباطِ الأحكامِ عَنْ أدلَّتِها عَلى التَّرتيبِ المُقرَّرِ عندنَا ولَمْ يَكُنْ فِيهِ أيُّ نقصٍ غيرَ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ شِيعيَّاً ومُعتقِدَاً بالأئِمَّةِ (عليهِمُ السَّلام).
وأمَّا الرِّوايَةُ الثَّانيةُ فَهيَ غَيرُ مَعمُولٍ بِهَا قَطعَاً، للجَزمِ بأنَّ مَنْ يُرجَعُ إليهِ فِي الأحكامِ الشَّرعيّةِ لَا يُشترطُ أنْ يَكونَ شديدَ الحُبِّ لَهُمْ أو يَكونَ مِمَّنْ لهُ ثَباتٌ تَامٌّ فِي أمرِهِم (عليهِمُ السَّلام) فَإنَّ غَايةَ مَا هُناكَ أنْ يُعتبَرَ فِيهِ الإيمانُ عَلى الوَجهِ المُتعارَفِ بينَ المُؤمنينَ، إذَنْ لَا بُدَّ مِنْ حَملِها عَلى بيانِ أفضلِ الأفرادِ عَلى تقديرِ تَماميَّتِها بِحسبِ السَّندِ). إنتهى [كتابُ التَّقليدِ 1: 182].
وكَلامُهُ (قُدِّسَ سِرُّهُ) مِنَ النَّاحيةِ العِلميَّةِ تَامُّ؛ إِذْ لَمْ يَثبُتْ بدليلٍ صَحيحٍ وَنَصٍّ مُعتبَرٍ شَرطيَّةَ الحُبِّ الشَّديدِ للأئِمَّةِ عليهِمُ السَّلامُ فِي مَرجِعِ التَّقليدِ، بَلِ المُستفادُ مِنَ الاِرتِكازِ المُتَشرِّعِيِّ هُوَ أنْ يَكونَ مَرجعُ التَّقليدِ مُؤمِنَاً بإمامتِهِم، مُعتقِدَاً بوِلايَتِهِم، وآخِذَاً دِينَهُ عَنهُم، أمَّا شَرطيَّةُ الحُبِّ الشَّديدِ فَلمْ تَثبُتْ بِنصٍّ صَحيحٍ، ويَبقَى ذِكرُهَا فِي الرِّوايَةِ المُتقدِّمَةِ الضَّعيفَةِ السَّندِ المُرادُ مِنهُ هُوَ بَيانُ أفضلِ الأفرادِ، كَمَا لَو جَاءنَا نَصٌّ يَقولُ: أكرِمِ الفُقراءَ، ثُمَّ جَاءنَا نَصٌّ آخرٌ يَقولُ: أكرِمِ الفُقراءَ المُؤمنينَ، فَهُنَا النَّصُّ الثَّانِي لا يُخالفُ الأوَّلَ بَل يَبقَى إكرامُ الفُقراءِ قائِمٌ عَلى حالِهِ فِي النَّصِّ الأوَّلِ وَيُحمَلُ النَّصُّ الثَّانِي عَلى بَيانِ أفضَلِ الأفرَادِ، أيْ بِمعنَى: لكَ أنْ تُكرمَ الفُقراءَ ولكنَّ الأفضلَ هوَ إكرامُ المُؤمنينَ مِنهُم وتَقديمُهُم عَلى غَيرِهِم، وكذلِكَ المَقامُ، فالمُستفادُ مِنْ مَجموعِ النُّصوصِ والإرتكازِ المُتشرِّعيِّ هوَ كِفايةُ الإيمانِ [أيْ يَكونَ إماميَّاً اثنَي عشريَّاً] فِي مَرجعِ التَّقليدِ دونَ شرطيَّةِ الحُبِّ الشَّديدِ، وتَبقى بَقيَّةُ الفَضائلِ هيَ فِي محلِّ التَّفاضُلِ عِندَ تَساوي المُجتهدينَ فِي الأعلميَّةِ وبَقيَّةِ الشَّرائطِ.
معَ مُلاحظةٍ نُبديهَا هُنا حَولَ كلامِ السَّيِّدِ الخُوئيِّ (قُدِّسَ سِرُّهُ) فِي هَذا المقامِ، فقَدْ وجَدنَا مَنْ يُشنِّعُ فِي المَواقِعِ ويَقولُ بأنَّ السَّيِّدَ الخُوئيَّ لَا يَشترطُ الإيمانَ فِي مَرجعِ التَّقليدِ، مُستندينَ فِي ذلكَ إلى بَعضِ عِباراتِهِ الَّتِي صِيغَتْ بِطريقةٍ صِناعيَّةٍ فقهيَّةٍ وفَهمُوا مِنها شَيئاً هوَ ليسَ مُراداً للسَّيِّدِ الخُوئيِّ (قُدِّسَ سِرُّهُ)، حيثُ جاءَ فِي كِتابِ "التَّقليدِ" المُتقدِّمِ هذهِ العِبارةُ:
(لَمْ يَدلَّنَا دليلٌ لفظيٌّ معتبرٌ على شَرطيَّةِ الإيمانِ ولا بالإسلامِ. بَلْ مُقتضَى إطلاقِ الأدلّةِ والسِّيرةِ العُقلائيَّةِ عَدمُ الإعتبارِ لأنَّ حُجيَّةَ الفَتوى فِي الأدلَّةِ اللَّفظيَّةِ غيرُ مُقيّدةٍ بالإيمانِ ولا بالإسلامِ كمَا أنَّ السِّيرةَ جاريةٌ على الرُّجوعِ إلى العالِمِ مُطلقاً سَواءٌ أكانَ واجِدَاً للإيمانِ والإسلامِ أمْ لَمْ يَكُنْ وهَذا يُتراءَى مِنْ سيرتِهِم بِوضُوحٍ لأنَّهُم يُرَاجعونَ الأطبَّاءَ والمُهندسينَ أو غيرَهُم مِن أهلِ الخِبرةِ والاطِّلاعِ ولو مَعَ العِلمِ بِكُفرهِم). [المَصدرُ السَّابقُ : 183].
والنَّاقلونَ لهذهِ العِبارةِ مِن كلماتِهِ (قُدِّسَ سِرُّهُ) مَارسُوا التَّدليسَ فِي نَقلِهِم فقَامُوا بقَطعِ كلامِهِ الَّذي يَأتِي مُباشَرةً بَعدَ هَذهِ العِبارةِ وهَذا نَصُّهُ: (ومعَ هَذا كُلِّهِ لَا يَنبغِي التَّردُّدُ فِي إعتبارِ الإيمانِ فِي المُقلَّدِ [بفتحِ اللّامِ أيْ مَرجعَ التَّقليدِ] حُدُوثَاً وبَقاءاً كَما يَأتِي وَجهُهُ عَنْ قريبٍ فانتظِرهُ). إنتهى.
فلِمَاذَا لَم يَنقلُوا عِبارَتَهُ هَذهِ الثَّانيةَ واكتفُوا باقتطاعِ عبارتِهِ الأولَى والتَّهريجِ عليهَا فِي المَواقِعِ؟!!
وإذَا رَاجعنَا نَفسَ الكِتابِ الَّذي وَردَتْ فِيهِ العِبارةُ المُتقدِّمَةُ وجدنَاهُ بَعدَ صفحةٍ واحدةٍ فقطْ يَقولُ (قُدِّسَ سِرُّهُ): (أنَّ مُقتضَى دقيقِ النَّظرِ إعتِبارُ العَقلِ والإيمانِ والعدالةِ فِي المُقلَّدِ بِحسبِ الحُدوثِ والبَقاءِ. والوَجهُ فيِ ذلكَ أنَّ المُرتكزَ فِي أذهانِ المُتشرِّعَةِ الوَاصلَ ذلكَ إليهِم يَداً بيدٍ عَدمُ رِضى الشَّارعِ بِزعامةِ مَن لا عَقلَ لَهُ، أو لا إيمانَ أو لَا عَدالةَ لَهُ. بلْ لَا يَرضَى بِزعامةِ كُلِّ مَن لَهُ مَنقصةٌ مُسقِطَةٌ لهُ عنِ المَكانَةِ والوَقارِ، لأنَّ المَرجعيَّةَ فِي التَّقليدِ مِنْ أعظمِ المَناصِبِ الإلهيَّةِ بعدَ الوِلايةِ، وكَيفَ يَرضَى الشَّارعُ الحَكيمُ أنْ يَتصدَّى لمِثلهَا مَن لَا قِيمةَ لهُ لدَى العُقلاءِ والشِّيعَةِ المُراجِعينَ إليهِ؟ وهَلْ يُحتمَلُ أنْ يُرجِعَهُم إلى رَجلٍ يَرقصُ فِي المقاهِي والأسواقِ أو يَضرِبُ بالطَّنبورِ فِي المَجامِعِ والمَعاهدِ ويَرتكبُ مَا يرتكبُهُ مِنَ الأفعالِ المُنكرَةِ والقَبائِحِ؟ أو مَنْ لا يَتديَّنُ بدينِ الأئمَّةِ الكِرامِ ويَذهبُ إلَى مَذاهبَ باطلَةٍ عندَ الشِّيعةِ المُراجعِينَ إليهِ؟!
فَإنَّ المُستفادَ مِنْ مَذاقِ الشَّرعِ الأنوَرِ عَدمُ رِضَى الشَّارعِ بإمامَةِ مَنْ هُوَ كذلكَ فِي الجَماعَةِ، حَيثُ إشترطَ فِي إمامِ الجَماعةِ العَدالةَ فَمَا ظَنُّكَ بالزَّعامةِ العُظمَى الَّتِي هِيَ مِنْ أعظَمِ المَنَاصِبِ بعدَ الوِلايَةِ؟
إذَنْ فاحتمالُ جُوازِ الرُّجوعِ إلى غَيرِ العاقِلِ أو غيرِ العادِلِ مَقطوعُ العدمِ، فالعقلُ، والإيمانُ، والعَدَالةُ مُعتبرٌ فِي المُقلَّدِ [بفتحِ اللامِ أي مَرجعَ التَّقليدِ] حُدوثَاً، كَما أنَّهَا مُعتبرةٌ فِيهِ بِحسبِ البَقاءِ لِعينِ مَا قدَّمنَاهُ فِي إعتبارِهَا حُدوثَاً). إنتهى. [كِتابُ التَّقليدِ : 185].
فَهُنَا كلامُهُ (قُدِّسَ سِرُّهُ) صَريحٌ جِدَّاً بشرطيَّةِ الإيمانِ بمُقتضَى الاِرتكازِ المُتشرِّعيِّ، الَّذِي هُوَ أحدُ أدلَّةِ الاِستنباطِ لَدى الفُقهاءِ، ولكِنَّ الجَاهلينَ فِي غَيِّهِم يَعمَهُونَ!!
ودُمتُم سَالِمين.
اترك تعليق