هل اية النفر ( فَلَوْلا نَفَرَ منْ كلّ فرْقَة منْهمْ طَائفَةٌ ليَتَفَقَّهوا في الدّين...) تدل على بطلان تقليد الفقهاء؟
يذكر بعض منكري التقليد أن آية النفر: { فَلَوْلا نَفَرَ منْ كلّ فرْقَة منْهمْ طَائفَةٌ ليَتَفَقَّهوا في الدّين وَلينْذروا قَوْمَهمْ إذَا رَجَعوا إلَيْهمْ لَعَلَّهمْ يَحْذَرونَ} لا تخصّ التقليد أساساً، مستشهداً ببعض كلمات العلماء كالسيد الخميني والسيد الفيروزآبادي وغيرهما، ويرتب عليها بطلان تقليد الفقهاء.
السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاته،
لقد جرَت سيرةُ الشيعةِ مِن زمانِ المعصومينَ (عليهم السّلام) إلى يومنا هذا على الالتزامِ برجوعِ الشيعةِ إلى الفقهاءِ في أخذِ الأحكامِ الشرعيّة، لا أنّهم يجتهدونَ بكلِّ مسألةٍ، وهذه السيرةُ واضحةٌ جدّاً، ويُنبّهُ عليها: وجودُ الكتبِ الفقهيّةِ والفتوائيّةِ وأجوبةِ المسائلِ لفُقهائِنا منذُ زمنِ المعصومينَ (عليهم السلام) ليومِنا هذا، والرواياتُ الدالّةُ على أمرِ الأئمّةِ (عليهم السلام) الفقهاءَ مِن أصحابِهم بالإفتاءِ، وأمرِهم (عليهم السلام) الشيعةَ بالرجوعِ للفقهاء بل هذه سيرةُ المذاهبِ الإسلاميّة، بل الأديانِ أيضاً، فإنّ عامّةَ النّاسِ عندَهم لا يجتهدونَ في فهمِ أحكامِ شرعِهم وتكاليفِهم بل يرجعونَ للمُتخصّصينَ عندَهم وأهلِ العلم منهم.
بل جرَت سيرةُ العقلاءِ على رجوعِ غيرِ المُتخصّصينَ لأهلِ الاختصاصِ، فإنَّ كافّةَ العقلاءِ بكلِّ أصقاعِ الدّنيا في الأزمنةِ المُختلفةِ نراهم يرجعونَ في غيرِ تخصّصِهم لأهلِ التخصّصِ، فإذا ابتُليَ الإنسانُ بمرضٍ ما فإنّهُ بطبيعةِ الحالِ يرجعُ إلى العارفِ المُختصِّ ـ وهوَ الطبيبُ ـ لمُعالجةِ مرضِه، وكذا يُرجعُ لأهلِ الاختصاصِ في كلِّ حقلٍ منَ الحقول، فالاعتمادُ على خبراتِ الآخرينَ أمرٌ بديهيٌّ في الحياةِ الإنسانيّة.
فإذا كانَت شرعيّةُ التقليدِ بهذهِ الدرجةِ منَ الوضوح، بحيثُ نجدُها قضيّةً ارتكازيّةً وجدانيّة لدى الإماميّةِ والمُسلمينَ والأديانِ والعُقلاء، فلا مجالَ للتعتعةِ والتشكيكِ، فما هيَ إلّا شبهاتٌ قبالَ البديهيّاتِ والواضحات. وما يقولهُ البعضُ مِن بطلانِ التقليدِ وعدمِ مشروعيّتِه فإنّما ينكرُه بلسانِه وقلبِه مُطمئنّاً بشرعيّتِه وعملهُ مبنيٌّ عليهِ إفتاءً واستفتاءً.
ثمّ إنّ (آيةَ النفر) ـ وهيَ قولُ اللهِ تباركَ وتعالى: {وَمَا كَانَ المُؤمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً فَلَولَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرقَةٍ مِنهُم طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَومَهُم إِذَا رَجَعُوا إِلَيهِم لَعَلَّهُم يَحذَرُونَ}[التوبة: 122] ـ قد عدّها جملةٌ منَ الأعلامِ (رضوانُ اللهِ عليهم) ضمنَ الأدلّةِ التي يستفادُ منها مشروعيّةُ التقليد.. وقد وقعَ كلامٌ عندَهم في تماميّةِ دلالتِها، وإن كانوا مُتّفقينَ ومُتسالمينَ على مشروعيّةِ التقليدِ لوجودِ الأدلةِ الأخرى، وقد أشرنا لبعضِها في مطاوي كلامِنا المُتقدّم ـ أعني: السّيرةَ المُتشرعيّة، والرواياتُ في أمرِ الأئمّة (عليهم السلام) فقهاءَ أصحابِهم بالإفتاءِ، والرواياتُ في إرجاعِهم (عليهم السلام) الشيعةَ للفقهاء، والسيرةُ العقلائيّة المُمضاة ـ، فسواءٌ تمّت دلالةُ هذهِ الآيةِ أو لا فإنّ ذلكَ لا يضرُّ بأصلِ مشروعيّةِ التقليد؛ لأنَّ الأدلّةَ الأخرى تامّةٌ ووافية.
وبهذا يظهرُ وجهُ النظرِ في مناقشةِ البعضِ ـ ممّن ينكرُ التقليدَ ـ في دليلٍ واحدٍ من آيةٍ أو روايةٍ ونحوِها، فيرتّبُ عليها إنكارَ مشروعيّةِ التقليد، وكأنّ مُستندَ المشروعيّةِ مُنحصرٌ بتلكَ الآيةِ أو الرّوايةِ، وهذهِ غفلةٌ واضحةٌ، خصوصاً أنّ ذاكَ الدليلَ محلُّ جدلٍ وخلافٍ بينَ الأعلامِ في أنّها تدخلُ سلكَ الأدلّةِ أو لا، فالعلماءُ مُلتفتونَ إلى مواضعِ التأمّلِ فيها ومظانِّ المؤاخذةِ عليها.
وتجدرُ الإشارةُ إلى أنّ آيةَ النفرِ يمكنُ صياغةُ وجهِ الاستدلالِ بها على نحوٍ يُستفادُ منها إمضاءُ السّيرةِ العُقلائيّة ـ التي أشرنا لها ـ، وذلكَ بما أفادَه السيّدُ الحكيم (قدّسَ سرّه) في [الكافي في أصولِ الفقه ج2 ص649]: مِن أنّ التفقّهَ في الدينِ هوَ تعلّمُه، ومنهُ تعلّمُ أحكامِه العمليّة وأخذِها عن أدلّتِها، وظاهرُ الإنذارِ هوَ الإنذارُ بما تفقهوا فيه، فيدخلُ فيه بيانُ الأحكامِ الإلزاميّةِ المُستتبعةِ للعقابِ والفتوى بها، وحيثُ كانَ ظاهرُ جعلِ الحذرِ غايةً للإنذارِ مطلوبيّتُه تبعاً له كانَ ظاهراً في حُجّيّةِ الفتوى بالأحكامِ الإلزاميّة، وتشملُ الأحكامُ غيرُ الإلزاميّةِ بعدمِ القولِ بالفصل، بل بفهمِ عدمِ الخصوصيّةِ للإلزاميّات؛ بسببِ ظهورِ الآيةِ في كونِ ترتّبِ الحذرِ على الإنذارِ طبيعيّاً، وذلكَ بلحاظِ سيرةِ العقلاءِ التي لا يُفرَّقُ فيها بينَ الأحكامِ الإلزاميّةِ وغيرِها، وبذلكَ تكونُ الآيةُ ظاهرةً في إمضاءِ السيرةِ المذكورة، انتهى ما أفادَه (طابَ ثراه).
ويتبيّنُ مِن ذلك: أنّ آيةَ النفرِ ـ بهذا التقريبِ ـ يمكنُ جعلُها منَ الأمورِ التي يستكشفُ بها الإمضاءُ الشرعي لِما عليهِ السّيرةُ العقلائيّة منَ الرجوعِ لأهلِ العلمِ والتخصّص، كما تُدفعُ بها جملةٌ مِن مناقشاتِ الأعلامِ لمدلولِ الآيةِ، وتفصيلُ الكلامِ يُطلبُ مِن مظانّه.
الحاصلُ: الأدلّةُ على مشروعيّةِ التقليدِ ورجوعِ العامّي للفقيهِ لأخذِ الأحكامِ الشرعيّة مُتعدّدةٌ، مِن جُملتِها: الرواياتُ، والسّيرةُ المُتشرعيّة، والسّيرةُ العُقلائيّة..
وقد استفادَ بعضُ الأعلامِ مِن (آيةِ النفر) أنّها تدلُّ على مشروعيّةِ التقليدِ أيضاً، وحصلَ خلافٌ بينَهم في وجهِ دلالتِها مع تسالمِهم على مشروعيّتِها لتماميّةِ الأدلّةِ الأخرى، فسواءٌ تمّت دلالة الآيةِ أو لا فهوَ غيرُ ضارٍّ أصلاً كما هوَ واضحٌ.
والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
اترك تعليق