رد عثمان عمه الحكم طريد رسول الله (ص)

السؤال: هل يمكن اعتبار عذر عثمان في إعادته عمّه الحكم بن أبي العاص، - الذي كان مطرودًا من قبل النبيّ (صلى الله عليه وآله) - مبرَّرًا؟

: السيد أبو اَلحسن علي الموسوي

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

اعلم –أيدك الله- أنَّ الحكم بن أبي العاص عمَّ عثمان بن عفان بن أبي العاص كان أحد جيران النبيّ بمكة، وهو من أشدِّ أعدائه من مشركي قريش، ورأس المنافقين في الإسلام، وهو من المبالغين في إيذائه في الجاهليَّة والإسلام، مما دفع النبيّ لطرده من المدينة، فانتقل إلى الطائف، وبقي منفياً طوال حياة النبيّ وأبي بكر وعمر، حتى أعاده ابن أخيه عثمان بن عفان عندما وَلِيَ الخلافة.

روى البلاذريُّ: (أنَّ الحكم بن أبي العاص بن أميَّة عمَّ عثمان بن عفان بن أبي العاص بن أميَّة كان جاراً لرسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) في الجاهليَّة، ‌وكان ‌أشدَّ ‌جيرانه ‌أذىً ‌له ‌في ‌الإسلام، وكان قدومه المدينة بعد فتح مكة، وكان مغموصاً عليه في دينه، فكان يمرُّ خلف رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم(، فيغمز به ويحكيه، ويخلج بأنفه وفمه، وإذا صلى قام خلفه فأشار بأصابعه، فبقي على تخليجه، وأصابته خبلة، واطَّلع على رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) ذات يومٍ وهو في بعض حجر نسائه، فعرفه، وخرج إليه بعنزة.

وقال (صلى الله عليه [وآله] وسلم): «من عذيري من هذا الوزغة اللعين»؟ ثم قال: «لا يساكنني ولا ولده»، فغرَّبهم جميعاً إلى الطائف، فلما قُبض رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) كلَّم عثمان أبا بكر فيهم، وسأله ردَّهم، فأبى ذلك وقال: ما كنتُ لآوي طريد رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم). ثمَّ لما استخلف عمر كلَّمه فيهم، فقال مثل قول أبي بكر. فلما استخلف عثمان أدخلهم المدينة) [أنساب الأشراف ج5 ص514].

وقال ابن الأثير: (وقد روى في لعنه ونفيه أحاديث كثيرة، لا حاجة إلى ذكرها، إلَّا أنَّ الأمر المقطوع به أنَّ النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) - مع حلمه وإِغضائه على ما يكره - ما فعل به ذلك إلَّا لأمٍر عظيمٍ، ولم يزل منفيّاً حياة النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، فلمَّا ولي أبو بكر الخلافة، قيل له في الحكم ليردَّه إلى المدينة، فقال: ما كنتُ لأِحلَّ عقدةً عقدها رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، وكذلك عمر، فلمَّا ولِيَ عثمان الخلافة ردَّه) [أسد الغابة ج1 ص514].

ولـمّا كان إرجاعه عمّه الحكم بن أبي العاص سبباً لنقمة الصحابة عليه، حاول عثمان أنْ يبرّر صنيعه هذا بأنَّه وصل رحماً، فقال عثمان: «ما ينقم الناس مني؟ ‌إنّي ‌وصلتُ ‌رحماً وقرّبتُ قرابة»؟ [العقد الفريد ج5 ص55].

ولـمّا لم يتقبّل الناس عذره زعم: «أنَّه كلَّم رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيه وسأله ردَّه، فوعده أنْ يأذن له، فقُبض قبل ذلك» [ينظر: أنساب الأشراف ج5 ص514، الرياض النضرة ج2 ص142، مرآة الجنان ج1 ص85، السيرة الحلبية ج2 ص86، أسد الغابة ج1 ص514].

أقول: وفي كلا التبريرين نظرٌ واضح:

أمّـا تبريره بأنّه كلّم النبيّ فيه وسأله ردّه، فوعده أنْ يأذن له، فيلاحظ بشأنه:

أوّلاً: هذا النصّ الذي نقله عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) مشكوك الصدور؛ وذلك لأنّه تفرَّد بنقله عن سائر الصحابة، ولأنّه لَـم يذكره لـمّا كلَّم أبا بكر وسأله ردّ عمّه، فأبى ذلك وعنّفه تعنيفاً قويّاً، وكذلك لـمّا كلّم عمر بن الخطّاب فإنّه وبّخه وعنّفه، فإنّه لَـم ينقل في زمان النبيّ ولا أبي بكر ولا عمر أنّ النبيّ أطمعه في الإذن، ولـمّا كان زمان خلافته أرجعه وبرّر فعلته بأنّه وصل قرابته، وأضاف لذلك قائلاً: «قد كنتُ كلَّمتُ رسول الله فيه، وسألته ردّه، فوعدني أنْ يأذن له، فقُبض قبل ذلك»؛ ولهذا نجد الشريف المرتضى يقول: (وما رأينا عثمان قال - في جواب هذا التعنيف والتوبيخ من أبي بكر وعمر -: إنّ عندي عهداً من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيه لا أستحقّ معه عتاباً ولا تهجيناً) [الشافي في الإمامة ج4 ص267].

ولَـو فُرض أنّه ذكر ذلك لأبي بكر وعمر، ولَـم يقبلا منه، ولا عبئا بنقله، بل عنّفاه أشدّ التعنيف، فهذا يعني أنّهما كانا يريانه غير موثوقٍ ولا مأمونٍ في النقل عن النبيّ. بل إنّ المسلمين في زمان خلافته لَـم يقنعوا بنقله ولا وثقوا به؛ ولهذا كان ردّه الحكم أحد أسباب نقمتهم عليه.

وثانياً: لَـو سلّمنا صدور النصّ المنقول من النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله)، فنقول: هذا النصّ لا يدلّ على الإذن والرضا القلبي؛ وذلك لأنّه نقل عن النبيّ قائلاً: «فوعدني أنْ يأذن له»، وفي نقلٍ آخر: «فأطمعني في أنْ يأذن له»، وهذا يعني أنّ النبيّ أطمعه في الإذن لا أنّه إذن له فعلاً، وفرقٌ شاسعٌ بينهما، ومن الواضح أنّه لو أطمعتَ شخصاً أن تعطيه مالاً فإنّه لا يصير مالكاً للمال ولا مستحقّاً له. وأمّـا إطماع النبيّ له ووعده له فوجهه أنّ من سجيّة النبيّ وخُلقه الرفيع أنْ لا يردّ سائلاً ولا يرفض طلباً، فلـمّا سأله عثمان ردّ عمّه الحكم استحيى النبيّ من الرفض فقال كلاماً أطمعه في الإذن، فلَـم يأذن فعلاً.

وأمّـا التبرير بأنّه قرّب قرابة، فيبدو أنّه العلّة الحقيقيّة، ويلاحظ بشأنّه: أنّه آوى عدوّاً لله ولرسوله، وقد لعنه النبيّ (صلى الله عليه وآله)، فبدل أنْ يعاديه عثمان ويتبرّأ منه، خالف أمر النبيّ في نفيه وآواه وقرّبه! ولا يصحّ أن يُعمَل بالنصوص العامّة التي تحضّ على الإحسان إلى القربى بالنسبة للشخص الملعون على وجه الخصوص، والمطرود على وجه التعيين.

قال الله تعالى: {قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ المُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].

وورد في الصحيحين عن النبيّ (صلى الله عليه وآله): «لا يؤمن أحدُكم حتّى ‌أكون ‌أحبّ ‌إليه ‌من ولده ووالده والناس أجمعين» [صحيح البخاريّ ج1 ص9، صحيح مسلم ج1 ص67]، وورد في صحيح البخاريّ: «فو الذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدُكم حتّى أكون أحبّ إليه من والده وولده» [صحيح البخاري ج1 ص9].

وقوله (صلى الله عليه وآله) «فو الذي نفسي بيده» قسمٌ بالله تعالى بأنّه لا يكون العبد مؤمناً حتى يكون النبيّ «أحبّ إليه» ومقدّماً لديه، وعنوان ذلك الطاعة والاقتداء وترك المخالفة؛ ومنه يتّضح: أنَّ الحكمَ أحبّ إلى عثمان من رسول الله حيثُ آثر عدو الله ورسوله وقدَّمه وبالغ في اكرامه على محبَّة رسول الله (صلى الله عليه وآله).

ثـمّ يلاحظ أنّه مع مخالفته أمر رسول الله وسيرة أبي بكر وعمر، فإنّه لم يكتفِ بذلك، بل أعطى الحكم مئة ألف درهم، وجعل مروان من بطانته وخاصته، و ولَّاه زمام المسلمين، ووهبه قدراً هائلاً من الأموال، وقَّدمه على وجوه الصحابة، إلى غير ذلك.

وقد روى البلاذريُّ بسنده عن ابن عبّاس قال: «كان ممّا أنكروا على عثمان أنّه ولَّى الحكم بن أبي العاص صدقات قضاعة فبلغت ثلاثمائة ألف درهمٍ فوهبها له حين أتاه بها» [أنساب الأشراف ج5 ص512].

قال الشريف المرتضى: (وكيف تطيب نفس مسلمٍ موقرٍ لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) معظِّم له، بأن يأتي إلى عدوٍ لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، مصرّحٍ بعداوته والوقيعة فيه، حتى بلغ به الأمر إلى أن كان يحكي مشيته، فطرده رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأبعده ولعنه، حتى صار مشهوراً بأنَّه طريد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فيؤويه ويكرمه ويردّه إلى حيث أخرج منه، ويصله بالمال العظيم، ويصله إما من مال المسلمين، أو من ماله، إن هذا لعظيمٌ كبيرٌ، قبل التصفح والتأمّل، والتعلُّل بالتأويل الباطل» [الشافي في الإمامة ج4 ص267].

نكتفي بهذا القدر، والحمد لله أولاً وآخرا