برهان الأفول على نفي الربوبية

السؤال: كيف استطاع إِبراهيم أن يستدل من غروب الشمس والقمر والكواكب على عدم ربوبيَّتها؟

: الشيخ أحمد الكعبي

الجواب:

استدل نبي الله إبراهيم (عليه السلام) على عدم ربوبيَّة الكواكب والقمر والشمس من خلال تغيرها وأفولها – أي غروبها واختفائها -، مما يدل على أنَّها مخلوقاتٌ غير مستقلةٍ بذاتها وضعيفة، فلا يمكن أنْ تكون إلهًا مستحقًا للعبادة.

وهذا الاستدلال جاء في قوله تعالى: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَٰذَا رَبِّي هَٰذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } [الأنعام: 76ـ78]، حيث ذكر الله قصته مع قومه الذين كانوا يعبدون الأجرام السماويَّة، مستدلاً بما يأتي:

١ـ الغياب ينافي الربوبيَّة:

الإله هو المدبّر الحاضر أبدًا، لا يغيب عن خلقه ولا ينقطع عن تدبير أمورهم. الشمس تغيب نصف اليوم، وتُحجب أحيانًا بالسحب والعواصف. كيف يعبد الإنسان إلهًا لا يكون معه دائمًا؟ كيف يعبد الإنسان كائنًا يظهر ويختفي؟ الربُّ الحق لا يختفي عن عباده لحظةً واحدة.

٢ـ الخضوع للقوانين دليل العجز:

الشمس تسير وفق نظامٍ صارمٍ لا تستطيع تغييره. تخضع لقانون الجاذبيَّة، تدور حول نفسها، تتحرك في مدارٍ محددٍ، ومن يخضع لقانون لا يكون خالقًا، بل مخلوقًا مقيدًا، ولا يكون حاكماً، بل محكوماً والإله هو واضع القوانين، وليس عبدًا لها؛ فهل يمكن لإلهٍ حقيقيٍّ أنْ يكون مقيدًا بحركةٍ ثابتةٍ لا يستطيع الخروج عنها؟ ولو كانت الشمس إلهًا، لما احتاجت إلى قانون يسيرها.

٣ـ الحركة تعني الحدوث، والحدوث يعني الخلق:

كلُّ متحركٍ مخلوق؛ لأنَّ الحركة تعني التغير، والتغير يعني أنَّ الشيء لم يكن ثم صار. والشمس تتحرك بلا توقف، إذن هي ليست أزليَّة، بل حادثة، والأزليُّ لا يحتاج إلى قوةٍ خارجيَّةٍ تدفعه، بينما الشمس لا تتحرك من ذاتها، بل تدفعها قوىً أخرى. لو كانت الشمس خالقةً؛ لكانت ثابتةً في وجودها، لا تتبدل ولا تتحرك، لكن الواقع يثبت أنها تتحرك مثل كلِّ شيءٍ محدود، إذن ليست إلهًا.

فإذا رأيت آلةً تدور، هل تعتقد أنها تدور بذاتها أم أنَّ هناك من صنعها؟ الشمس ليست إلا ترسًا في آلة الكون الكبرى، مسيَّرةً لا مخيَّرة، محتاجةً لا غنية. هل يليق بالإله أنْ يكون تابعًا لقوانين غيره؟ هل يقبل العقل أن يكون المدبَّر هو المدبِّر؟

الإله الحق لا تديره قوة، بل هو الذي يدير كلَّ شيء. لا يسيره قانونٌ، بل هو الذي يضع القوانين، لا يحتاج إلى نظام، بل هو الذي ينظم الكون، الشمس عظيمة، لكنها مخلوقة، والمخلوق لا يكون خالقًا.

هكذا اراد نبيُّ الله ابراهيم (عليه السلام)، أنْ يعلِّم قومه ف استعمال عقولهم لأجل أنْ يصلوا لوحدانيَّة الله تعالى ونفي الشريك عنه.

قال الشيخ مكارم الشيرازيُّ: (يمكن أنْ يكون هذا الاستدلال من طرق ثلاثة:

1 ـ إِنّ الله المربي، كما يستفاد من كلمة «رب» لابدّ أنْ يكون دائماً قريباً من مخلوقاته وأنْ لا ينفصل عنهم لحظةً واحدةً، وعليه لا يجوز لكائنٍ يغرب ويختفي ساعاتٍ طويلةً، بنوره وبركته وتنقطع صلته كلياً عن الكائنات الأُخرى، أن يكون ربّاً وإِلهاً.

2 ـ إِنّ كائناً يغرب ويبزغ ويخضع للقوانين الطبيعيَّة، لا يمكن أنْ يحكم على هذه القوانين ويملكها، إنّه هو نفسه مخلوقٌ ضعيفٌ يخضع لأوامرها وغير قادرٍ على أدنى انحراف عنها...

3 ـ إِنّ الكائن المتحرك لا يمكن إِلاّ يكون كائناً حادثاً، فقد أثبتت الفلسفة أنّ الحركة دليلٌ على الحدوث، لأنّ الحركة ذاتها نوعٌ من الوجود الحادث، وأن َّما يكون في معرض الحوادث، أي يكون ذا حركةٍ، لا يمكن أنْ يكون كائناً أزلياً وأبدياً) [تفسير الامثل ج4 ص353].

وهذا المعنى مذكورٌ في رواية ابن الجهم قال: «حضرتُ مجلس المأمون - وعنده الرضا (عليه ‌السلام) - فقال له المأمون: يا بن رسول الله، أليس من قولك إنَّ الأنبياء معصومون؟ قال : بلى. قال: فسأله عن آياتٍ من القرآن فيه، فكان فيما سأله أنْ قال له: فأخبرني عن قول الله عز وجل في إبراهيم : {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي}.

فقال الرضا (عليه ‌السلام): إنَّ إبراهيم وقع إلى ثلاثة أصناف : صنفٍ يعبد الزهرة، وصنفٍ يعبد القمر، وصنفٍ يعبد الشمس ـ وذلك حين خرج من السرب الذي أخفي فيه فلما جنَّ عليه الليل رأى الزهرة قال : {هذا رَبِّي} على الإنكار والاستخبار ـ فلما أفل الكوكب قال : {لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ}؛لأنَّ الأفول من صفات المحدث لا من صفات القديم ـ فلما رأى القمر بازغا قال : {هذا رَبِّي} على الإنكار والاستخبار فلما أفل قال : {لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّ لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ}، فلما أصبح رأى الشمس بازغة قال : {هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ} من الزهرة والقمر ـ على الإنكار والاستخبار لا على الإخبار والإقرار ـ فلما أفلت قال للأصناف الثلاثة ـ من عبدة الزهرة والقمر والشمس : {يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}. وإنما أراد إبراهيم بما قال أنْ يبيّن لهم بطلان دينهم، ويثبت عندهم أنَّ العبادة لا يحق لما كان بصفة الزهرة والقمر والشمس، وإنما يحق العبادة لخالقها وخالق السماوات والأرض، وكان ما احتج به على قومه مما ألهمه الله عز وجل وآتاه كما قال عز وجل : {وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ}. فقال المأمون : لله درُّك يا بن رسول الله». [عيون أخبار الرضا ج2 ص175].

والحمد لله ربّ العالمين.