تفسير القرآن بلغة العصر

بعضُ العلمانيّينَ يعملُ على تفسيرِ القرآنِ بما يتوافقُ معَ الثقافةِ العصريّة، وبمعنىً آخر يعملُ على علمنةِ الإسلام، ولهذا ستتغيّرُ الأحكامُ القرآنيّةُ بتغيّرِ الزمانِ والمكان، ومثالُ ذلكَ ما قالَه نصر حامد أبو زيد بأنَّ الرّبا كانَ قديماً يقومُ به المُرابونَ بطريقةٍ بدائيّة، أمّا الآنَ فما يُسمّى بالرّبا او الفائدةِ وما تقومُ به المصارفُ هيَ عمليّاتٌ حديثةٌ علميّةٌ ممّا يجعلُها تختلفُ عن الرّبا في الجاهليّة.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجوابُ:

يبدو أنَّ تكييفَ الإسلامِ بالشكلِ العلمانيّ أو الليبراليّ وإخضاعَه لِما تقتضيهِ الحضارةُ الحديثةُ لا يتمُّ إلّا مِن خلالِ النسبيّةِ والتشكيكِ في الحقيقة.

ولذا حرصَ هذا الاتّجاهُ على ضربِ كلِّ الثوابتِ التي يمكنُ أن تُشكّلَ عائقاً أمامَ مشروعِهم العلمانيّ، فلم يعترفوا بوجودِ معانٍ وحقائقَ يحتفظُ بها النصُّ الديني، وإنّما جعلوا معاني القرآنِ تدورُ معَ الأفقِ الثقافيّ الذي يحملهُ المُفسّرُ أو المؤوّل!

ومِن هُنا لم يتوقّف مفهومُ التراثِ عندَهم عندَ حدودِ ما أنتجَته الأمّةُ مِن معانٍ ومفاهيم، وإنَّما تعدّى تجربةَ تفسيرِ النصِّ إلى النصِّ ذاتِه، حيثُ يغدو التراثُ المقصودُ هوَ الوحيُ سواءٌ أكانَ نصّاً قرآنيّاً، أو حديثاً نبويّاً. أو كما يقولُ علي حرب: «نتخطّى نقدَ التفاسيرِ والشروحاتِ إلى نقدِ الوحي نفسِه»

وفي المُحصّلةِ اعتبرَ هذا الاتّجاهُ النصَّ القرآنيّ نصّاً إنسانيّاً، الأمرُ الذي يجرّدُ القرآنَ مِن أيّ خصوصيّةٍ تُميّزُه عن أيّ نصٍّ آخر، وبالتالي لا يمكنُ الاعترافُ بالحقائقِ القرآنيّةِ المُعبّرةِ عن مُرادِ الله، فالنصُّ الذي يكونُ أجوفاً - مِن أيّ قصدٍ يريدُ اللهُ إيصالَه - لا يمتلكُ أيَّ قيمةٍ تُبرّرُ وجودَه منَ الأساس؛ فبهِ ومِن دونِه يمكنُ للإنسانِ أن يفكّرَ ولا يحتاجُ إلى نصٍّ ليُسقطَ عليهِ أفكارَه، فهناكَ فرقٌ بينَ التفسيرِ الذي يبحثُ عن معاني النصِّ وبينَ التفسيرِ الذي يوظّفُ النصَّ لخدمةِ أفكارِه وغاياته.

ومِن هُنا يجبُ استبعادُ هذا الاتّجاهِ عن المشروعِ الإسلاميّ؛ لأنّه لا يتحرّكُ في إطارِ الحقيقةِ الإسلاميّةِ التي جاءَ بها القرآن، وإنَّما يتحرّكُ في اتّجاهِ زعزعةِ تلكَ الحقيقةِ والقضاءِ عليها نهائيّاً، فأيُّ معنىً يبقى للإسلامِ عندَما نُجرّدُ القرآنَ مِن أيّ معانٍ مُسبقة؟

يقولُ عبدُ الكريم سروش مؤكّداً ذلك: «إذَن المعرفةُ الدينيّةُ جهدٌ إنسانيّ لفهمِ الشريعة، مضبوطٌ ومنهجيٌّ وجمعيّ ومُتحرّك، ودينُ كلِّ واحدٍ هوَ عينُ فهمِه للشريعة، أمّا الشريعةُ الخالصة، فلا وجودَ لها إلّا لدى الشارع».

فكيفَ تصبحُ المعرفةُ مُمكنةً، ومضبوطةً، ومنهجيّةً، وجمعيّةً، بحسبِ تعبيرِ سروش وفي نفسِ الوقتِ دينُ كلِّ إنسانٍ ما يفهمُه؟!

فالتأسيسُ لهذا التباينِ لا ينسجمُ معَ كونِ المعرفةِ مُنضبطةً ومنهجيّةً وجمعيّة. فإذا كانَ منَ المُستحيلِ تأسيسُ معرفةٍ موضوعيّة، وكانَ الإسلامُ حقيقةً غيرَ قابلةٍ للإدراكِ فحينَها كيفَ يختلفُ هذا القولُ عن القولِ بأنَّ ليسَ هناكَ إسلام؟

ومِن هُنا فإنَّ مشروعَ الحداثةِ الإسلاميّة في صورتِها العلمانيّةِ أو الليبراليّة لا يعدُّ مشروعاً ترميميّاً لِما هوَ موجود، وإنّما بناءً جديداً موازياً لكلِّ الصورِ المُمكنةِ للإسلام.

وبالتالي هوَ تمييعٌ للهويّةِ الإسلاميّة بجعلِها مُنفتحةً وسيّالةً وقابلةً لاحتضانِ كلِّ الثقافاتِ بما فيها مِن تبايناتٍ، الأمرُ الذي يكشفُ عن المدى الذي تسيطرُ فيه نزعةُ الحداثةِ على أصحابِ هذا الاتّجاه، تلكَ النزعةُ التي تستخفُّ بكلِّ مشروعٍ تجديديّ للفكرِ الإسلاميّ ينطلقُ منَ البحثِ عمّا يحملُه النصُّ مِن معانٍ أرادَ اللهُ إيصالَها إلى الإنسان.

وعليهِ: فنظريّةُ تعدّدِ القراءاتِ ليسَت مُجرّدَ نظريّةٍ حولَ آليّاتِ التفسيرِ والتأويلِ للنصِّ القرآنيّ وإنّما تؤسّسُ لخيارٍ معرفيّ يتجاوزُ كلَّ الثوابتِ التي تُشكّلُ هويّةَ الإسلامِ عقائديّاً وأخلاقيّاً وثقافيّاً.

والسببُ في ذلكَ ليسَ مُجرّدَ كونِها قراءةً مُنفتحةً للنصِّ فحسب، وإنّما أيضاً لكونِها تتبنّى أجندةً خاصّةً تعملُ على جعلِ المُنتجِ الغربيّ بديلاً عن تاريخِ وعقائدِ وثقافةِ المُسلمين.

فالدعوةُ لتعدّدِ القراءاتِ ليسَت دعوةً بريئةً تدفعُها الضرورةُ المنهجيّةُ والعلميّة، وإنّما تتحرّكُ تحتَ سقفِ الحداثةِ الغربيّةِ بوصفِها الصورةَ الكاملةَ للوعي الإنساني.

وعليهِ: فإنَّ الحداثةَ وتجديدَ الخطابِ الإسلاميّ وإن كانَت شعاراتٍ برّاقةً إلّا أنّها ليسَت موقوفةً على تبنّي منهجيّاتِ الفلسفةِ الغربيّة، فالتقليدُ وتكرارُ التجاربِ مِن دونِ مُراعاةِ فوارقِ البيئةِ والثقافةِ والقيمِ الأخلاقيّة يؤدّي إلى نتائجَ سلبيّة، فعقليّةُ المُنهزمِ عقليّةٌ غيرُ مُبدعة، بينَما عقليّةُ المُتحدّي هيَ التي تسخّرُ كلَّ الإمكاناتِ مِن أجلِ إحداثِ نهضةٍ ذاتِ مقوّماتٍ محليّة.

ومِن هُنا يجبُ الحذرُ مِن تداعياتِ هذهِ النظريّةِ حتّى لا ينخدعَ البعضُ بشعاراتِها البرّاقة.

وممّا لا شكَّ فيه أنَّ العقائدَ الإسلاميّة تشكّلُ البُنيةَ التحتيّةَ لكلِّ المشروعِ الإسلاميّ، فهيَ بمثابةِ العُمقِ المعرفيّ والقيميّ الذي ترتكزُ عليهِ جميعُ الأحكامِ والتشريعات، والتشكيكُ فيها أو العبثُ بمحتواها يؤدّي إلى اختلالِ كلِّ المنظومةِ المعرفيّةِ في الإسلام.

والتأكيدُ على ثوابتِ الدينِ وأساسيّاتِه لا يعني التنكّرَ على وجودِ مُتغيّراتٍ في المعرفةِ الإسلاميّة، وإنّما يعني التحكّمَ في المُتغيّراتِ بتلكَ الثوابت، فإشكاليّةُ المعرفةِ ليسَت في عدمِ اعترافِها بالصيرورةِ الاجتماعيّة، وإن كانَ عدمُ الاعترافِ بها جموداً وتخلّفاً ورجعيّةً، وإنّما الإشكاليّةُ الأخطرُ هوَ الإيمانُ بالصيرورةِ دونَ الإيمانِ بوجودِ قيمٍ كُبرى ناظمةٍ لها ومُتحكّمةٍ فيها، فالصيرورةُ مِن دونِ تلكَ القيمِ هيَ مُجرّدُ حركةٍ عبثيّةٍ لا تخلقُ إلّا فوضىً معرفيّة.

وإذا أخَذنا مثالَ الرّبا الذي أشارَ إليهِ السائل، فإنَّ التغيّرَ لا يمكنُ أن يصيبَ حقيقتَه وماهيّتَه مهمَا تبدّلَ الزّمن، فحقيقتُه ثابتةٌ ومصاديقُه هيَ المُتغيّرة، فإذا كانَت حقيقةُ الرّبا هيَ كلُّ زيادةٍ مشروطةٍ مُقدّماً على رأسِ المالِ في قبالِ النسيئةِ أو الدّينِ وحدِه، فإنَّ هذا المعنى لا يمكنُ العبثُ فيه أو تغييرُه، وإنّما يظلُّ هوَ المعنى المُميّزُ للرّبا في كلِّ المُعاملاتِ التجاريّة سواءٌ كانَت في سوقِ عُكاظ في الجاهليّة أو في وول استريت منهاتن.