هل يصح أن نسمي رجل الدين عالم؟

يقولُ البعض: لا يجوزُ أن نُطلقَ على رجلِ الدينِ صفةَ (عالم) لأنَّ كلَّ مَن ينطلقُ منَ الغيبيّاتِ أو الأديانِ ويبني على ذلكَ فهوَ رجلُ خُرافاتٍ لأنّه لا ينطلقُ منَ الحقائق، وهوَ بهذا لا يطبّقُ المنهجَ العلميَّ التجريبيّ المُتعارفَ عليهِ عندَ أهلِ العلمِ والاختصاص!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابةُ:

لمُناقشةِ هذهِ الفكرةِ التي تنفي صفةَ العالمِ عَن رجلِ الدينِ لابدَّ مِن مُناقشةِ المُبرّراتِ التي ارتكزَ عليها وهيَ كالتالي.

أوّلاً: المنهجُ العلميّ هوَ المنهجُ التجريبيّ فقط.

ثانياً: الإيمانُ بالأديانِ والغيبيّاتِ نوعٌ منَ الخُرافات.

معَ أنَّ هذهِ المُقدّماتِ واضحةُ البُطلانِ ولا يتبنّاها إلّا مَن كانَ له مشروعٌ مُعادٍ للأديان، ومعَ أنّنا فنّدنا هذهِ المُغالطاتِ في أجوبةٍ سابقةٍ، إلّا أنَّ صيغةَ الكلامِ هذهِ المرّةَ تستوجبُ مِنّا الإجابةَ بالشكلِ الذي يتناسبُ معَ هذا الأسلوب.

أوّلاً: لا يُطلقُ على رجلِ الدينِ عالمٌ، وإنّما يُطلقُ على العالمِ بالدّينِ رجلُ دين، بمعنى أنَّ هناكَ وصفاً بالعلمِ وهناكَ اصطلاحاً عُرفيّاً لمَن يصدُقُ عليهِ هذا الوصف.

فرجلُ الدينِ اصطلاحٌ عُرفي يُطلقُ على مَن ثبتَ في حقِّه العلم، وبذلكَ يكونُ اتّصافهُ بالعلمِ سابقاً على تسميتِه برجلِ الدين، أي: أنَّ العلمَ ثابتٌ في حقِّه سواءٌ سمّيناهُ رجلَ دين أو سمّيناهُ بأيّ اسمٍ آخر، وإن كانَ هناكَ اعتراضٌ يجبُ أن يكونَ على الاصطلاحِ العُرفي، فيُقالُ مثلاً: لماذا تُخصّصونَ صفةَ رجلِ الدينِ للعالمِ فقَط ولا تعمّمونها على جميعِ المُكلّفين، ولا يقالُ لمَن ثبتَ في حقِّه العلمُ بأنّه ليسَ بعالم، لأنَّ علمَه مُختصٌّ بالعلومِ الدينيّة.

ثانياً: هناكَ فرقٌ بينَ (العلمِ) و(المعلومةِ) و(العالم).

فالعلمُ: هوَ مُطلقُ الكشفِ والإدراك.

والمعلومةُ: هيَ مجموعُ الموضوعاتِ التي يتمُّ كشفُها وإدراكُها بالعلم.

والعالمُ: هوَ الذي يقومُ بعمليّةِ الكشفِ والإدراكِ لتلكَ الموضوعات.

وبذلكَ لا يصحُّ حصرُ العلمِ بالمعلومة، ولا يتمُّ حصرُ المعلومةِ بموضوعاتٍ مُحدّدة، ولا يتمُّ حصرُ العالمِ بمَن يدركُ موضوعاتٍ دونَ الأخرى.

فمتى تعلّقَ علمُ العالمِ بموضوعٍ وتمَّ كشفهُ وإدراكهُ سُمّيَ عالماً بذلكَ الموضوع.

بل حتّى المُتخصّصُ في دراسةِ الخُرافاتِ والأساطيرِ والسّحرِ يُطلقُ عليهِ عالمٌ في هذهِ المجالات.

ثالثاً: مِن حيثُ الدّور الوظيفيّ للعلمِ ليسَ هناكَ فرقٌ بينَ أن يكونَ الشخصُ عالماً في النفسِ أو الاجتماع، وبينَ أن يكونَ عالماً في الفيزياءِ أو الكيمياءِ أو غيرِ ذلك.

فالتباينُ بينَ هذهِ العلومِ ليسَ مِن جهةِ العلمِ وإنّما مِن جهةِ موضوعاتِها.

وتكتسبُ هذهِ العلومُ أهمّيّتَها مِن خلالِ أهدافِها وغاياتِها، فكلُّ علمٍ مِن هذهِ العلومِ يخدمُ حاجةً يرى العقلاءُ ضرورتَها، وممّا لا شكَّ فيه أنَّ الإنسانَ الذي يرى لوجودِه حِكمةً ولحياتِه غايةً لا يستغني عن العلومِ والمعارفِ الدينيّة.

رابعاً: عدمُ اهتمامِ البعضِ بعلمٍ منَ العلومِ أو حتّى عدمُ حُبِّه له لا يخرجُه عن كونِه علماً، فالمقياسُ في العلومِ ليسَ حبَّ البعضِ وكراهيةَ البعضِ الآخر، وإنّما المقياسُ قيامُ ذلكَ العلمِ على أسسٍ منهجيّةٍ وعلميّةٍ مُعترفٍ بها عندَ العُقلاء، فمَن لا يعتقدُ بالدّينِ ولا يرى له أهمّيّةً لا يمكنُه مُصادرةُ العلومِ الدينيّة طالما كانَت تلكَ العلومُ مُرتكزةً على منهجيّاتٍ علميّةً وتخدمُ أهدافاً واضحةً في نظرِ العُقلاء.

خامساً: التباينُ بينَ موضوعاتِ العلومِ يؤدّي إلى تباينٍ في المنهجيّاتِ المُستخدمةِ للكشفِ عن تلكَ الموضوعات.

فمثلاً:

منهجيّاتُ علمِ الزراعةِ تختلفُ عن منهجيّاتِ علمِ الهندسةِ المعماريّة.

وهذا الاختلافُ لا دخلَ له بأهميّةِ علمٍ على علمٍ آخر، فلا يقالُ علمُ الهندسةِ أفضلُ مِن علمِ التاريخِ لأنَّ منهجيّةَ الهندسةِ تستخدمُ الرياضيّاتَ ومنهجيّة التاريخِ لا تستخدمُه.

وكذلكَ لا يقالُ إنَّ العلومَ التطبيقيّةَ أفضلُ منَ العلومِ الإنسانيّة لأنَّ الأولى تعتمدُ على المُختبرِ والتجربة، والثانيةُ تعتمدُ على التحليلِ والاستنباطِ والاستقراءِ والاستدلالِ المَنطقي.

سادساً: الخرافةُ هيَ الفكرةُ التي لا تقومُ على سندٍ عقليٍّ ومنطقيّ، وإنّما نسجَت منَ الأوهامِ والتخيّلاتِ لسدِّ فراغٍ روحيٍّ أو ثقافيّ عندَ مُجتمعٍ منَ المُجتمعات.

فإذا اعتمَدنا هذا التعريفَ ثمَّ حاكَمنا على أساسِه الفكرةَ التي تؤمنُ بوجودِ إلهٍ لهذا الكون، والفكرةُ التي لا تعترفُ بوجودِه، لنرى أيَّ الفكرتينِ أقربُ للخُرافة، فهل الفكرةُ التي تقولُ إنَّ الكونَ لا يمكنُ أن يأتي إلى سطحِ الوجودِ مِن دونِ علّةٍ أوجدَته، هيَ التي تتّصفُ بالخُرافة؟ أم الفكرةُ التي تقولُ إنَّ الكونَ وُجدَ صدفةً ومِن غيرِ علّة، هيَ التي تتّصفُ بالخُرافة؟

أمّا قولهُ: (إنَّ كلَّ مَن ينطلقُ منَ الغيبيّاتِ أو الأديانِ ويبني على ذلكَ فهوَ رجلُ خُرافاتٍ) فذلكَ لا يعدُّ إلّا موقفاً شخصيّاً لا يرتكزُ على أيّ مُبرّراتٍ موضوعيّة، فالقولُ إنَّ الدينَ والإيمانَ باللهِ قضيّةٌ خرافيةٌ؛ لا يُعدُّ إشكالاً يستحقُّ النقاشَ ما لم تكُن هناكَ شواهدُ ومُبرّراتٌ تؤكّدُ هذا الادّعاء.

والعجيبُ أنَّ كلَّ الشواهدِ تؤكّدُ على أنَّ الإلحادَ ليسَ إلّا خرافةً، إذ كيفَ لا يكونُ خُرافةً وهوَ لا يمكنُ أن يُبرّرَ منشأ الفكرةِ أو الثقةَ فيها؟

فالنظرةُ الموغلةُ في المادّيّةِ تتعارضُ تماماً معَ وجودِ شيءٍ غيرِ مادّي.

وهُنا نكتفي بما قالَه المُفكّرُ الأيرلندي كليف لويس C. S.

Lewis: "لنفترِض أنّها مُجرّدُ ذرّاتٍ داخلَ جُمجمتي تُعطي ناتجاً ثانويّاً يُسمّى فكراً، إذا كانَ الأمرُ كذلكَ كيفَ أثقُ أنَّ تفكيري صحيحٌ؟ إنّه مثلَ إبريقِ الحليبِ الذي عندَما تخضُّه تأملُ أنَّ الطريقةَ التي تتناثرُ فيها بقعُ الحليبِ ستُعطيكَ ذاتَها خريطةً لمدينةِ لندن، ولكن إذا لم أستطِع أن أثقَ بتفكيري ولا أستطيعُ أن أثقَ في الحُججِ التي تؤدّي إلى الإلحادِ وبالتالي لا يوجدُ سببٌ لأكونَ مُلحداً أو أيَّ شيءٍ آخر، إلّا إذا كنتُ أؤمنُ بالله، لا أستطيعُ أن أؤمنَ في الفكر: بحيثُ لا يمكنُ أبدًا أن أستخدمَ الفكرَ لعدمِ الإيمانِ بالله."