الاستدلال على الرجعة

السؤال: ما هو الميعاد في قوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [القصص:85]؟ وهل يُمكن الاستدلال بالآية على الرجعة؟

: الشيخ نهاد الفياض

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

للجواب على سؤال الأخ الكريم ينبغي الكلام في جهتين اثنتين، الأولى: في بيان المعاد الوارد في الآية المباركة، والأُخرى: في علاقة المعاد في الآية بالرجعة مع تعزيزه بجملةٍ من الشواهد والقرائن الواردة في كتب العامَّة.

الجهة الأولى: في بيان معنى (المعاد) في الآية:

ذكر جملةٌ من المفسّرين أنّ شأن نزول الآية الكريمة: ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ هو فراق النبيِّ الأعظم (صلى الله عليه وآله) لوطنه مكَّة، فيُراد بـ(المعاد) هو مكّة المكرّمة.

إلّا أنّه من الواضح عدم إمكان الاقتصار على ذلك وتخصيص إطلاق لفظ (معاد) به؛ إذ إنّ سبب النزول لا يخصّص الآية، وكما يقولون: (المورد لا يخصِّص الوارد)، فإنّ شأن نزول الآية الكريمة وإنْ كانت فراق النبيّ (ص) وطنه مكَّة المكرَّمة، غير أنّه لا يصحّ تخصيص إطلاق الآية به، كما لا يُخصَّص غيرها من الآيات التي لها سببٌ خاصّ، كقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ التي نزلت في قضيّة الوليد بن عقبة المعروفة، فشأن نزول الآية خاصّ، ولكن الآية عامّة تشمل إخبار كلّ فاسق.

والمستفاد من كلمات المفسِّرين أنَّ قوله تعالى: ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ يحتمل عدَّة وجوه، منها: أنَّ المقصود من المعاد هو مكَّة المكرَّمة، ومنها: الموت، ومنها: يوم القيامة، ومنها: الجنَّة، ومنها: الرجعة، ومنها غير ذلك.

قال الطبرسيُّ (طاب ثراه) في تفسير قوله تعالى:﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، (أي: يردُّك إلى مكَّة، عن ابن عبَّاس، ومجاهد، والجبائيّ، وعلى هذا، فيكون في الآية دلالة على صحَّة النبوَّة، لأنَّه أخبر به من غير شرطٍ ولا استثناء، وجاء المخبَر مطابقاً للخبر. قال القتيبيُّ: معاد الرجل: بلده، لأنه يتصرَّف في البلاد، ثمَّ يعود إليه. وقيل: ﴿إِلَى مَعَادٍ﴾ إلى الموت، عن ابن عبَّاس في روايةٍ أُخرى، وعن أبي سعيد الخدري قيل: إلى المرجع يوم القيامة، أي: يعيدك بعد الموت كما بدأك، عن الحسن، والزهريّ، وعكرمة، وأبي مُسلم. وقيل: إلى الجنَّة، عن مجاهد، وأبي صالح. فالمعنى: إنه مميتك، وباعثك، ومدخلك الجنَّة. والظاهر يقتضي أنه العود إلى مكَّة، لأنَّ ظاهر العود يقتضي ابتداءً، ثمَّ عوداً إليه) [مجمع البيان في تفسير القرآن ج٧ ص٤٦٤].

الجهة الثانية: في علاقة المعاد في الآية بالرجعة:

المستفاد من بعض الأخبار الواردة من طرقنا معاشر الإماميَّة هو تأويل قوله تعالى: ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ بالرجعة، منها:

1ـ ما رواه شيخنا القمِّيُّ (طاب ثراه) عن أبيه، عن حماد، عن حريز، عن أبي جعفر (ع) قال: سُئل عن جابر، فقال: «رحم الله جابراً، بلغ من فقهه أنه كان يعرف تأويل هذه الآية ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، يعني الرجعة» [تفسير القمِّيّ ج2 ص147].

2ـ وما رواه (طاب ثراه) أيضاً بسنده عن أبي خالد الكابليّ، عن علي بن الحسين (ع) في قوله: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، قال: «يرجع إليكم نبيُّكم (ص)، وأمير المؤمنين (ع)، والأئمَّة (ع)» [تفسير القمِّي ج2 ص147].

3ـ وما رواه السيِّد شرف الدين (طاب ثراه) بسنده عن صالح بن ميثم، عن أبي جعفر (ع) قال: (قلت له: حدَّثني. قال: أوليس قد سمعته من أبيك؟ قلت: هلك أبي وأنا صبي. قال: قلت: فأقول فإنْ أصبتُ قلتَ: نعم، وإنْ أخطأتُ رددتني عن الخطأ؟ قال: ما أشد شرطك؟ قلت: فأقول: فأنْ أصبتُ سكت، وإنْ أخطأت رددتني عن الخطأ، قال: هذا أهون.

قال: قلتُ: فاني أزعم أنَّ علياً (ع) دابَّة الأرض، فسكت. فقال أبو جعفر (ع): أراك والله تقول: إنَّ علياً (ع) راجع إلينا، وقرأ:﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، قال: قلت: قد جعلتَها فيما أريدُ أنْ أسألك عنه فنسيتها. فقال أبو جعفر (ع): أفلا أخبرك بما هو أعظم من هذا...الحديث) [تأويل الآيات ج1 ص425].

شواهد وقرائن:

ثمَّ إنَّ هناك جملةً من الشواهد والقرائن من مصادر المخالفين التي تؤيّد تفسير الآية المباركة بالرجعة، نذكر بعضاً منها:

1ـ ورد في كتاب فيض القدير وغيره: (أنَّ عليَّ بن أبي طالب ذكر جابر بن عبد الله ووصفه بالعلم، فقال له رجل: جُعلت فداك، تصف جابراً بالعلم وأنت أنت؟! فقال: إنه كان يعرف تفسير قوله تعالى ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْءَانَ لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ [يُنظر: فيض القدير ج1 ص14]. ومن المعلوم أنَّ هذه الرواية تناسب ما روي عندنا من أنَّ جابراً بلغ من الفقه حدَّاً يعرف تفسير هذه الآية، وأنها في الرجعة.

2ـ إنَّ الملاحَظ في كلمات أبناء العامَّة أنَّهم نقلوا عن عبد الله بن عبَّاس أنَّه فسَّر الآية المذكورة بعدَّة تفسيرات، فقد نقلوا عنه تفسيرها بمكَّة، وأُخرى بالجنَّة، وثالثة بالموت، ورابعة بالقيامة، فجميع المعاني محكية عن ابن عبَّاس، ومع ذلك نقلوا عنه أنَّه كان يكتم تفسير هذه الآية! وهذا يضع علامة تعجُّبٍ واستفهامٍ على جميع هذه المعاني المذكورة للآية، إذ جميعها منقولةٌ عن ابن عبَّاس، ومع ذلك هناك تفسيرٌ قد أخفاه، مما يوحي إلى أنَّها ليست المعاني الحقيقية للآية، بل هناك معنىً آخر، ولعلَّ هذه المعاني تحوم حوله.

قال السيوطيُّ في تفسيره: (وأخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة...في قوله ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾، قال: هذه مما كان يكتم ابن عبَّاس) [الدر المنثور ج5 ص140]. فما هو يا ترى التفسير الذي كان يخفيه ابن عبَّاس غير هذه التفاسير المذكورة؟ فلاحظ وتأمَّل.

3ـ قال العقيليُّ -في ترجمة أبي مريم عبد الغفَّار بن القاسم الأنصاريّ-: (حدَّثنا زكريا بن يحيى وأحمد بن الحسين الصوفيُّ قالا: حدَّثنا الجرَّاح بن مخلَّد قال: حدَّثنا أبو داوود قال: حدَّثنا عبد الواحد بن زياد قال: سمعتُ أبا مريم يروي عن الحكم، عن مجاهد في قول الله (عزَّ وجلَّ) ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ قال: يردُّ محمَّد (ص) إلى الدنيا حتَّى يرى عمل أمته. قال عبد الواحد: فقلتُ له: كذبتَ ما حدَّثك بهذا الحكم، فقال: اتقِ الله تكذبني! قال أبو داوود: أنا أشهد أنَّ أبا مريم كذَّاب، لأني قد لقيته وسمعتُ منه، واسمه عبد الغفَّار بن القاسم) [الضعفاء ج3 ص100]. ولعلَّ اتهام الرجل بالكذب، لروايته ما يدلُّ على الرجعة كما هو المعروف في أوساط العامَّة.

ثمَّ إنَّ مجاهداً هذا ممن أخذ التفسير عن ابن عبَّاس، فقد ذكر الذهبيُّ في ترجمته ما نصُّه: (قال الأنصاريُّ: حدَّثنا الفضل بن ميمون: سمعتُ مجاهداً يقول: عرضتُ القرآن على ابن عبَّاس ثلاثين مرَّة. وروى ابن إسحاق، عن أبان بن صالح، عن مجاهد، قال: عرضتُ القرآن ثلاث عرضات على ابن عبَّاس، أقفه عند كلِّ آية، أسأله فيم نزلت، وكيف كانت) [سير أعلام النبلاء ج4 ص450].

4ـ ذكر بعضهم أنَّ المراد من الآية هو بيت المقدس، فقد قال ابن أبي حاتم: (حدَّثنا أبي، ثنا عمرو بن عثمان، ثنا أبي، ثنا حريز، عن نعيم القارئ سمعه يقول: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ﴾ قال: رادّك إلى بيت المقدس) [تفسير ابن أبي حاتم ج9 ص3026].

وظاهر تفسيرها ببيت المقدس يتلاءم مع الردِّ إلى الدنيا ـ وهو معنى الرجعة ـ إذ بيت المقدس في عالم الدنيا، فإرجاعه إليه يعني ردّه للدنيا حتَّى يرجع له النبيُّ مرَّة أُخرى. ويبدو أنَّ مثل ابن كثير قد تنبَّه لذلك فلجأ لتأويلها بالقيامة فقال: (وهذا ـ والله أعلم ـ يرجع إلى قول مَن فسَّر ذلك بيوم القيامة، لأنَّ بيت المقدس هو أرض المحشر والمنشر، والله الموفِّق للصواب) [تفسير ابن كثير ج3 ص414].

والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم: أنَّ قوله تعالى ﴿لَرَآدُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ وإنْ أُختلف في تفسيره عند أهل الفنّ كما سبق إلَّا أنَّه يُمكن القبول به كدليل على أحقيَّة (الرجعة) أيضاً.. والحمد لله ربِّ العالمين.