هل حديثُ الإمامِ عليّ (ع) في صفةِ خلقِ آدم (ع): (( ثمَّ جمعَ سبحانَه مِن حزنِ الأرضِ وسهلِها ... إلخ)، صحيح؟
السّلامُ عليكُم ورحمةُ الله،
اعلَم أخي السّائل أنّ مسألةَ تصحيحِ الأحاديثِ تختلفُ مِن مدرسةٍ إلى أخرى، وكذلكَ تختلفُ بحسبِ الموضوعِ المطروحِ، فعلى سبيلِ المثال: هناكَ مدرسةٌ منَ العلماءِ والفُقهاء يذهبونَ إلى أنّ صحّةَ الحديثِ متوقّفةٌ على العملِ به مِن قِبلِ أهلِ العلم، فإن وجدوا أهلَ العلمِ وخصوصاً المُتقدّمينَ منهم يعملونَ بحديثٍ ما، فيذهبونَ إلى تصحيحِه والعملِ به حتّى إن كانَ إسناده ضعيفاً، ومدرسةٌ أخرى تذهبُ إلى أنّ صحّةَ الحديثِ تتوقّفُ على وجودِه في أحدِ الكُتبِ الأربعةِ المُعتمدةِ لدى الطائفةِ المُحقّة، ومدرسةٌ أخرى تذهبُ إلى أنّ صحّةَ الحديثِ تتوقّفُ على أن يكونَ رواتُه منَ الثقاتِ المنصوصِ على وثاقتِهم مِن قبلِ أهلِ الجرحِ والتعديلِ، ومدرسةٌ أخرى تذهبُ إلى أنّ صحّةَ الحديثِ تتوقّفُ على وجودِ القرائنِ التي تحتفُّ به، فهذهِ مُجملُ المدارسِ وأشهرُها التي تعتمدُ أساساً مُعيّناً في صحّةِ الأحاديثِ المرويّةِ عن المعصومينَ عليهم السّلام، ثُمَّ إنّ هذهِ المدارسَ تُراعي جانبَ الموضوعِ المطروحِ للبحث، فإن كانَ الموضوعُ المطروحُ في مسألةِ الدماءِ والفروجِ والقصاصِ ونحوِ ذلكَ فإنّهم يتشدّدونَ في مسألةِ قبولِ الحديثِ لِـما للموضوعِ مِن تأثيرٍ بالغٍ وأهميّة، وفي نفسِ الوقتِ إن وجدوا الموضوعَ المطروحَ في الأدعيةِ والنوافلِ ونحوِهما فلا يتشدّدونَ في مسألةِ الإسنادِ، وكذلكَ فإنّ علماءَنا يراعوَن مسألةَ التخصّصِ في العلومِ إن وجدوا الحديثَ فيه حاجةٌ إلى مُتخصّصٍ في فنٍّ ما، كأن يكونَ في مسألةٍ طبّيّةِ أو علميّةٍ أو بلاغيّةٍ أو غيرِها منَ العلوم، فإذا عرفتَ ذلك، فما نحنُ فيه إنّما هوَ مِن هذا القبيل، إذ إنّ هذا الخبرَ مرويٌّ في كتابِ نهجِ البلاغةِ الذي جمعَه الشريفُ الرضيّ (قدّس) مِن كلامِ أميرِ المؤمنينَ عليهِ السّلام المبثوثِ في بطونِ الكتبِ المُختلفة كما حرّر في محلّه، ونحنُ إذا تأمّلنا هذا الكلامَ المرويّ في صفةِ خلقِ آدم (ع) بمعيارِ أهلِ العلمِ خصوصاً أهلِ البلاغةِ منهم ألفيناهُم لا ينكرونَه، وإنّما يقبلونَه ويعلّقونَ عليه ويشرحونَ مُفرداتِه وجُملَه بغيرِ نكيرٍ منهم لِـما وردَ فيه، وهذا يُعَـدُّ قرينةً على صحّةِ المرويّ عن بابِ مدينةِ علمِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله). فإذا تبيّنَ ما تقدّم، فتعالَ معي لنتأمَّل ما وردَ عَن أميرِ الفصاحةِ والبلاغةِ في صفةِ خلقِ آدم (ع)، إذ يقول: (ثمّ جمعَ سُبحانَه مِن حزنِ الأرضِ وسهلِها ، وعذبِها وسبخِها ، تربةً سنّها بالماءِ حتّى خلصَت . ولاطَها بالبلَّةِ حتّى لزبَت . فجبلَ منها صورةً ذاتَ أحناءٍ ووصول ، وأعضاءٍ وفصول : أجمدَها حتّى استمسكَت وأصلدَها حتّى صلصلَت لوقتٍ معدود ، وأمدٍ معلوم ، ثمّ نفخَ فيها مِن روحِه فمثلَت إنساناً ذا أذهانٍ يجيلها ، وفكرٍ يتصرّفُ بها ، وجوارحَ يختدمُها ، وأدواتٍ يقلَّبُها ، ومعرفةٍ يفرّقُ بها بينَ الحقِّ والباطل والأذواقِ والمشامّ ، والألوانِ والأجناس ، معجوناً بطينةِ الألوانِ المُختلفةِ ، والأشباهِ المؤتلفةِ ، والأضدادِ المُتعاديةِ والأخلاطِ المُتباينةِ ، منَ الحرِّ والبردِ ، والبلَّةِ والجمودِ ، واستأدى اللَّهُ سبحانَه الملائكةَ وديعتَه لديهم ، وعهدَ وصيّتَه إليهم ، في الإذعانِ بالسّجودِ له ، والخشوعِ لتكرمتِه ، فقالَ سبحانه : * ( ( اسجُدُوا لِآدَمَ ) ) * فسجدوا إلَّا إبليس اعترَتهُ الحميّةُ وغلبَت عليهِ الشّقوةُ ، وتعزّزَ بخلقِة النّار واستهونَ خلقَ الصّلصال ، فأعطاهُ اللَّهُ النّظرةَ استحقاقاً للسّخطةِ ، واستتماماً للبلَّيةِ ، وإنجازاً للعدة ، فقالَ * ( ( قالَ فَإِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ إِلى يَومِ الوَقتِ ..إلخ).
وهاهُنا نسأل: إذا لم يكُن هذا السبكُ في الألفاظِ والنظمِ فيها واختيارِ كلماتِها بهذا الشكلِ صادراً عن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) ، فيا ترى عمّن صدر؟؟. [ينظر مراجعُ البحث: اختيارُ مصباحِ السالكين، ابنُ ميثمَ البحراني، ص٧١، الطرازُ لأسرارِ البلاغة وعلومِ حقائقِ الإعجاز، ج ٢، يحيي بن حمزة العلوي اليمني، ص ١٣٧، ربيعُ الأبرارِ ونصوصُ الأخبار، ج ١، الزمخشريّ، بحارُ الأنوار، ج ٧٤، العلّامةُ المجلسي، ص ٣٠٤، تفسيرُ كنزِ الدقائق ج7/ص115)، وتفسيرُ نورِ الثقلين ج3/ص12)، وتفسيرُ الميزان ج17/ص126]. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق