حديثُ الرسولِ (ص): مَن حلفَ بغيرِ اللهِ فقَد كفر، ما مدى صحّةِ الحديث؟
السلامُ عليكُم ورحمةُ الله، حديثُ القسمِ بغيرِ اللهِ تعالى وردَ مِن طُرقِ العامّةِ ومِن طُرقِ الخاصّة، فمِنها ما وردَ في كتبِ العامّةِ بلفظ : « مَن حَلَفَ بِغَيرِ اللَّهِ فَقَد أَشرَكَ »، ومِنها ما وردَ مِن طُرقِ الخاصّةِ بلفظ: مَن حلفَ بغيرِ الله فليسَ منَ اللهِ في شيء، كما في الأمالي للشيخِ الصّدوق، ص ٥١٢، وغيرِ ذلكَ منَ الأحاديثِ التي تفيدُ عدمَ جوازِ الحلفِ بغيرِ الله، كما سترى ذلكَ في أثناءِ الجواب، فالحديثُ إجمالاً لا إشكالَ في صحّتِه، وإنّما موضعُ البحثِ يكمنُ في كيفيّةِ توجيهِ مثلِ هذهِ الأحاديثِ توجيهاً سليماً خصوصاً بعدَ ورودِ أحاديث بإزاءِ هذه الأحاديثِ عن النبيّ (ص) وعن أهلِ بيتِه الأطهارِ وعن بعضِ الصحابةِ صريحةً في جوازِ الحلفِ بغيرِ الله. فإذَن: هاهُنا طائفتانِ منَ الأحاديث، إحداهُما تفيدُ عدمَ جوازِ الحلفِ بغير الله، والأخرى تفيدُ جوازَ الحلفِ بغيرِ الله، فأمّا الطائفةُ الأولى، فمِنها: « مَن حَلَفَ بِغَيرِ اللَّهِ فَقَد أَشرَكَ »، ومِنها مَن حلفَ بغيرِ الله فليسَ منَ اللهِ في شيء، ومِنها: « إنّ عُمرَ بنَ الخطّابِ أقسمَ يوماً بأبيه، فقالَ له النبيُّ الأكرمُ صلّى اللهُ عليه وآله :« إِنَّ اللَّهَ يَنهاكُم أَن تَحلِفُوا بِآبائِكُم، فمَن كانَ حالفاً، فليحلِف بالله، أو ليصمُت. وغيرِها منَ الرواياتِ التي هيَ على هذا المنوال. والطائفةُ الأخرى منَ الأحاديثِ التي هيَ بإزاءِ الطائفةِ الأولى هي: ما نقلَه البيهقيُّ وغيرُه منَ الحديث أنّه قالَ : جاءَ شخصٌ إلى النبيّ الأكرمِ صلّى اللهُ عليهِ وآله فقالَ: عُلّمنا معارفَ الإسلامِ وأصوله ، فشرحَ لهُ النبيُّ الأكرمُ صلّى اللهُ عليهِ وآله فقالَ الأعرابيُّ : أذهبُ وأعمل بهذهِ الأصول . فقالَ رسولُ اللَّهِ صلّى اللهُ عليهِ وآله :«أَفلَحَ وَأَبيهِ ، إِن صَدَقَ دَخَلَ الجَنَّةَ ». ومنها ما جاءَ عن أميرِ المؤمنينَ (ع) كما في خُطبةِ نهجِ البلاغةِ (56) التي يخاطبُ فيها أتباعَه المهزوزينَ وعديمي الوفاء، بقولِه لهم: « وَلَعَمري لَو كُنَّا نَأتي ما أَتَيتُم ما قامَ لِلدِّينِ عَمُودٌ وَلا اخضَرَّ لِلايمانِ عُود » . وكذلكَ ما وردَ عن أبي بكرٍ أنّه كانَ يحلفُ بغيرِ الله طِبقاً لِما يرويهِ إمامُ المذهبِ المالكي في موطّئِه : أنَّ رجلاً مِن أهلِ اليمنِ أقطعَ اليدِ والرجل قدمَ فنزلَ على أبي بكرٍ فشكا إليهِ أنَّ عاملَ اليمنِ قد ظلمَه ، فكانَ يُصلّي منَ الليل ، فيقولُ أبو بكر : وأبيكَ ما ليلُكَ بليلٍ سارق. وغيرِ ذلكَ منَ الأخبار في هذا الصّدد. فإذَن: الطائفةُ الأولى منَ الرواياتِ تتعارضُ معَ الطائفةِ الأخرى، ولحلّ التعارضِ بينهما، فقد تمسّكَ علماءُ مدرسةِ أهلِ البيت بالطائفةِ التي تفيدُ جوازَ الحلفِ بغيرِ اللهِ تعالى، ووجّهوا الطائفةَ الأولى منَ الأحاديثِ الناهيةِ عن الحلفِ بغير الله تعالى، وذلكَ لأنّ الكتابَ العزيز الذي هوَ الأسوةُ للمسلمينَ عبرَ القرون قد وردَ فيه الحلفُ منَ اللهِ عزّ وجلّ بغيرِ ذاتِه كما في قولِه تعالى : وَالعَصرِ إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسر . وَالعادِياتِ ضَبحاً فَالمُورِياتِ قَدحاً فَالمُغِيراتِ صُبحاً وَالنَّازِعاتِ غَرقاً وَالنَّاشِطاتِ نَشطاً وَالسَّابِحاتِ سَبحاً فَالسَّابِقاتِ سَبقاً فَالمُدَبِّراتِ أَمراً. وَالمُرسَلاتِ عُرفاً، فَالعاصِفاتِ عَصفاً وَالنَّاشِراتِ نَشراً فَالفارِقاتِ فَرقاً فَالمُلقِياتِ ذِكراً . وَالذَّارِياتِ ذَرواً فَالحامِلاتِ وِقراً فَالجارِياتِ يُسراً فَالمُقَسِّماتِ أَمراً . وَ الصفات [ الصَّافَّاتِ ] صَفًّا فَالزَّاجِراتِ زَجراً فالملقيات [ فَالتَّالِياتِ ] ذِكراً . وَالتِّينِ وَالزَّيتُونِ وَطُورِ سِينِينَ وَهذَا البَلَدِ الأَمِينِ . وَالضُّحى وَاللَّيلِ إِذا سَجى . وَاللَّيلِ إِذا يَغشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى . وَالشَّمسِ وَضُحاها وَالقَمَرِ إِذا تَلاها وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها وَاللَّيلِ إِذا يَغشاها وَالسَّماءِ وَما بَناها وَالأَرضِ وَما طَحاها وَنَفسٍ وَما سَوَّاها . وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجعِ وَالأَرضِ ذاتِ الصَّدعِ . وَالسَّماءِ ذاتِ الحُبُكِ . وَالسَّماءِ ذاتِ البُرُوجِ وَاليَومِ المَوعُودِ وَشاهِدٍ وَمَشهُودٍ . وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ . وَالنَّجمِ إِذا هَوى). وغيرِها منَ الآياتِ التي أفادَت جوازَ الحلفِ بغيرِ اللهِ تعالى. فمِن هُنا وجّهَ علماءُ الإماميّةِ الأحاديثَ الناهيةَ عن الحلفِ بغيرِ اللهِ تعالى بعدّةِ توجيهاتٍ، مِنها: 1- تُحمَلُ الرواياتُ الناهيةُ عن القسمِ بغيرِ اللَّه على الكراهة، إلّا في مواردَ يكونُ الغرضُ مِنها التربيةُ والتعليم ، مِن قبيلِ قسمِ النبيّ الأكرمِ صلّى اللهُ عليهِ وآله وأميرِ المؤمنينَ عليٍّ عليه السلام ، « والذي تقدّمَ ذكره » ففي هذه الصورةِ ترتفعُ الكراهةُ منه.2 - أن يكونَ النهيُ عن الحلفِ بالآباءِ قد جاءَ لأنّهم كانوا - في الغالبِ - مُشركينَ وعبدةً للأوثانِ فلم يكُن لهم حُرمةٌ ولا كرامةٌ حتّى يحلفَ أحدٌ بهم، فلذلكَ نرى النبيَّ ( صلّى اللهُ عليهِ وآله وسلّم ) قد نهى عن هذا النوعِ منَ القسم، لأنّ منهُ تفوحُ رائحةُ الشركِ باللهِ تعالى.فتراهُ (صلّى اللهُ عليهِ وآله) يجعلُ آباءَهم قرناءَ معَ الطواغيتِ مرّةً ، ومعَ الأندادِ - أي الأصنام - مرّةً أخرى ، فقالَ : لا تحلفوا بآبائِكم ولا بالطواغيت. أو أنّه (ص) قالَ : لا تحلفوا بآبائِكم ولا بأمّهاتِكم ولا بالأنداد. 3- ومنها أن يكونَ النهيُ عن القسمِ بغيرِ اللهِ تعالى يستتبعُ بعضَ الحوادثِ والأمورِ السلبيّة، فعلى سبيلِ المثالِ كانَ مِن جُملةِ الأقسامِ المُتداولةِ بينَ الناسِ في صدرِ الإسلامِ وفي عصرِ الأئمّةِ المعصومينَ عليهم السّلام أيضاً ، القسمُ بالعتاقِ والطلاق، بمعنى أنّ الشخصَ عندَما يكونُ في معرضِ التُّهمةِ يقالُ له : أنّك لم ترتكِب العملَ الفُلاني ، فإذا كنتَ قد ارتكبتَه فإنّ جميعَ عبيدِك أحرارٌ، وزوجاتُك طالقٌ ، وكانَ العربُ في ذلكَ الزمانِ يلتزمونَ بمثلِ هذه الأقسامِ ، والظاهرُ أنّ أهلَ السنّةِ وإلى الآنَ يعتقدونَ بصحّةِ مثلِ هذا القسمِ ، وأمّا الشيعةِ فلا يقبلونَ هذا القسمَ لأنّهم يعتقدونَ بوجودِ صيغةٍ خاصّةٍ للعتقِ والطلاق ، فلا يتحرّرُ العبدُ بالقسمِ ولا يصحُّ تطليقُ الزوجةِ بالقسم. وعليهِ فالقسمُ المنهيُّ عنه في بعضِ الرواياتِ ناظرٌ أحياناً إلى مثلِ هذهِ الأقسام ، ويؤيّدُ ذلكَ ما ورد : عن صفوانَ الجمّال ، عن أبي عبدِ اللَّه الصادقِ عليه السلام أنّ المنصورَ قالَ له : رُفعَ إليَّ أنّ مولاكَ المُعلّى بن خنيس يدعو إليكَ ويجمعُ لكَ الأموال ، فقالَ : واللَّهِ ما كان . فقالَ المنصور : « لا أَرضى مِنكَ إِلّا بِالطَّلاقِ وَالعِتاقِ وَالهَدىِ وَالمَشيِ ، فَقالَ عليه السلام : أَبِالاندادِ مِن دُونِ اللَّهِ تَأمُرُني أَن أَحلِف ؟ ! إِنَّهُ مَن لَم يَرضَ بِاللَّهِ فَلَيسَ مِنَ اللَّهِ في شَيء». ومُجمَلُ القول: أنَّ الكتابَ العزيزَ الذي هوَ الأسوةُ للمُسلمينَ عبرَ القرونِ قد وردَ فيه الحلفُ منَ اللهِ عزّ وجلّ بغيرِ ذاتِه فإذا وردَ فيهِ الحلفُ منَ اللهِ سُبحانه بغيرِ ذاتِه سبحانَه منَ الجمادِ والنباتِ والإنسان، فيستكشفُ منهُ أنّهُ أمرٌ سائغٌ لا يمتُّ إلى الشركِ بصلة ، وتصوّرُ جوازِه للهِ سبحانَه دونَ غيرِه أمرٌ غيرُ معقول ، فإنّه لو كانَ حقيقةُ الحلفِ بغيرِ اللهِ شركاً فالخالقُ والمخلوقُ أمامَه سواء. ويترتّبُ على ذلكَ صحّةُ التوجيهِ الذي ذهبَ إليهِ علماؤنا لـمّا وجّهوا الأحاديثَ الناهيةَ عن الحلفِ بغيرِ الله. نعَم، ثبتَ بالدليلِ الشرعيّ أنّ الحلفَ بغيرِ الله لا يصحُّ في القضاءِ وفضِّ الخصوماتِ، بل لا بدَّ منَ الحلفِ باللهِ جلَّ جلالَه أو بإحدى صفاتِه التي هيَ رمزُ ذاتِه. [ينظرُ: مراجعُ البحثِ والجوابُ في كتابِ أعيانِ الشيعةِ للسيّدِ مُحسن الأمين العامليّ، (ص123- 125)، وكتابِ الأقسامِ القُرآنيّة، للشيخِ ناصِر مكارم الشيرازي، ص ٢٤، الأقسامُ في القرآنِ الكريم، للشيخِ السبحاني، ص ١4]. ودمتُم سالِمين.
اترك تعليق