ما هوَ دورُ اللهِ سبحانَه وتعالى بعدَ الآخرة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
منَ الواضحِ أنَّ السّؤالَ يرتكزُ على مُقدّمةٍ فاسدةٍ وعقيدةٍ باطلة؛ فالسّؤالُ لا يصحُّ إلّا إذا افترضنا أنَّ وجودَ الإنسانِ في الدنيا يشكّلُ دوراً للهِ تعالى ومن دونه يكونُ فاقداً لهذا الدور، وبمعنى آخر انَّ اللهَ مشغولٌ بالإنسانِ في عالمِ الدّنيا فبأيّ شيءٍ يكونُ مشغولاً بعدَ يومِ القيامة؟ وكلُّ ذلكَ لا يستقيمُ إلّا بمُقايسةِ اللهِ بالإنسان ووصفِه تعالى بما يتّصفُ به المخلوق، فبما أنَّ الإنسانَ لا يمكنُه العيشُ في الفراغِ ولابدَّ أن يتفاعلَ معَ الأشياءِ الأخرى، كذلكَ يكونُ الحالُ بالنّسبةِ للهِ تعالى، وهذا باطلٌ بالضّرورةِ لكونِ اللهِ هوَ الغنيُّ في ذاتِه وصفاتِه وأفعالِه، وبالتّالي غيرُ محتاجٍ إلى غيرِه فكلُّ ما سواهُ مفتقرٌ إليه، قالَ تعالى: (يا أيّها الناسُ أنتم الفقراءُ إلى اللهِ واللهُ هوَ الغنيُّ الحميد) ويبدو أنَّ الخلطَ الذي يحدثُ عندَ البعضِ ناتجٌ مِن عدمِ التفريقِ بينَ أن يكونَ الخلقُ قائماً باللهِ وبينَ أن يكونَ اللهُ قائماً بخلقِه، حيثُ يظنُّ البعضُ أنَّ مُجرّدَ قيامِ الخلقِ باللهِ يعني أنَّ اللهَ قائمٌ بخلقه، وذلكَ بحسبِ زعمِهم أنَّ اللهَ قبلَ الخلقِ ليسَ هو ذاتُه بعدَ الخلق، أي أنَّ الخلقَ يُحدثُ تغييراً في ذاتِ الله، وهذا اعتقادٌ باطلٌ وتصوّرٌ خاطئ قائمٌ كما أشرنا إلى التشبيهِ بينَ فعلِ الخالقِ وفعلِ المخلوق، فاللهُ هوَ المُتعالي عن كلِّ نقصٍ أو حاجةٍ أو تغييرٍ، ولا يبلغُ الإنسانُ تمامَ التوحيدِ إلّا بتنزيهِ اللهِ تعالى عَن كلِّ ما يجري على الخلق، وقد نفى أميرُ المؤمنينَ في بعضِ خُطبِه حدوثَ أيّ تغيّرٍ للهِ تعالى بخلقِه للخلق حيثُ يقول: (كَائِنٌ لَا عَن حَدَثٍ مَوجُودٌ لَا عَن عَدَمٍ مَعَ كُلِّ شَيءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ، فَاعِلٌ لَا بِمَعنَى الحَرَكَاتِ وَالآلَةِ، بَصِيرٌ إِذ لَا مَنظُورَ إِلَيهِ مِن خَلقِهِ، مُتَوَحِّدٌ إِذ لَا سَكَنَ يَستَأنِسُ بِهِ وَلَا يَستَوحِشُ لِفَقدِهِ، أَنشَأَ الخَلقَ إِنشَاءً، وَابتَدَأَهُ ابتِدَاءً بِلَا رَوِيَّةٍ أَجَالَهَا، وَلَا تَجرِبَةٍ استَفَادَهَا وَلَا حَرَكَةٍ أَحدَثَهَا وَلَا هَمَامَةِ نَفسٍ اضطَرَبَ فِيهَا، أَحَالَ الأَشيَاءَ لِأَوقَاتِهَا، وَلَاءَمَ بَينَ مُختَلِفَاتِهَا، وَغَرَّزَ غَرَائِزَهَا وَأَلزَمَهَا أَشبَاحَهَا، عَالِماً بِهَا قَبلَ ابتِدَائِهَا، مُحِيطاً بِحُدُودِهَا وَانتِهَائِهَا، عَارِفاً بِقَرَائِنِهَا وَأَحنَائِهَا) (الاحتجاجُ للطبرسي ج 1، ص 200) ويقولُ أيضاً: (دَلِيلُهُ آيَاتُهُ وَ وُجُودُهُ إِثبَاتُهُ، وَمَعرِفَتُهُ تَوحِيدُهُ، وَتَوحِيدُهُ تَميِيزُهُ مِن خَلقِهِ، وَحُكمُ التَّميِيزِ بَينُونَةُ صِفَةٍ لَا بَينُونَةُ عُزلَةٍ، إِنَّهُ رَبٌّ خَالِقٌ غَيرُ مَربُوبٍ مَخلُوقٍ كُلُّ مَا تُصُوِّرَ فَهُوَ بِخِلَافِهِ- ثُمَّ قَالَ فِي خُطبَةٍ أُخرَى: لَا يُشمَلُ بِحَدٍّ وَلَا يُحسَبُ بِعَدٍّ وَإِنَّمَا تَجِدُ الأَدَوَاتُ أَنفُسَهَا وَتُشِيرُ الآلَاتُ إِلَى نَظَائِرِهَا مَنَعَتهَا (مُنذُ)القِدمَةَ وَحَمَتهَا (قَدُ) الأَزَلِيَّةَ وَجَنَّبَتهَا (لَولَا) التَّكمِلَةَ بِهَا تَجَلَّى صَانِعُهَا لِلعُقُولِ- وَ بِهَا امتَنَعَ عَن نَظَرِ العُيُونِ لَا تَجرِي عَلَيهِ الحَرَكَةُ وَالسُّكُونُ وَكَيفَ يَجرِي عَلَيهِ مَا هُوَ أَجرَاهُ وَ يَعُودُ إِلَيهِ مَا هُوَ أَبدَاهُ وَ يَحدُثُ) (الاحتجاج ج1، ص 201)
وعليهِ فإنَّ أساسَ التوحيدِ هوَ تمييزُه عِن خلقِه، بحيثُ يكونُ بايناً عنهم بينونةً في الصفةِ لا في العُزلة، فلا شيءَ يجمعُ بينَ اللهِ وبينَ خلقه، فهوَ المُتفرّدُ في وحدانيّتِه، لا يشبهُه شيءٌ مِن خلقِه بأيّ وجهٍ منَ الوجوه، فهوَ ممتازٌ عن خلقِه وباينٌ عنهم بينونةً حقيقيّة في جميعِ شؤونِه، كما يقولُ الإمامُ الرّضا عليه السّلام: (مباينتُه إيّاهم مفارقتُه إنيّتَهم .. كنهُه تفريقُ بينه وبينَ خلقِه.. مباينٌ لا بمسافةٍ، فكلُّ ما في الخلقِ لا يوجدُ في خالقِه، وكلُّ ما يمكنُ فيه يمتنعُ عن صانعِه) (مسندُ الإمامِ الرّضا ج1 ص 41). وعن الإمامِ الصّادق عليهِ السّلام: (إنَّ اللهَ تباركَ وتعالى خلوٌّ مِن خَلقِه، وخَلقُه خلوٌّ منه) (توحيدُ الصّدوق ص 105)
وفي المُحصّلةِ إنَّ السّؤالَ خاطئٌ لكونِه يرتكزُ على مقدّمةٍ خاطئة، وهيَ المقايسةُ بينَ الخالقِ والمخلوق.
اترك تعليق