اثبتوا لي وجود الله باقوى ما عندكم من ادلة.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
صياغةُ السّؤال تكشفُ عن تصميمِه المُسبقِ للمُجادلةِ والجحودِ، فهوَ لا يسألُ عن أقوى الأدلّةِ لكي يقومَ بفهمِها ودراستِها وإنّما يريدُ بغرورِه أن يتحدّى تلكَ الأدلّة، وهذا التعنّتُ في عدمِ قبولِ الحقِّ أصبحَ ظاهرةً ملازمةً للمُلحدينَ الجُدد، حيثُ جعلوا مِن أنفسِهم معياراً في تحديدِ قوّةِ الدّليلِ وضعفِه، في حينِ أنَّ دلالةَ الدّليل لا علاقةَ لها بالانطباعاتِ الشخصيّةِ للأفرادِ، وإنّما هناكَ معاييرُ منهجيّةٌ لمعرفةِ سلامةِ الدّليل مِن سقمِه، مثلَ الارتباطِ المنطقيّ بينَ المقدّمةِ والنتيجةِ، فإذا كانَت المقدّمةُ صحيحةً وكانَت النتيجةُ مرتبطةً بها بشكلٍ ضرويٍّ ومنطقيّ يكونُ الدّليلُ صحيحاً وقويّاً سواءٌ قبلَ بهِ البعضُ أو رفضَه، فعندَما نقولُ مثلاً: (أنَّ كلَّ متغيّرٍ حادث، وكلَّ حادثٍ معلول، وكلَّ معلولٍ لابدَّ لهُ مِن علّةِ) يُعدُّ ذلكَ منَ الحقائقِ الثابتةِ التي يمكنُ الارتكازُ عليها وتطبيقها على الكونِ فنقولُ: (الكونُ حادثٌ لأنّهُ مُتغيّرٌ، وكلُّ حادثٍ معلول وكلُّ معلولٍ لابدَّ لهُ مِن علّةٍ وبالتّالي الكونُ لابدَّ لهُ مِن علّة) ومنَ الواضحِ أنَّ النتيجةَ هنا صحيحةٌ لأنّها ترتبطُ بشكلٍ منطقيٍّ معَ المُقدّمةِ الصّحيحةِ، ولا يحقُّ لكائنٍ مَن كانَ أن يقولَ أنَّ هذا الدّليلَ ضعيفٌ لأنّهُ لا يعجبُني ولا ينسجمُ معَ ذوقي. فعندَما يقولُ هذا المُعترضُ: (أثبتوا لي) فإنّهُ يجعلُ مِن نفسِه مقياساً لتقييم الأدلّةِ ويجعلُ إثباتَ وجودِ اللهِ أو نفيه مربوطاً بقرارِه الشخصي، وهذهِ مرتبةٌ لا يملُكها هوَ ولا نحنُ وبالتّالي لا يمكنُنا أن نتصدّقَ عليهِ بها، فنحنُ لا نثبتُ له أو لغيرِه وإنّما نتعاملُ معَ الأدلّةِ في إطارِها المنهجيّ ونقومُ بدراستِها بقصدِ نفي الثغراتِ عنها. وعليهِ أن يتفضّلَ علينا بالكشفِ عن الإشكالاتِ المنهجيّةِ في أدلّةِ وجودِ الخالق إذا كانَ جاداً في الحوار.
ولا نريدُ هُنا أن نستعرضَ الأدلّةَ على وجودِ اللهِ لأنّها كثيرةٌ ومبثوثةٌ في الكتبِ المُختصّة، وما يجبُ التنبيهُ إليهِ أنَّ هذهِ الأدلّةَ قد خضعَت للتمحيصِ المنهجي ممّا يجعلها صامدةً أمامَ جميعِ الاعتراضاتِ العلميّة، والباحثُ الذي يحترمُ عقله لا يتعاملُ مع هذهِ الأدلّةِ بروحٍ صبيانيّة.
كما يجبُ الإشارةُ إلى أنَّ اللهَ ليسَ أمراً مجهولاً نبحثُ عنهُ فلا نجدُه، وإنّما هوَ ظاهرٌ في كلِّ شيءٍ ومتجلٍّ بعظمتِه وكبريائِه في خلقِه، فهو الدالُّ على ذاتِه بذاتِه والمتنزّهُ عن مُجانسةِ مخلوقاتِه القريبُ مِن خطراتِ الظنونِ والبعيدُ عن لحظاتِ العيون، تراهُ القلوبُ بحقائقِ الإيمانِ ولا تراهُ الأعينُ بمشاهدِة الأبصارِ، ( مُتَجَلٍّ لاَ بِاستِهلاَلِ رُؤيَةٍ، نَاءٍ لاَ بِمَسَافَةٍ، قَرِيبٌ لاَ بِمُدَانَاةٍ، لَطِيفٌ لاَ بِتَجَسُّمٍ، مَوجُودٌ لاَ بَعدَ عَدَمٍ، فَاعِلٌ لاَ بِاضطِرَارٍ، مُقَدِّرٌ لاَ بِحَرَكَةٍ، مُرِيدٌ لاَ بِهَمَامَةٍ، سَمِيعٌ لاَ بِآلَةٍ، بَصِيرٌ لاَ بِأَدَاةٍ، لاَ تَحوِيهِ اَلأَمَاكِنُ، وَ لاَ تَضمَنُهُ اَلأَوقَاتُ، وَ لاَ تَحُدُّهُ اَلصِّفَاتُ، وَ لاَ تَأخُذُهُ اَلسِّنَاتُ، سَبَقَ اَلأَوقَاتَ كَونُهُ، وَاَلعَدَمَ وُجُودُهُ، وَاَلاِبتِدَاءَ أَزَلُهُ، بِتَشعِيرِهِ اَلمَشَاعِرَ عُرِفَ أَن لاَ مَشعَرَ لَهُ، وَبِتَجهِيرِهِ اَلجَوَاهِرَ عُرِفَ أَن لاَ جَوهَرَ لَهُ، وَبِمُضَادَّتِهِ بَينَ اَلأَشيَاءِ عُرِفَ أَن لاَ ضِدَّ لَهُ، وَبِمُقَارَنَتِهِ بَينَ اَلأَشيَاءِ عُرِفَ أَن لاَ قَرِينَ لَهُ، ضَادَّ اَلنُّورَ بِالظُّلمَةِ، وَاَليُبسَ بِالبَلَلِ، وَاَلخَشِنَ بِاللَّيِّنِ، وَاَلصَّردَ بِالحَرُورِ، مُؤَلِّفٌ بَينَ مُتَعَادِيَاتِهَا وَ مُفَرِّقٌ بَينَ مُتَدَانِيَاتِهَا، دَالَّةً بِتَفرِيقِهَا عَلَى مُفَرِّقِهَا، وَبِتَألِيفِهَا عَلَى مُؤَلِّفِهَا، وَذَلِكَ قَولُهُ تَعَالَى: «وَ مِن كُلِّ شَيءٍ خَلَقنٰا زَوجَينِ لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ » فَفَرَّقَ بَينَ قَبلٍ وَ بَعدٍ لِيُعلَمَ أَن لاَ قَبلَ لَهُ وَ لاَ بَعدَ لَهُ، شَاهِدَةً بِغَرَائِزِهَا أَن لاَ غَرِيزَةَ لِمُغرِزِهَا، مُخبِرَةً بِتَوقِيتِهَا أَن لاَ وَقتَ لِمُوَقِّتِهَا، حَجَبَ بَعضَهَا عَن بَعضٍ لِيُعلَمَ أَن لاَ حِجَابَ بَينَهُ وَ بَينَ خَلقِهِ، كَانَ رَبّاً إِذ لاَ مَربُوبَ وَ إِلَهاً إِذ لاَ مَألُوهَ وَ عَالِماً إِذ لاَ مَعلُومَ وَ سَمِيعاً إِذ لاَ مَسمُوعَ)
اترك تعليق