أفضليَّة الإمامة على النبوَّة
السؤال: هل يمكنكم توضيح نقاط تفضيل الإمامة على النبوَّة من خلال روايات أهل البيت (عليهم السلام)؟
الجواب:
إن مراتب النبوَّة والإمامة من الأسرار الإلهيََّة العظيمة التي تتجلَّى فيها حكمة الله تعالى في تدبير خلقه، وتربيته لأوليائه، فكما أنَّ النبوَّة درجاتٌ متفاوتةٌ، تبعاً لسموِّ المقام الروحيّ والعلميّ، وكمال الاستعداد البشريّ لتحمُّل أعباء الرسالة، فكذلك الإمامةُ منزلةٌ ربانيةٌ سامقةٌ، لا ينالها إلَّا من اصطفاه الله تعالى بعد أْن يُمحّصه بالابتلاءات، ويُهذّبه بالتجارب، حتى يصيرَ أهلاً لقيادة الأمم، وحمل أمانة الهداية الإلهيَّة عبر الأزمان.
وقد أشار القرآن الكريم إلى تفاضل الأنبياء (عليهم السلام) في مراتب النبوَّة بقوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ} [البقرة 253]، وأكَّد أنَّ خاتمهم سيدنا محمداً (صلى الله عليه وآله) هو الأكمل مقاماً، والأعظم شأناً، إذ جعله الله تعالى خاتماً للنبوَّة، وحاملاً للرسالة العالميَّة الخالدة.
أما الإمامةُ، فهي مرتبةٌ أرقى من النبوَّة والرسالة في بعض تجلّياتها، كما في حالة نبي الله إبراهيم الخليل (عليه السلام)، الذي بلغها بعد أنْ اجتاز محطاتٍ عظيمةً من الابتلاءات، فكانت نبوّته أولاً، ثم رسالته، ثم اصطفاه الله تعالى لإمامة الناس بعد أنْ أثبت أنَّه القائمُ بحقِّ الربوبيَّة، المُسلّم لأمر الله تعالى في كل حال. فقال تعالى: {وَإِذِ ابْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} [البقرة 124]. فهنا نرى أنْ الإمامةَ منحةٌ إلهيةٌ تُمنح بعد الابتلاء والامتحان؛ لأنَّها مسؤوليةٌ عظمى تتطلب كمال التسليم، وتمام اليقين، وقدرةً على هداية الخلق إلى الصراط المستقيم.
ولذلك لم تُعطَ الإمامةُ لإبراهيم (عليه السلام) إلَّا بعد أْن مضت عقودٌ من عمره في الدعوة والصبر على الأذى، وترك الأهل والوطن، والوقوف في النار، وذبح الولد، وغيرها من الامتحانات التي جعلت منه أسوةً للعالمين. فالإمامةُ ليست مجردَ خلافةٍ ظاهريةٍ، بل هي قيادةٌ روحيةٌ شاملةٌ، تقوم على العلم اللدنيّ، والحكمة الإلهيَّة، والعدالة المطلقة، لتكون الإمامةُ امتداداً للنبوَّة في حفظ الشرائع، وتنزيل الحكمة، وقيادة الأمة نحو كمالها المعنوي.
وهذا التفاضلُ بين المراتب — من نبوةٍ فرديةٍ إلى نبوةٍ عامةٍ، ثم إلى الإمامة — يُظهر أنَّ الله تعالى يربِّي أولياءه بالتدريج، فيرفعهم درجةً درجةً، حتى يصلوا إلى المقام الذي يؤهلهم لحمل الأمانة الإلهيَّة في أسمى صورها. فالإمامةُ عند أهل البيت (عليهم السلام) هي الوريثةُ الشرعيةُ لخاتمية النبوَّة، فهي التي تحفظ الدين من التحريف، وتُجسِّد القيمَ الإلهيةَ في واقع البشرية، حتى تقوم الساعة.
فكما أنَّ النبيّ الخاتم (صلى الله عليه وآله) هو خيرُ الأنبياء (عليهم السلام)؛ لكونه حاملَ الرسالة الكاملة، فكذلك أئمةُ الهدى من آل بيته (عليهم السلام) هم خيرُ الأئمة؛ لأنَّهم امتدادٌ لرسالته، وحماة لشريعته، ودعاة إلى الله تعالى بإذنه وسراج منير للعالمين.
فقد روي عن أَبي حمزةَ الثُّمالي قُلتُ لعليّ بن الحسينِ (عليه السلام) أَسأَلكَ عن شيءٍ ... قلتُ فالأَئمَّةُ منكمْ يُحيونَ الموتَى و يُبرءُونَ الأَكمَهَ وَ الأَبرصَ و يمشونَ علَى المَاءِ فَقَالَ (عليه السلام) «ما أَعطَى اللَّهُ نبيّاً شيئاً إلَّا وقَد أَعطَى مُحمَّداً (صلى الله عليه وآله) وأَعطَاهُ ما لَمْ يُعطهِمْ ولَمْ يكنْ عِندهمْ وكلَّمَا كَانَ عِندَ رسُولِ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) فقدْ أَعطاهُ أَميرَ المؤمنِينَ ثُمَّ الحسنَ ثُمَّ الحسينَ (عليهما السلام) ثُمَّ إِماماً بعدَ إمامٍ إلَى يومِ القيَامةِ معَ الزِّيادَةِ الَّتي تحدثُ في كُلِّ سنةٍ وفي كُلِّ شهرٍ وفي كُلِّ يَومٍ» [الخرائج و الجرائح ج2 ص583].
وفيما يلي بيان أفضليَّة الإمامة على النبوَّة والرسالة وفقاً لروايات أهل البيت (عليهم السلام)، نذكر بعضا منها:
1ـ الامتداد الكامل لولاية النبيّ:
النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله) هو أفضل الأنبياء (عليهم السلام)، وأكرم الخلق على الله تعالى، وقد ثبتت له كلُّ الفضائل والمزايا التي تثبت للأنبياء المكرمين (عليهم السلام) حيث جاء في الحديث المروي عنه: « مَا خَلَقَ اللَّهُ خَلْقاً أَفْضَلَ مِنِّي وَ لَا أَكْرَمَ عَلَيْهِ مِنِّي ...» وكل ما ثبت له (صلى الله عليه وآله) من الفضل والكرامة ثبت لعلي والأئمة (عليهم السلام)؛ لقوله: «وَ الْفَضْلُ بَعْدِي لَكَ يَا عَلِيُّ وَ لِلْأَئِمَّةِ مِنْ بَعْدِكَ ...» [علل الشرائع ج1 ص5].
ولما وروي عن الصادق (عليه السلام) انه قال: «كلَّما كان للرسول (صلى الله عليه وآله) فلنا مثله الا النبوَّة والازواج» [المحتضر ص20].
وقد تَقرّر في كتب أصول الفقه أنَّ الاستثناء يُستدلّ به على ثبوت العموم في الحكم الأصلي؛ إذ إنَّ إخراج بعض الجزئيات بالاستثناء يُعتبر قرينةً على أنَّ الحكمَ كان شاملاً لجميع الأفراد قبل التخصيص، فيبقى ما عدا المُستثنى داخلاً تحت حُكم العموم حتى في الحالات التي لم يرد فيها نصٌّ صريحٌ أو لم يصل علمها إلينا، وذلك لكون الاستثناء كاشفاً عن أصل العموم السابق له، فالأئمة (عليهم السلام) شركاء للنبي (صلى الله عليه وآله) في كل ما يروى من الفضل له، وما لم يروى، وما لم يصل علمه الينا.
2ـ دور الأئمة كعلّة لمعرفة الله:
إنَّ الروايات التي تتحدّث عن دور الأئمة (عليهم السلام) تُشير بوضوح إلى أنَّ وجودهم ليس خيارًا بل ضرورة وجودية لاستكمال غاية الخلق؛ إذ بدونهم لا يُصبح معرفة الله حقيقةً متكاملة؛ إذ يقول الإمام الصادق (عليه السلام) في المقولة الشهيرة: « لولا الله ما عرفنا، ولولا نحن ما عُرف الله » [التّوحيد للصدوق ص 290]، مما يعني أنَّ وجودهم هو الشرط الأساس الذي يُضيء به الله ذاته. فهم ليسوا مجرد ناقلين للرسالة كما جاء دور الأنبياء (عليهم السلام) في تبليغ الشرائع، بل هم الحُفَّاظ والمفسرون لتلك الشرائع عبر العصور؛ فهم الحماية التي تضمن استمرارية الدين في صورته الأصيلة.
كما يدلّ على ذلك مثل حديث عبدالله بن أبي يعفور، عن الإمام الصادق (عليه السلام) الذي جاء فيه: «بنا عُرف الله وبنا عُبد الله ونحن الأدلاّء على الله ولولانا ما عُبد الله» [التوحيد للصدوق ص152].
فهم الوسيط الضروريُّ لمعرفة الله تعالى، فكما أنَّ الله هو المُنشئ لوجودهم، فهم السبب في إدراك حقيقة الذات الإلهيَّة. وهذا الدور لا يقتصر على التبليغ (كالنبوَّة)، بل يتعداه إلى كونهم مظهرًا لله تعالى في الأرض، فـ "بهم يُعرف الله"، أي أنَّ وجودهم وحجيّتهم شرطٌ لتحقّق الغاية من الخلق، وهو العبادة والمعرفة الحقة.
3ـ دور الإمام باعتبارهم علّةً غائيةً للوجود:
إنَّ الله تعالى خلق كلَّ شيءٍ من أجلهم، كما دلَّت على ذلك النصوص الصريحة مثل حديث الكساء والحديث القائل: «لولاك ولولا علي وعترتكما الهادون المهديون الراشدون ما خلقت الجنَّة والنار ولا المكان ولا الارض ولا السماء ولا الملائكة ولا خلقا يعبدني» [بحار الأنوار ج25 ص19]، والمروي عن علي بن أَبي طالب (عليه السلام) قَال قَال رسول الله: «يَا عَلِيُّ، لَوْ لَا نَحْنُ مَا خَلَقَ اللَّهُ آدَمَ وَ لَا حَوَّاءَ وَ لَا الْجَنَّةَ وَ لَا النَّارَ وَ لَا السَّمَاءَ وَ لَا الْأَرْضَ» [كمال الدين ج1 ص255]، وغيرها من الروايات التي تؤكد هذا المعنى.
وهذا يدلُّ بوضوحٍ على أنَّهم الغاية من خلق الله تعالى للوجود، فلو لم يكونوا لما كان لأيّ شيءٍ آخر أنْ يوجد، ولما كان في هذا العالم شيءٌ من الأشياء؛ لأنَّ وجودهم هو العلة الغائية التي لأجلها أوجد الله تعالى الكون وسائر مخلوقاته، فهم محور الوجود وسببه الأسمى، وكل ما سواهم إنما وجد تبعًا لوجودهم وتحقيقًا لحكمته الإلهية.
وهذا الدور التكوينيُّ للإمام بصفته علةً يفوق دور الأنبياء (عليهم السلام) الذين يعتبرون مبلّغين للشرائع، بينما الأئمة (عليهم السلام) هم أوتاد الأرض، وحفظةُ التوحيد عبر العصور.
4ـ دور الإمام في وساطة الفيض:
تُعَدُّ الحقيقة المحمديَّة النور الأصليّ الذي انبثق منه فيض الله تعالى، إذ تُجمع أربعة عشر نوراً في نورٍ واحدٍ وتُعتبر الوسيط الأقرب إلى الله تعالى في إيصال فيوضه إلى الخلق؛ ومن هنا يتجلّى أنَّ انتقال النور الإلهيّ لا يحدث إلا بأمر هذه الحقيقة المقدّسة، التي تتوسط فيض الله تعالى وتحقق انتقال النور إلى الخلق، وفيما يخص الأسباب المؤثرة في وجود الأشياء، فهي ليست مجرد عوامل سطحيَّة، بل هي قوى حقيقيةٌ تتوزع على أربع فئات: العلة الفاعليَّة، والماديَّة، والصوريَّة، والغائيَّة. كما يُمكن تقسيم سبب وجود الشيء إلى نوعين؛ العلة التامة والعلة الناقصة، إذ تتألف العلة التامة من ثلاث علل ناقصة تُعرف أيضاً بأجزاء العلة التامة وهي المقتضي والشرط وعدم المانع، مما يدلُّ على أنَّ العلل تتجاوز كونها أسباباً بسيطة لتصبح القوة الفاعلة الكامنة وراء وجود كل شيء. وفي المقام الأول تظهر العلة التامة، أي الله تعالى، الذي هو المصدر المطلق للفيض والسبب الأول لوجود كل شيء. كما تلعب الوسائط دوراً محورياً في تسهيل عبور الفيض بين المفيض والمستفيض، حيث يساهم كل منها بمدخلية حيوية في نقل النور الإلهي إلى الخلق.
وقد عبّر دعاء الندبة عن هذا المعنى بقوله: «أين باب الله الذي منه يُؤتى، أين السبب المتصل بين الأرض والسماء» [إقبال الأعمال ص604]، وفي قول الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يقول: «نحن السبب بينكم وبين الله تعالى» [بشارة المصطفى ص٩٠]، مما يُبرز مكانة أهل البيت (عليهم السلام) كواسطة في إيصال الفيض الإلهيّ إلى الخلق.
هذه بعض نقاط أفضليَّة الإمامة على النبوَّة والرسالة، كما وردت في روايات أهل البيت (عليهم السلام). ويمكنك التوسع في هذا الموضوع بالرجوع إلى كتب الحديث والسيرة، والتدبر في معانيها، والتأمل في مقاصدها.
الخلاصة:
تُعتبر الإمامةُ منزلةً ربانيةً أعلى من النبوَّة في بعض جوانبها، وفقاً لروايات أهل البيت (عليهم السلام)، حيث إنها مرتبةٌ تُمنح بعد اجتياز الابتلاءات الشديدة، كما في حالة نبي الله إبراهيم (عليه السلام) الذي نال الإمامة بعد إتمامه للكلمات الإلهية. وبيّنت الروايات أنَّ الأئمة (عليهم السلام) هم امتدادٌ كاملٌ لولاية النبيّ محمد (صلى الله عليه وآله)، وشركاءٌ له في جميع الفضائل إلَّا النبوَّة، كما أنهم سببٌ لمعرفة الله وغاية الخلق. بالإضافة إلى دورهم باعتبارهم وسائطَ للفيض الإلهي وحُفَّاظ للدين، مما يجعلهم ورثةً لخاتميَّة النبوَّة في هداية البشرية حتى قيام الساعة.
والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق