ما الفرقُ بينَ الربِّ والخالقِ، ولماذا قالَ فرعون أنا ربّكم الأعلى ولم يقُل أنا خالقُكم؟  

: السيد رعد المرسومي

السّلامُ عليكُم ورحمة الله، 

بعدَ أن بحثنا هذهِ المسألةَ كثيراً في كتبِ أهلِ العلمِ وخصوصاً المُفسّرينَ منهم في كتبِ مُختلفِ الاتّجاهاتِ المذهبيّة، سنذكرُ لكَ الفرقَ بينَ الخالقِ والربِّ مِن حيثُ اللغة، ومِن ثَمَّ سنُبيّنُ الجوابَ عن مقولةِ فرعون.   

فنقولُ: أمّا المعنى اللغويُّ لكلمةِ (خلق)، فهناكَ معنيانِ مشهورانِ في لغةِ العربِ أحدُهما: إيجادُ الشيءِ منَ العدمِ أو ابتداعُ مخلوقٍ جديدٍ مِن غيرِ سابقٍ له، وهذا المعنى خاصٌّ باللهِ تعالى، لا يشاركُه فيهِ أحدٌ أبداً. قالَ اللهُ تعالى: ﴿أَوَلا يَذكُرُ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقنَاهُ مِن قَبلُ وَلَم يَكُ شَيئًا﴾. (سورة مريم: 67). وقال تعالى: ﴿وَلَقَد خَلَقنَا الإنسَانَ مِن صَلصَالٍ مِن حَمَإٍ مَسنُونٍ، وَالجَانَّ خَلَقنَاهُ مِن قَبلُ مِن نَارِ السَّمُومِ﴾ (سورة الحجر: 26 - 27). وقال: ﴿وَمَا خَلَقنَا السّماوات وَالأَرضَ وَمَا بَينَهُمَا لاعِبِينَ، مَا خَلَقنَاهُمَا إِلاً بِالحَقِّ وَلَكِنَّ أَكثَرَهُم لا يَعلَمُونَ﴾ (سورة الدخان: 38 - 39).  

والمعنى الآخر: التهيئةُ والتقديرُ والتشكيلُ والتجميعُ والتركيب. قالَ اللهُ تعالى: ﴿إِذ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابنَ مَريَمَ اذكر نِعمَتِي عَلَيكَ وَعَلى وَالِدَتِكَ إِذ أَيَّدتُكَ بِرُوحِ القُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي المَهدِ وَكَهلاً وَإِذ عَلَّمتُكَ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَالتَّورَاةَ وَالإنجِيلَ وَإِذ تَخلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ بِإِذنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيرًا بِإِذنِي وَتُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ بِإِذنِي وَإِذ تُخرِجُ المَوتَى بِإِذنِي وَإِذ كَفَفتُ بَنِي إِسرَائِيلَ عَنكَ إِذ جِئتَهُم بِالبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنهُم إِن هَذَا إِلاً سِحرٌ مُبِينٌ﴾ (سورة المائدة: 110). وقالَ تعالى: ﴿وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسرَائِيلَ أَنِّي قَد جِئتُكُم بِآَيَةٍ مِن رَبِّكُم أَنِّي أَخلُقُ لَكُم مِنَ الطِّينِ كَهَيئَةِ الطَّيرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيرًا بِإِذنِ اللَّهِ وَأُبرِئُ الأَكمَهَ وَالأَبرَصَ وَأُحيِي المَوتَى بِإِذنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَةً لَكُم إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ﴾ (سورة آل عمران: 49). وقالَ تعالى: ﴿أَتَدعُونَ بَعلاً وَتَذَرُونَ أَحسَنَ الخَالِقِينَ، اللَّهَ رَبَّكُم وَرَبَّ آَبَائِكُمُ الأَوَّلِينَ﴾ (سورة الصافات: 125 - 126). وقالَ تعالى: ﴿إِنَّمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَوثَانًا وَتَخلُقُونَ إِفكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لا يَملِكُونَ لَكُم رِزقًا فَابتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزقَ وَاعبُدُوهُ وَاشكُرُوا لَهُ إِلَيهِ تُرجَعُونَ﴾ (سورةُ العنكبوت: 17).  

وأمّا المعنى اللغويّ لكلمةِ (الربّ)، فيذكرُ ابنُ فارس في "مقاييسِه" أنَّ لفظَ (الربّ) يدلُّ على ثلاثةِ أصول، هي:  

الأصلُ الأوّل: إصلاحُ الشيءِ والقيامُ عليه؛ فالربُّ: المالكُ، والخالقُ، والصّاحب. والربُّ: المُصلِحُ للشيء، يقالُ: ربَّ فلانٌ ضيعتَه، إذا قامَ على إصلاحِها. واللهُ جلَّ ثناؤه الربُّ؛ لأنّهُ مُصلحُ أحوالِ خلقِه. والربّاني: العارفُ باللهِ عزَّ وجل، والحبرُ، منسوبٌ إلى الربّان. وربَّ الولدَ: أي ربّاهُ حتّى أدرك، فـ (الربيبُ) هوَ الصّبيُّ الذي تُربّيه، و(الربيبةُ) الصّبيّة.  

الأصلُ الثاني: لزومُ الشيءِ والإقامةُ عليه، وهو مناسبٌ للأصلِ الأوّل؛ يقالُ: أربَت السحابةُ بهذهِ البلدة: إذا دامَت. وأرضٌ مُرب: لا يزالُ بها مطرٌ؛ ولذلكَ سُمّيَ السحابُ رباباً. ويقولونَ: قد ربّ فلانٌ قومَه: أي: ساسَهم، وجعلهم ينقادونَ له. وربيتُ القومَ: أي: حكمتُهم وسدتُهم، وفي هذا المعنى يقالُ لصاحبِ البيتِ: ربُّ الدارِ، وصاحبُ الناقةِ: ربُّ الناقة، ومالكُ الضّيعة: ربُّ الضّيعة.  

الأصلُ الثالث: ضمُّ الشيء للشيء، وهو أيضاً مناسبٌ لما قبله؛ يقولون: فلان يَرُبُّ الناس: أي: يجمعهم، أو يجتمعُ عليه الناس، ويسمونَ مكان جمعهم (بالمرّبّ). و(التربُّب) هو الانضمامُ والتجمّعُ. وتأتي كلمةُ (الربّ) بمعنى السيّدِ أيضاً، فتستعملُ بمعنى ضدِّ العبدِ، أو الخادم.  

قالَ ابنُ فارس: "ومتى أنعمَ النظرَ في هذهِ الأصولِ الثلاثةِ كانَ البابُ كلّه قياساً واحداً"، ومرادُه أنّ هذهِ الأصولَ الثلاثةَ لمعنى (الربّ)، ترجعُ إلى أصلٍ واحدٍ عندَ النظرِ والتأمّل.  

وبالرجوعِ إلى ما ذكرَه المُفسّرونَ في هذا الصّددِ نجدُ الطبريّ يذكرُ ثلاثةَ معانٍ للفظِ (الربّ) في كلامِ العرب؛ فالسيّدُ المُطاعُ يُدعى ربّاً، والرجلُ المُصلحُ للشيءِ يُدعى ربّاً، ومِن ذلكَ قيلَ: إنَّ فلاناً يربّ صنيعتَه عندَ فلان؛ إذا كانَ يحاولُ إصلاحَها وإدامتَها، والمالكُ للشيءِ يُدعى ربّه. ثمَّ قالَ الطبري: "وقد يتصرّفُ أيضاً معنى (الربِّ) في وجوهٍ غيرِ ذلكَ، غيرَ أنّها تعودُ إلى بعضِ هذهِ الوجوهِ الثلاثة.

فربُّنا جلَّ ثناؤه: (السيّدُ) الذي لا شبهَ له، ولا مثلَ في سؤدِده، و(المُصلِحُ) أمرَ خلقِه بما أسبغَ عليهم مِن نعمِه، و(المالكُ) الذي لهُ الخلقُ والأمر".  

والزمخشريُّ لم يذكُر لمعنى (الربِّ) إلّا معنى المالك. وذكرَ القُرطبيُّ أنَّ (الربَّ) يعني: السيّد. و(الربّ) يعني: المُصلحَ والمُدبّرَ والجابرَ والقائم، يقالُ لمَن قامَ بإصلاحِ شيءٍ وإتمامِه: قد ربَّه يربُّه، فهو ربٌّ له ورابٌّ، ومنهُ سُميَّ الربّانيّون؛ لقيامِهم بالكُتب. وفي الحديثِ: (هل لكَ مِن نعمةٍ تربُّها عليه) رواهُ مُسلم أي: تقومُ بها وتصلحُها. والربُّ: المعبودُ. وذهبَ ابنُ عاشور إلى أنَّ "الأكثرَ في كلامِ العربِ ورودُ (الربِّ) بمعنى المالكِ والسيّد".   

والذي أرشدنا إليهِ البحثُ أنَّ لفظَ (الربِّ) في القرآنِ الكريم وردَ على المعاني التالية:  

1- (الربُّ) بمعنى المالكِ للشيء، والأمثلةُ عليه كثيرةٌ، نذكرُ منها قولهُ عزَّ وجل: {ربُّ العالمين} (الفاتحة:1)، فهوَ سبحانَه مالكُ كلِّ شيء. ونحو هذا قولُه عزَّ وجل: {قُل مَن ربُّ السّماواتِ السّبعِ وربُّ العرشِ العظيم} (المؤمنون:86)، أي: أنَّه سبحانَه هوَ مالكُ السماواتِ السّبعِ والعرشِ العظيمِ وسيّدُهما، فلا مالكَ لهُما سواه، ولا سيّدَ لهُما غيره. ونحوه قولهُ تعالى: {وهوَ ربُّ كلِّ شيء} (الأنعامُ:164)، قالَ القرطبي: أي: مالكه.  

2- (الربُّ) بمعنى المعبودِ المُطاع، والأمثلةُ عليهِ كثيرةٌ، نذكرُ منها قولهُ عزَّ وجل: {قُل أغيرُ اللهِ أبغي ربّاً} (الأنعام:164)، أي: أغيرُ اللهِ أتّخذُ إلهاً أعبدُه. ومنها قولهُ تعالى: {إنَّ ربّكم الله} (الأعراف:54)، أي: إنَّ المعبودَ الحقَّ الذي ينبغي أن يُفردَ بالعبادةِ هوَ اللهُ دونَ سواه. ومنها قولُ الباري سُبحانَه: {ذلكُم اللهُ ربّكم فاعبدوه} (يونس:3)، أي: إنَّ اللهَ سُبحانَه هو المعبودُ الحقُّ الذي ينبغي أن تخلصَ لهُ العبادة.  

3- (الربُّ) بمعنى المُصلحِ للشيء والمُدبّر له، والمثالُ عليهِ قوله عزَّ وجل: {ربُّ المشرقِ والمغربِ وما بينَهما إن كنتُم تعقلون} (الشعراء:28)، قالَ ابنُ كثير: "أي: هو الذي جعلَ المشرقَ مشرقاً، تطلعُ منه الكواكب، والمغربُ مغرباً تغربُ فيه الكواكب، ثوابتُها وسيّاراتُها، معَ هذا النظامِ الذي سخّرَها فيه وقدّرها". ونظيرُه قولهُ تعالى: {ربُّ المشرقِ والمغربِ لا إلهَ إلّا هوَ فاتّخذهُ وكيلا} أي: هو المالكُ المُتصرّفُ في المشارقِ والمغاربِ لا إلهَ إلّا هو.  

4- (الربُّ) بمعنى السيّدِ المُطاع، والمثالُ عليهِ قولهُ عزَّ وجل: {قالَ معاذَ اللهِ إنّه ربّي أحسنَ مثواي} (يوسف:23)، قيلَ: عنى بهِ اللهَ تعالى، وهوَ قولٌ يذكرُه المُفسّرون، وهوَ اختيارُ الأستاذِ المودودي، وقيلَ: عنى بهِ الملكَ الذي ربّاه، وهوَ القولُ الذي لم يذكُر غيرَه الطبريُّ وابنُ كثير، قالَ الأخيرُ: قالَ ابنُ كثير: "كانوا يُطلقونَ (الربَّ) على السيّدِ والكبير". ونظيرُه قولهُ تعالى: {اذكُرني عندَ ربِّك فأنساهُ الشيطانُ ذكرَ ربّه} (يوسف:42)، {قالَ ارجِع إلى ربِّك فاسأله ما بالُ النسوةِ اللاتي قطعنَ أيديهنَّ} (يوسف:50)، فـ (الربُّ) في هذه الآياتِ بمعنى: السيّدِ المُطاع في قومِه.  

وممّا تقدّمَ مِن شواهدِ آياتِ القرآن، تتجلّى معاني لفظِ (الربِّ) في القرآن. ولا بدَّ منَ الإشارةِ هُنا إلى أنَّ المعاني الأربعةِ التي وردَ عليهِ لفظُ (الربّ) هي معانٍ مُتداخلةٌ، ومُترابطةٌ، ومتكاملةٌ، فذكرُ معنى منها لا ينفي غيرَه، ولا يستبعدُه، واللفظُ الواحدُ قد يحتملُ أكثرَ مِن معنى، بل قد يحتملُ المعاني الأربعةِ المذكورة. ويبقى المعوَّلُ عليهِ في ختامِ المطافِ السّياقُ الذي يردُ فيه هذا اللفظ، فللسّياقِ دورٌ أساسٌ ومهمٌّ في تحديدِ معنىً منَ المعاني المقصودة.  

فإذا تبيّنَ ما تقدّم، فنقولُ: إنّ فرعونَ لم يقُل أنا خالقُكم، لأنّ صفةَ الخلقِ لا يمكنُ أن يقومَ بها بنوا البشرِ مِن تلقاءِ أنفسِهم، وهذا الأمرُ كانَ معروفاً لدى فرعون وبقيّةِ المُشركين، إذ هوَ يعرفُ مُسبقاً أنّه لم يخلُق غيرَه، ولا يستطيعُ أن يخلقَ جناحَ بعوضةٍ، فلذا لا يمكنُ أن ينسبَ لنفسِه ما هوَ معروفٌ بطلانُه بينَ البشر، حتّى لا يُفتضحَ أمرُه، وينكشفَ زيفُه بصورةٍ واضحةٍ أمامَ الملأ، فلذا لجأ إلى لفظِ الربِّ الذي يُحتملُ منَ المعاني التي تقدّمَ بيانُها آنفاً، والتي منَ المُمكنِ توظيفُها لمصلحتِه، فيصدّقُ بها قومُه وأتباعُه وفقَ ما يريدُ ويهوى. إذ لخّصَت هذهِ الآيةُ الكريمةُ مقولةَ فرعون بأنّه كانَ يرى في نفسِه أنّه ربُّ البلادِ والعباد! والمرجعُ والملاذ! منه تبتدئُ الأمور، وإليهِ تصير! مِن جهةِ ادّعائِه - تبجّحاً - بأنّ لديهِ ملكَ مصر وهذهِ الأنهارَ تجري مِن تحته؟ فهو بجبروتِه كانَ يستطيعُ أن يُبدّدَ خصومَه ويُهلكَهم ذبحاً وتقتيلاً ونفياً وتشريداً! واختارَ لفظَ الربِّ لأنَّ كثيراً منَ المُشركينَ كانوا يعتقدونَ بوحدةِ الربِّ الخالقِ وتعدّدِ الآلهةِ المعبودةِ التي تقرّبُهم إليهِ أو تشفعُ لهم عندَه بزعمِهم، وفرعونُ قد ادّعى الألوهيّةَ أوّلاً كما في الآيةِ الكريمة: (ما علمتُ لكم مِن إلهٍ غيري)، ثمَّ تطاولَت عيناهُ لمقامِ الربوبيّة! واختارَ لفظَ الأعلى دونَ غيرِه لِما يحملهُ العلوّ مِن معاني القهرِ والغلبةِ والسّيطرةِ والسّموّ والجبروتِ دونَ غيرهِ منَ الألفاظ.

إذ إنّ هذهِ اللفظةَ تحملُ في مدلولِها وإيحاءاتِها كلَّ معاني الإثمِ والفجورِ والطغيانِ الذي عرفَته البشريّةُ عبرَ تاريخِها كلّه، ولم يُؤثَر عن أحدٍ قالها قبلَ فرعون، حتّى نمرود الذي حاجَّ إبراهيمَ في ربّه ادّعى أنّه يُحيي ويميت، ولم يؤثَر عنهُ مثلُ قولِ فرعون بهذهِ البجاحةِ والصراحة (أنا ربُّكــــــم الأعلى)!!. [ينظر: الأمثلُ في تفسيرِ كتابِ اللهِ المُنزّل، للشيخِ مكارِم الشيرازيّ، ج15/ص65 – 69)]. ودمتُم سالِمين.