الإمامةُ ثابتةٌ بتشريعِ اللهِ ورسولهِ (ص) لهَا.
سعيد /: نسألُ الشّيعةَ لماذَا اِختلفَ الأئمّةُ فِي أصلِ الدّينِ الشّيعيِّ وهوَ الإمامةُ فتنازلَ عنهَا اِثنانٌ و قاتلَ عليهَا واحدٌ و خافَ منهَا ثمانيةٌ وهربَ منهَا واحدٌ؟ ما موقفُ الشّيعةِ مِن تخبّطِ الأئمّةِ وتفريطهِم في التّنصيبِ الإلهيِّ و عدمِ إقامةِ الحجَّةِ على النّاسِ؟
الأخُ سعيدٌ المحترمُ، السّلامُ عليكُم ورحمةُ اللهِ وبركاتُه
الإمامةُ مَنصبٌ إلهيٌّ أمرهُ بيدِ اللهِ سبحانَهُ وليسَ بيدِ البشرِ، فكمَا أنَّ النّبوّةَ هيَ تشريعٌ منَ اللهِ فكذلكَ الإمامةُ، قالَ تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } البقرة :30، قالَ القرطبيُّ: "هذهِ الآيةُ أصلٌ فِي نصبِ إمامٍ وخليفةٍ يُسمَعُ لهُ ويُطاعُ". [تفسيرُ القرطبيِّ 1: 264].
ولمَّا كانَت مهمَّةُ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) هيَ بيانُ مَا نُزِّلَ إلينَا منَ القرآنِ بمُقتضَى قولهِ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} النّحلُ:44، نسألُ رسولَ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) هُنَا ونقولُ لهُ: مَن هُم يا رسولَ اللهِ الخلفاءُ مِن بعدكَ الذينَ علينَا التّمسّكُ بهِم والأخذُ بأقوالهِم وطاعتهُم؟!
يأتِي الجوابُ: الخلفاءُ مِن بعديَ اثنا عشرَ، كلّهُم مِن قريشٍ. [وهوَ مضمونُ حديثٍ رواهُ مسلمٌ وأحمدُ وأبو دوادَ والحاكمُ وغيرهُم].
نقولُ: زِدنَا بياناً يا رسولَ اللهِ، مِن أيِّ البُطونِ مِن قريشٍ خلفاؤكَ هؤلاءِ؟
يأتِي الجوابُ: {إنِّي تاركٌ فيكُم خليفتينِ: كِتابَ اللهِ، حبلٌ ممدودٌ ما بينَ الأرضِ والسّماءِ، وعِترتي أهلَ بيتِي، وإنَّهُما لَن يتفرّقَا حتّى يَرِدا عليَّ الحوضَ}. [صحيحُ الجامعِ الصّغيرِ للألبانيِّ 1:482، مُسندُ أحمدَ بنِ حنبلٍ، برقمِ: 21654، تصحيحُ شعيب الأرنؤوط].
وبعدَ الجمعِ بينَ أحاديثِ رسولِ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) الصّحيحةِ هذهِ نعرفُ أنَّ الخلفاءَ الإثني عشرَ الذينَ هُم مِن قريشٍ هُم مِن عترةِ النّبيِّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) حَصراً وليسَ مِن غيرهِم.
تقولُ: ولماذا لم يذكرْهُم رسولُ اللهِ بأسمائهِم؟ فمَنْ هؤلاءِ؟ عيّنوهُم لنَا؟
الجوابُ: ومَن قالَ لكَ بأنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لَم يذكرْهُم بأسمائهِم؟ فهُم في مَوروثنَا الرّوائيِّ الشّيعيِّ أوضحُ منَ الشّمسِ في رابِعَةِ النّهارِ، إنَّمَا غيَّبهُم عَن موروثكُمُ النّصبُ والعِداءُ، ولكن مَع ذاكَ يمكنُ للعاقلِ الحاذقِ أن يصلَ إليهِم بفطنتهِ ونباهتهِ، فيجدَ أنَّ الأمَّةَ قَد أجمعَتْ بسنّتهَا وشيعتهَا على الإمامةِ الدّينيّةِ لإثني عشرَ إماماً مِنَ العترةِ الطّاهرةِ، ولَم تجتمِعْ على إمامةِ أحدٍ كمَا اِجتمعتْ على إمامةِ هؤلاءِ. [راجِع مقالةَ: مبحثٌ حولَ الفرقةِ النّاجيةِ، على موقعِنَا، حتّى تعرفَ أسماءَهُم وإجماعَ المسلمينَ عليهِم].
تقولُ: ولكنَّ هؤلاءِ لَم يحكمُوا كلّهُم، والذين حكمُوا منهُم لم يُطعْهُم كلُّ المسلمينَ وبعضهُم تنازلَ عنِ الحكمِ لغيرهِ [كالإمامِ الحسنِ عليهِ السّلامُ]، وبعضهُم غابَ واِختفَى [كالمهديِّ عليهِ السّلامُ]؟
نقولُ: الإمامةُ هيَ منصبٌ إلهيٌّ شرعيٌّ كمَا ذكرنَا لا تسقطُ برفضِ النّاسِ لهَا، كمَا لا تسقطُ النّبوّةُ برفضِ النّاسِ للنّبيِّ، فهذهِ مناصبُ إلهيّةٌ بِيَدِ اللهِ ورسولهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) وليسَ بيدِ النّاسِ، فقَد تكونُ الظّروفُ ملائمةً لتطبيقِ الجانبِ الإجرائيِّ مِنهَا (وهوَ الحُكمُ) فيقومُ الإمامُ المُنَصَّبُ منَ اللهِ بهذهِ الوظيفةِ أفضلَ قيامٍ (كمَا توفّرتِ الظّروفُ لأميرِ المؤمنينَ عليٍّ عليهِ السّلامُ فِي تطبيقِ الجانبِ الإجرائيِّ منَ الإمامةِ لمَا يقربُ مدَّةَ أربعِ سنينَ وأكثرَ قليلاً)، وقَد تكونُ هُناكَ عوائقُ تمنعُ الإمامَ مِن أداءِ وظيفتهِ الإجرائيّةِ بينَ النّاسِ (كمَا في حالةِ صُلحِ الإمامِ الحسنِ عليهِ السّلام)، فهذا الحالُ للإمامةِ مشابِهٌ لحالِ النّبوّةِ فكمَا مَنعتِ الظّروفُ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) منَ التّبليغِ فِي مكّةَ بحيثُ كانَ لا يُحلِّلُ ولا يحرِّمُ مغلوباً على أمرهِ [كمَا يشيرُ إلى ذلكَ إبنُ هشامٍ فِي السّيرةِ النّبويّةِ 1:652]، وأيضاً كمَا أجبرتِ الظّروفُ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) أن يُصالحَ المشركينَ فِي الحديبيَّةِ، فكذلكَ الحالُ فِي موضوعِ الإمامةِ، فهذهِ الأحوالُ: مِنَ السّكوتِ عنِ التّبليغِ فترةً منَ الزّمنِ، ومُصالحةِ المشركينَ، لا يُستفادُ منهَا أنَّ النّبيَّ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) تنازلَ عَن نبوّتِهِ أو أنَّهُ قصَّرَ في أدائهَا، بَل كانَ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) يعملُ وفقَ ضوابطَ شرعيّةٍ مِن تقديمِ الأهمِّ على المُهمِّ وتقديرِ الظّروفِ المُناسبةِ التي تسمحُ لهُ بالتّحرّكِ والوصولِ إلى غرضهِ بأقلِّ الخسائرِ، وكذلكَ الشّأنُ فِي موضوعِ الإمامةِ فمعاندةُ النّاسِ لهُم وعدمُ إطاعتهِم لا يعنِي سلبَ الإمامةِ منهُ، بَل هيَ ثابتةٌ لهُم بتنصيبِ اللهِ ورسولهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآلهِ وسلّمَ) لهُم كمَا مرَّ بيانهُ بالنّصوصِ النّبويّةِ الصّحيحةِ الصّريحةِ، فالإمامةُ لا تخضعُ لأمرِ النّاسِ، كما يؤكِّدُ ذلكَ إبنُ تيميّةَ حينَ يقولُ فِي كتابهِ "منهاجُ السّنّةِ النّبويّةِ": (قالَ تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ"، وقَد قالَ تعالى: "إنِّي جاعلكَ للنّاسِ إماماً"، ولَم يكُن ذلكَ بأن جعلهُ ذا سيفٍ يقاتلُ بهِ جميعَ النّاسِ، بَل جعلهُ بحيثُ يجبُ على النّاسِ اِتّباعهُ، سواءٌ أطاعوهُ أم عصوهُ). [منهاجُ السّنّةِ النّبويّةِ 4:109].
وحتَّى غيابُ الإمامِ الثّاني عشرَ (عليهِ السّلامُ) إنّمَا كانَ بأمرِ اللهِ سبحانهُ، قالَ العلّامةُ الأوحدُ - كمَا يصفهُ الذّهبيُّ - محمَّدٌ بنُ طلحةَ الشّافعيِّ فِي كتابهِ "مطالبُ السّؤولِ في مناقبِ آلِ الرّسولِ" وهوَ يتحدّثُ عنِ الإمامِ المهديِّ مُحمَّدٍ بنِ الحسنِ العسكريِّ عليهِ السّلامُ:
((وأمّا عمرهُ: فإنّهُ ولدَ في أيامِ المُعتمدِ على اللهِ، خافَ فإِختفَى وإلى الآنَ، فلَم يُمكنْ ذكرُ ذلكَ إذ مَن غابَ وإن اِنقطعَ خبرهُ لا توجِبُ غيبتهُ واِنقطاعُ خبرهِ الحكمَ بمقدارِ عمرهِ ولا باِنقضاءِ حياتهِ، وقدرةُ اللهِ واسعةٌ وحكمهُ وألطافهُ بعبادهِ عظيمةٌ عامّةً، ولوازمُ عظماءِ العلماءِ أنْ يُدركُوا حقائقَ مقدوراتهِ وكُنهَ قدرتهِ لَم يجدُوا إلى ذلكَ سبيلاً، ولا نقلَ طرفِ تطلّعهِم إليهِ حسيراً وحدهُ كليلاً، وأملى عليهِم لسانُ عجزهِم عنِ الإحاطةِ بهِ ومَا أوتيتُم منَ العلمِ إلّا قليلاً.
وليسَ ببدعٍ ولا مُستغربٍ تعميرُ بعضِ عبادِ اللهِ المُخلصينَ، ولا إمتدادُ عمرهِ إلى حينٍ، فقَد مدَّ اللهُ تعالى أعمارَ جمعٍ كثيرٍ مِن خلقهِ مِن أصفيائهِ وأوليائهِ ومِن مطروديهِ وأعدائهِ، فمنَ الأصفياءِ: عيسَى (عليهِ السّلامُ)، ومنهُم الخِضرُ، وخلقٌ آخرونَ منَ الأنبياءِ طالتْ أعمارهُم، حتَّى جازَ كلُّ واحدٍ منهُم ألفَ سنةٍ أو قاربهَا كنوحٍ (عليهِ السّلامُ) وغيرهُ.
وأمَّا مِنَ الأعداءِ المطرودينَ: فإبليسُ، وكذلكَ الدّجّالُ، ومِن غيرهِم كعادٍ الأولى، كانَ فيهِم مَنْ عمرهُ مَا يقاربُ الألفَ، وكذلكَ لقمانُ صاحبُ لُبَدَ.
وكلُّ هذهِ لبيانِ إِتّساعِ القُدرةِ الرّبانيّةِ في تعميرِ بعضِ خلقهِ، فأيُّ مانعٍ يمنعُ مِنْ إمتدادِ عمرِ الصّالِح الخلفِ النّاصحِ إلى أنْ يظهرَ فيعملَ مَا حكمَ اللهُ لهُ بهِ؟)). إنتهى [مطالبُ السّؤولِ: 489].
وهذا المعنى منَ البيانِ الذي صدعَ بهِ العلّامةُ محمّدٌ بنُ طلحةَ الشّافعيِّ هُنا هوَ الموافقُ عمليّاً لمَا صرّحَ بهِ علماءُ الأنسابِ في حقِّ الإمامِ محمَّدٍ بنِ الحسنِ العسكريِّ (عليهِ السّلامُ) الذين صرّحوا بولادتهِ وغيبتهِ. فهَا هوَ النّسّابةُ العمريُّ المشهورُ مِن أعلامِ القرنِ الخامسِ الهجريِّ يُصرِّحُ فِي كتابهِ "المُجدِي في أنسابِ الطّالبيِّينَ" يقولُ ما نصُّهُ: ((وماتَ أبو محمَّدٍ عليهِ السّلامُ وولدهُ مِن نرجسَ عليهَا السّلامُ معلومٌ عندَ خاصَّةِ أصحابهِ وثِقاتِ أهلهِ، وسنذكرُ حالَ ولادتهِ والأخبارَ الّتي سمعناهَا بذلكَ، وامتُحِنَ المؤمنونَ بَل كافّةُ النّاسِ بغيبتهِ، وشَرِهَ جعفرٌ بنُ عليٍّ إلى مالِ أخيهِ وحالهِ فدفعَ أنْ يكونَ لهُ ولدٌ، وأعانهُ بعضُ الفراعنةِ على قبضِ جواري أخيهِ)). إنتهى [المُجدِي فِي أنسابِ الطّالبيِّينَ: 130].
ودمتُم سالِمينَ
اترك تعليق