«كورونا» يفتك بالعالم: نواجهه بـ «الدعاء» أم بـ «الأسباب الطبيعية»؟!

: الشيخ مقداد الربيعي

«كورونا» يفتك بالعالم: نواجهه بـ «الدعاء» أم بـ «الأسباب الطبيعية»؟!

 

يحكى عن أحدهم أنه التقى صديقه فسلم عليه وسأله متعجباً: يقولون إنك ميت؟ فأجابه: كذبوا وها أنا واقف أمامك حي أكلمك. فقال: لكن الناقل ثقة.

 

من محاسن فيروس كورونا (أجارنا الله وأياكم منه)، أنه كشف جهل الكثير من المدعين، لدرجة مخالفتهم الأمور القطعية التي لا نقاش فيها، فبالرغم من أن هذا المرض من أشد الأمراض عدوى وفتكاً بالناس، نجد هؤلاء يصرون على مخالفة متطلبات السلامة الصحية ومنع تفشي الوباء، وليس لهم على ذلك دليل إلا فهم سقيم، ضرورة أن سُنة الله في الكون هي سنة الأسباب([1])، وهذا ما أكدته عليه النصوص الدينية، فعن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن الحسين بن صغير، عمن حدثه، عن ربعي بن عبد الله، عن أبي عبد الله انه قال: ابى الله ان يجري الاشياء إلا بأسباب فجعل لكل شيء سببا([2]). والقرآن يحكم بصحة قانون العلية العامة بمعنى أن سبباً من الأسباب إذا تحقق مع ما يلزمه و يكتنف به من شرائط التأثير من غير مانع لزمه وجود مسببه مترتباً عليه بإذن الله سبحانه وإذا وجد المسبب كشف ذلك عن تحقق سببه لا محالة([3]). لذا فإن هذا الوباء نتيجة ومسبب طبيعي لسوء استخدام البشر لموارد الطبيعة، وهذا ما اعترف به القاصي والداني والمؤالف والمخالف، «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ»([4])،  وعليه فإذا توفرت أسباب ظهور الوباء حصل لا محالة، وهو جريرة من أساء استخدام الطبيعة، كما في قوله تعالى: «وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ»([5]).

 

لكن هل هذا يعني ان الله تبارك وتعالى فوض الأمر الى هذه الأسباب، بمعنى انه لا يقدر على منع تأثيرها لو أراد؟ وبعبارة أخرى: هل يقدر تعالى على منع انتشار عدوى الفيروس حتى مع وجوده؟

 

هذا السؤال يجرنا الى بحث (الاستطاعة) كما هو معنون في علم الكلام الإسلامي، وخلاصة القول فيه: إن وجود السبب وكل ما يملك من تأثير هو من الله تعالى، فلله ان يفيض عليه وجوداً يجعله ذا تأثير، وله ان يسلبه تأثيره بل حتى وجوده، ففي الاحتجاج،: فيما سأله عباية بن ربعي الأسدي عن أمير المؤمنين علي (عليه السلام) في معنى الاستطاعة، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): تملكها من دون الله أو مع الله؟ فسكت عباية بن ربعي فقال له قل يا عباية، قال: وما أقول يا أمير المؤمنين؟ قال: تقول تملكها بالله الذي يملكها من دونك، فإن ملككها كان ذلك من عطائه، وإن سلبكها كان ذلك من بلائه، وهو المالك لما ملكك والقادر على ما عليه أقدرك.. الحديث([6]).

 

وعليه فلله تبارك وتعالى أن يمنع من تأثير هذا الفيروس فهو المالك لما ملكه من تأثير والقادر على ما عليه أقدره.

 

والخلاصة: أن الله تعالى أجرى سُنة الكون على الأسباب، فإذا صدر من البشرية ما يوجب وجود هذا الفيروس صدر وأثر أثره، لكن هذا لا يعني ان الفيروس مستقل بتأثيره، بل يتوقف على إذنه تعالى وإرادته، فله منع ذلك كما له إمضائه وسريانه.  ومن هنا تأتي أهمية التوجه الى الله تعالى بالتضرع والدعاء، «قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ»([7])، وهو القائل: «فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمْ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»[8]).

 

والقرآن الكريم صريح في إثبات الارتباط بين فعل الانسان والحوادث الخارجية، فالأمة الطالحة إذا انغمرت في الرذائل والسيئات أذاقها الله وبال أمرها وآل ذلك إلى إهلاكها وإبادتها، قال تعالى: «أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَاراً فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمْ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ»([9])، وقال تعالى: «وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً»([10])، هذا كله في الأمة الطالحة، والأمة الصالحة على خلاف ذلك. ويجمع جملة الأمر آيتان من كتاب الله تعالى وهما قوله تعالى: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنْ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»([11]) ، و قوله تعالى: «ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ» ([12]).

 

يقول العلامة الطباطبائي في المقام مانصه: "فالحوادث الكونية تتبع الأعمال بعض التبعية، فجرى النوع الإنساني على طاعة الله سبحانه وسلوكه الطريق الذي يرتضيه يستتبع نزول الخيرات، وانفتاح أبواب البركات، وانحراف هذا النوع عن صراط العبودية، وتماديه في الغي والضلالة، وفساد النيات، وشناعة الأعمال يوجب ظهور الفساد في البر والبحر وهلاك الأمم بفشو الظلم وارتفاع الأمن وبروز الحروب وسائر الشرور الراجعة إلى الإنسان وأعماله، وكذا ظهور المصائب والحوادث المبيدة الكونية كالسيل والزلزلة والصاعقة والطوفان وغير ذلك، وقد عد الله سبحانه سيل العرم وطوفان نوح وصاعقة ثمود وصرصر عاد من هذا القبيل"([13]).

 

ومن هذه الحوادث المبيدة ما نجده اليوم من أوبئة تفتك بالبشر، فهي اولاً نتاج سلوك الإنسان الطائش في الطبيعة، وإنه تعالى سمح بتفشيه ولم يعصم هذه الأقوام منه نتيجة عصيانهم وجحودهم له، فأخطئوا مرتين، الأولى في فعل سلوكيات نتج منها الفيروس، والثانية في عدم اللجوء الى الله تعالى ليرحمهم ويجنبهم آثاره، فعن علي بن إبراهيم، عن ابيه ; وعدة من أصحابنا، عن أحمد بن محمد، جميعا عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن أبان، عن رجل، عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "خمس إن أدركتموهن فتعوذوا بالله منهن: لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوها إلا ظهر فيهم الطاعون والاوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا..". الحديث([14]). والطاعون هو الموت المسبب عن الوباء، كما عن الجوهري([15]). فلاحظ قوله عليه السلام (حتى يعلنوها)، ليتضح لك ان سبب الطاعون وهو الموت الناتج عن الوباء هو شيوع والتجاهر بالفاحشة كالزنا واللواط ونحوهما.

 

وبحسب ما تقدم فإنه تعالى يسمح بتفشي الأوبئة والتي هي اصلاً نتجت عن عدم مراعاة الإنسان للطبيعة، متى ما فشت فيهم الفاحشة. فلا سبيل لنا بعد الاستعانة بكل الوسائل والأسباب الطبية إلا الالتجاء الى الله تعالى بالاستغفار والتوبة، والتوسل اليه بأحب خلقه عليه، محمد واله صلوات الله عليهم أجمعين، عملاً بقوله صلى الله عليه وآله: "اعقلها وتوكل"، وهذا ما صرحت به كلماتهم عليهم السلام ، وهنا يعجبني ان اقتبس بعض كلمات الأخ العزيز والفاضل جناب الشيخ حيدر السندي (دام توفيقه)، حيث قال: وهذا المعنى نجده فيما رواه ثقة الإسلام الكليني(رحمه الله) عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ أَبِي إِبْرَاهِيمَ (علیه السلام) قَالَ: قَالَ لِي إِنِّي لَمَوْعُوكٌ‏ مُنْذُ سَبْعَةِ أَشْهُرٍ وَ لَقَدْ وُعِكَ ابْنِي اثْنَيْ عَشَرَ شَهْراً وَ هِيَ تَضَاعَفُ عَلَيْنَا أَ شَعَرْتَ‏ أَنَّهَا لَا تَأْخُذُ فِي الْجَسَدِ كُلِّهِ وَ رُبَّمَا أَخَذَتْ فِي أَعْلَى الْجَسَدِ وَ لَمْ تَأْخُذْ فِي أَسْفَلِهِ وَ رُبَّمَا أَخَذَتْ فِي أَسْفَلِهِ وَ لَمْ تَأْخُذْ فِي أَعْلَى الْجَسَدِ كُلِّهِ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ إِنْ أَذِنْتَ لِي حَدَّثْتُكَ بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ جَدِّكَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وُعِكَ‏ اسْتَعَانَ‏ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوْبَانِ ثَوْبٌ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَ ثَوْبٌ عَلَى جَسَدِهِ يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنَادِي حَتَّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ فَقَالَ صَدَقْتَ قُلْتُ جُعِلْتُ فِدَاكَ فَمَا وَجَدْتُمْ لِلْحُمَّى عِنْدَكُمْ دَوَاءً فَقَالَ مَا وَجَدْنَا لَهَا عِنْدَنَا دَوَاءً إِلَّا الدُّعَاءَ وَ الْمَاءَ الْبَارِدَ إِنِّي اشْتَكَيْتُ فَأَرْسَلَ إِلَيَّ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بِطَبِيبٍ لَهُ فَجَاءَنِي بِدَوَاءٍ فِيهِ قَيْ‏ءٌ فَأَبَيْتُ أَنْ أَشْرَبَهُ لِأَنِّي إِذَا قُيِّئْتُ زَالَ كُلُّ مَفْصِلٍ مِنِّي.

 

فإن هذه الرواية تدل على أمور:

 

الأول: أن الإمام الباقر (عليه السلام ) كان يستغيث بالصديقة الزهراء (عليها السلام) ، ويسمع ذلك الناس (ثُمَّ يُنَادِي حَتَّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ).

 

الثاني: أن هذا كان منه على نحو الاستمرار ، فقد كان تعبير الرواية : (بِحَدِيثٍ عَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ جَدِّكَ أَنَّهُ كَانَ إِذَا وُعِكَ‏ اسْتَعَانَ)وهذا يدل على أن هذا ديدنه وسيرته كلما توعك.

 

الثالث: هو أن الطريقة المثلى لطلب العلاج والشفاء الجمع بين السبب المتعارف و السبب الغيبي من الدعاء والاستغاثة ، وهذا ما بينته الرواية بعبارة (اسْتَعَانَ‏ بِالْمَاءِ الْبَارِدِ فَيَكُونُ لَهُ ثَوْبَانِ ثَوْبٌ فِي الْمَاءِ الْبَارِدِ وَ ثَوْبٌ عَلَى جَسَدِهِ يُرَاوِحُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ يُنَادِي حَتَّى يُسْمَعَ صَوْتُهُ عَلَى بَابِ الدَّارِيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ) و عبارة : (مَا وَجَدْنَا لَهَا عِنْدَنَا دَوَاءً إِلَّا الدُّعَاءَ وَ الْمَاءَ الْبَارِدَ) ([16]).

 

وفي الختام نسأل الله تبارك وتعالى أن يمن على سائر المسلمين بالحفظ والسلامة بجاه محمد واله الأطهار.

 

الهوامش:

 

([1])  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص17.
([2])  الحر العاملي، الفصول المهمة في أصول الأئمة، ص487.
([3])  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج1، ص39.
([4])  الروم: 41.
([5])  الشورى: 30.
([6])  محمد باقر، المجلسي، بحار الأنوار، ج5، ص26.
([7])  الفرقان: 77.
([8])  الانعام: 42 ـ 43.
([9])  المؤمن: 21.
([10])  الأسراء: 16.
([11])  الأعراف: 96.
([12])  الروم: 41.
([13])  الطباطبائي، محمد حسين، الميزان في تفسير القرآن، ج2، ص104.
([14])  الكليني، محمد بن يعقوب، الكافي، باب في عقوبات المعاصى العاجلة، ص373.
([15])  شرح أصول الكافي، ص47.
([16])  الكافي (ط - الإسلامية) ؛ ج‏8 ؛ ص109.

 

المرفقات