ظاهرة بكاء الشيعة على الحسين (عليه السلام) لماذا؟
مقدمة:
قد تتعدد الإجابات وتتنوع والسؤال واحد، ولذلك أسباب عدة منها: وقد يكون أهمها، اختلاف السائل وخلفيته الفكرية أو الدينية، ينطبق ذلك إلى حد بعيد على ما نحن فيه.
المقصود هنا السؤال عن ما يشاهده الناس في الشيعة من بكاء متجدد في كل سنة وفي أكثر من مناسبة، في العاشر من محرم يوم استشهد الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام) وكذلك في العشـرين من صفر، يوم الأربعين.
ما جدوى هذا البكاء والفائدة منه؟ لماذا يصـرُّ الشيعة على البكاء؟
بين يديك سطور مختصـرة عن هذه الظاهرة، وهي على إيجازها الشديد فيها تنوع في الإجابة فهذا السؤال قد يطرقه من لا يؤمن بالدين فضلاً عن الإسلام، وبعض ما جاء في المبحث الأول يتناسب معه، وقد يسأله مسلم شيعي أو غير شيعي، والجواب بحسبه في المبحث الثاني، و كلٍ من المبحثين مطالب ثلاثة.
اليك عناوين المبحثين بما فيهما من مطالب:
- المبحث الأول: مشـروعية البكاء على الميت.
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: البكاء في العلم والفلسفة والدين.
المطلب الثاني: المسلمون والبكاء على الميت.
المطلب الثالث: دليل النهي عن البكاء ـ عرض ونقد
- المبحث الثاني: البكاء على سيد الشهداء.
المطلب الأول: خصائص البكاء على سيد الشهداء.
المطلب الثاني: البكاء على الحسين في مصادر العامة.
المطلب الثالث: إشكالات ومعالجات.
المبحث الأول
مشروعية البكاء على الميت
المطلب الأول: البكاء في العلم والفلسفة والدين.
في العلم:
1- في عام 1981، اكتشف الطبيب النفسـي "وليام إتش. فراي الثاني" في ولاية مينيسوتا الأمريكية أن الدموع التي نذرفها عند مشاهدة أفلام حزينة، تحتوي على نسبة أكبر من البروتين، مقارنة بالدموع التي نذرفها كاستجابة تلقائية لشـرائح البصل التي تقطع بجوارنا.
2- وفي دراسة نشـرت عام 1986، توصل أحد علماء النفس إلى أن 94 في المئة من المقالات التي تناولت البكاء في الصحف والمجلات الشهيرة في الولايات المتحدة ذكرت أن البكاء ساعد في تخفيف العديد من التوترات النفسية.
3- وتوصلت دراسة أخرى أُجريت عام 2008، وشملت نحو 4300 شخص بالغ من 30 دولة، إلى أن معظم هؤلاء الأشخاص حققوا تحسنا في الحالة النفسية والبدنية لديهم بعد مرورهم بنوبة بكاء(1).
في الفلسفة والأدب:
- أرسطو: البكاء ينظف العقل.
- شيكسبير: أن تبكي هو أن تخفف من عمق الأحزان .
- موسيه: دموع العين اجمل من ابتسامة الشفتين.
- كامبل: دموع الجميلة احلى من ابتسامتها.
- هاريك: الدموع لغة العين.
- فولتير: الدموع لغة الحزن الصامتة.
- ديكنز: الدموع تفتح الصدور وتغسل العيون وتلطف الاطباع.
- روبرت هاريس: انبل اللغات الدموع.
- هانز: الدموع عطية الهية ونعمة دعها تترقرق وتسيل(2).
في الشعر:
- الحطيئة:
اذا ما العين فاض الدمع منها
اقول بها قذى وهو البكاء.
- الفرزدق:
سابكيك حتى تنفد العين ماءها
ويشفي مني الدمع ما اتوجع
- ديك الجن:
ويعذلني السفيه على بكائي
كانّي مبتلى بالحزن وحدي(3)
البكاء في القرآن:
في القرآن الكريم سبع آيات تتحدث عن البكاء لفظاً او معنى، إذا استثنينا قوله تعالى: (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى)( النجم: 43) وقد قيل في تأويلها:
"أراد به الضحك والبكاء المتعارف عليهما بين الناس، فهو الذي يجريه ويخلقه".
ويقال: أضحك الأرض بالنبات، وأبكى السماء بالمطر.
ويقال: أضحك أهل الجنة بالجنة، وأبكى أهل النار بالنار.
ويقال: أضحك المؤمن في الآخرة وأبكاه في الدنيا، وأضحك الكافر في الدنيا وأبكاه في الآخرة.
ويقال: أضحكهم في الظاهر، وأبكاهم بقلوبهم.
ويقال: أضحك المؤمن في الآخرة بغفرانه، وأبكى الكافر بهوانه.
ويقال: أضحك قلوب العارفين بالرضا، وأبكى عيونهم بخوف الفراق.
ويقال: أضحكهم برحمته، وأبكى الأعداء بسخطه(4).
وبالعودة لآيات البكاء: لم يرد في الآيات ذمٌ للبكاء، وعلى العكس وردتْ في مدحه وخصوصاً إذا كان من خشية الله تعالى:
1- (إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)( مريم: 58).
2- (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ)( يوسف: 84).
3- (وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا)(الإسراء: 109).
4- (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ)( المائدة: 83).
5- (تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ)( التوبة: 92).
6- (وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ)(النجم: 60).
7- (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)( التوبة: 82).
في السُنة:
أ- عند الشيعة:
عنون ثقة الاسلام في الكافي باباً في البكاء واخرج فيه احد عشـر حديثا نورد اثنين معتبرين منها هما السابع والثامن من الباب:
1- عن إسحاق بن عمار قال: قلت لابي عبد الله (عليه السلام): أكون أدعو فأشتهي البكاء ولا يجيئني وربما ذكرت بعض من مات من أهلي فأرق وأبكي فهل يجوز ذلك؟ فقال: نعم فتذكرهم فإذا رققت فابك وادع ربك تبارك وتعالى.
2- وعن عنبسة العابد قال: قال أبوعبد الله (عليه السلام): إنْ لم تكن بك بكاء فتباك(5).
ب ـ عند أهل السنة والجماعة:
1- وفي البخاري عن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: "سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ...عد منهم: رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه".
2- وفي البخاري أيضاً عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ قَالَ: "قَالَ لِي النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اقْرَأْ عَلَيَّ قُلْتُ آقْرَأُ عَلَيْكَ وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ قَالَ فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي فَقَرَأْتُ عَلَيْهِ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى بَلَغْتُ: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا" قَالَ : أَمْسِكْ ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ"(6).
البكّاءون خمسة:
روى الصدوق حديثاً بسنده مرفوعاً إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: البكّاءون خمسة:
آدم ويعقوب ويوسف وفاطمة بنت محمد وعلي بن الحسين (عليه السلام).
1- فأما آدم فبكى على الجنة حتى صار في خديه أمثال الأودية.
2- وأما يعقوب فبكى على يوسف حتى ذهب بصـره وحتى قيل له (تَاللهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ).
3- وأما يوسف فبكى على يعقوب حتى تأذى به أهل السجن فقالوا له إما أن تبكي الليل وتسكت بالنهار وإما أن تبكي النهار وتسكت بالليل فصالحهم على واحد منهما.
4- أما فاطمة فبكت على رسول الله (صلى الله عليه وآله) حتى تأذى بها أهل المدينة فقالوا لها قد آذيتنا بكثرة بكائك فكانت تخرج إلى المقابر مقابر الشهداء فتبكي حتى تقضـي حاجتها ثم تنصرف.
5- وأما علي بن الحسين فبكى على الحسين (عليه السلام) عـشرين سنة أو أربعين سنة ما وضع بين يديه طعام إلا بكى حتى قال له مولى له جعلت فداك يا ابن رسول الله إني أخاف عليك أن تكون من الهالكين قال إنما أشكو بثي وحزني إلى الله وأعلم من الله ما لا تعلمون إني ما أذكر مصـرع بني فاطمة إلا خنقتني لذلك عبرة(7).
المطلب الثاني: المسلمون والبكاء على الميت.
في هذا المطلب تضيق دائرة البحث، فالمطلب السابق كان يهتم بظاهرة البكاء بشكل عام بصـرف النظر عن أسبابه وموارده ، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى لم يأخذ وجهة نظر فئة محددة من الناس، أما في هذا المطلب فتخصص الموضوع أكثر وتضيق لأمرين:
فأولاً: نفس الموضوع المبحوث عنه، فبعد أن كان البكاء تكون البكاء على الميت لا عموم البكاء.
وثانياً: أخذ منظور جماعة محددة من البشـر أعني موقف خصوص المسلمين من البكاء على الميت.
وبذلك يكون السؤال الذي يسعى هذا المطلب لجوابه هو: ما موقف المسلمين من البكاء على الميت؟
أـ موقف المذاهب الاربعة.
أتفق العامة بمذاهبهم الفقهية الأربعة على جواز البكاء على الميت لكن دون صوت فيما اختلفوا فيما كان بصوت فذهبت المالكية والحنفية للتحريم بينما ذهبت الشافعية والحنابلة للتحليل.
في مبحث البكاء على الميت، يقول الجزيري (المتوفى: 1360هـ):
"يحرم البكاء على الميت برفع الصوت والصياح، عند المالكية، والحنفية، وقال الشافعية، والحنابلة: إنه مباح، أما هطل الدموع بدون صياح فإنه مباح باتفاق".
وكذلك لا يجوز الندب؛ وهو عد محاسن الميت بنحو قوله: واجملاه، واسنداه، ونحو ذلك، ومنه ما تفعله النائحة "المعددة" كما لا يجوز صبغ الوجوه، ولطم الخدود، وشق الجيوب، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من لطم الخدود، وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية" رواه البخاري؛ ومسلم.
هذا ولا يعذب الميت ببكاء أهله المحرم عليه، إلا إذا أوصى به، وإذا علم أنه أهله سيبكون عليه بعد الموت، وظن أنهم لو أوصاهم بتركه امتثلوا ونفذوا وصيته، وجب عليه أن يوصيهم بتركه، وإذا لم يوص عذب ببكائهم عليه بعد الموت"(8).
ب ـ موقف اهل البيت (عليهم السلام).
ما قاله الشافعية والحنابلة وإن كان هو الاقرب لرأي اهل البيت (عليهم السلام) اذا ما قيس برأي المالكية والحنفية من جهة الحكم بالاباحة بيد أنّهم يحرمون ما زاد على البكاء من نياحة او صياح وما اشبه الأمر الذي لا دليل على حرمته، بل الدليل ناهض على إباحته، وإليك أدلة الإباحة:
أدلة جواز البكاء على الميت :
الأول: الأصل فإن كل ما لم يقم دليل على حرمته في الشـريعة المقدسة فهو محكوم بالحلية ولم يدلنا دليل على حرمة البكاء على الميت.
الثاني: السيرة المستمرة المتصلة بزمان المعصومين (عليهم السلام) ولم يردعوا عنها بوجه فلو كان البكاء على الميت محرما لانتشـرت حرمته ووصلت إلينا متواترة لكثرة الابتلاء بالأموات والبكاء عليهم.
الثالث: الأخبار الواردة في أن النبي (صلى الله عليه وآله) بكى على إبراهيم وقال "تدمع العين ويحزن القلب ولا نقول ما يسخط الرب" وبكي (صلى الله عليه وآله) أيضا على جعفر بن أبي طالب وزيد بن حارثة.
وكذلك بكت الصديقة (عليها السلام) على رقية بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) وعلى أبيها - صلوات الله عليه وآله - وبكى علي بن الحسين على شهداء الطف مدة مديدة بل عدت الصديقة الطاهرة وزين العابدين عليهما السلام من البكائين الخمسة لكثرة بكائهما.
بل ورد الأمر بالبكاء عند وجدان الوجد على الميت في رواية الصيقل فراجع.
نعم: ورد في حسنة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) "كل الجزع والبكاء مكروه ما سوى الجزع والبكاء لقتل الحسين(عليه السلام)".
إلا أنه في مقابل السيرة والأخبار لا بد من تأويل الكراهة فيها بحملها على كون البكاء مكروها عرفيا لعدم مناسبته مع الوقار والعظمة والمنزلة ومن ثمة لم ير بعض الأعاظم ( قده ) باكيا على ولده المقتول لدى الناس وقالوا: إنه كان يبكي عليه في الخلوات في داره لا أنه مكروه شرعي أو يحمل على أن مجموع الجزع والبكاء مكروه فإن الجزع غير مرغوب فيه شرعا إلا على أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) (9).
تنبيهات :
1- الروايات المشار لها في الدليل الثالث متواترة تواتراً معنوياً ، قال في الجواهر: "لا ريب في جواز البكاء على الميت نصا وفتوى للأصل، والأخبار التي لا تقصـر عن التواتر معنى"(10).
2- ويضاف للأدلة: الإجماع ، فقد نص عليه غير واحد من الأعلام، منهم صاحب الحدائق، قال: الظاهر أنه لا خلاف نصا وفتوى في جواز البكاء على الميت قبل الدفن وبعده(11).
3- رواية الصيقل المشار لها أعلاه هي ما رواه الكليني باسناده عن مُحَمَّدِ بْنِ مَنْصُورٍ الصَّيْقَلِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: "شَكَوْتُ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) وَجْداً وَجَدْتُهُ عَلَى ابْنٍ لِي هَلَكَ حَتَّى خِفْتُ عَلَى عَقْلِي فَقَالَ إِذَا أَصَابَكَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ فَأَفِضْ مِنْ دُمُوعِكَ فَإِنَّهُ يَسْكُنُ عَنْكَ"(12).
والخلاصة: إنّ الأدلة على جواز البكاء على الميت أربعة:
1ـ أصالة الإباحة.
2ـ الاجماع.
3ـ والروايات المتواترة.
4ـ السيرة المتصلة بالأئمة.
المطلب الثالث: نقد حديث: الميت يعذب ببكاء أهله.
روى البخاري ومسلم حديث: إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه، وبصـرف النظر عن الفصيلات، فقد أجمعوا على أنه محمول على البكاء بصوت ونياحة لا بمجرد الدمع وحمله عامة أهل العلم على ما إذا أوصى بذلك، وأما من بكوا عليه وناحوا من غير وصية فلا لقوله تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)(13) وعلى الحديث جملة من المناقشات والنقود نجملها في نقاط كالآتي:
اولاً: الاختلاف في نقل الحديث ورد عائشة له:
ثمة أمران يدخلان تحت هذا النقد:
اولاً: رفض عائشة للحديث برواية عمر وابنه عبد الله، وثانياً: لعائشة رواية أخرى ، وهذا يؤسس عنوانا جديداً "اختلاف لفظ الحديث".
وقد عبرتْ عائشة عن ذلك بأكثر من عبارة ولها أكثر من لفظ في هذا السياق، ففي أحدها تقول: ان عبد الله بن عمر راوي الحديث وهلَ ـ كما في البخاري ـ او نسـي او اخطأ وان اللفظ الصحيح "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ".
وفي تعبير آخر تقول : إنّ الصحيح هو: "إِنَّ الْكَافِرَ يَزِيدُهُ اللهُ بِبُكَاءِ أَهْلِهِ عَذَابًا" وان عمر وابنه قد اخطئا السمع وليسا بكاذبين او مكذّبَين.
وفي ثالث ترى أنّ ابن عمر: "سَمِعَ شَيْئًا فَلَمْ يَحْفَظْهُ، إِنَّمَا مَرَّتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَنَازَةُ يَهُودِيٍّ، وَهُمْ يَبْكُونَ عَلَيْهِ، فَقَالَ: أَنْتُمْ تَبْكُونَ، وَإِنَّهُ لَيُعَذَّبُ".
وغير ذلك كله تفيد أيضاً : "إِنَّمَا مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى يَهُودِيَّةٍ يُبْكَى عَلَيْهَا، فَقَالَ: "إِنَّهُمْ لَيَبْكُونَ عَلَيْهَا، وَإِنَّهَا لَتُعَذَّبُ فِي قَبْرِهَا» كل ذلك في مسلم"(14).
ثانياً: مخالفة الحديث للفطرة والعقل والقران:
1- أما مخالفته للفطرة ،فواضح بعد الالتفات إلى أنّ البكاء ظاهرة فطرية في الإنسان كما مرّ عليك، مضطر إليه ومجبول عليه عند حدوث أسبابه كفقد عزيز عليه، ولا شك أنّ أحكام الإسلام لا تتعارض بحال مع فطرة! )فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)( الروم: 30).
2- وأما مخالفته للعقل ، فلمنافته للعدل الإلهي فما هو ذنب الميت ليعذب بفعل غيره وهو بكاء اهله ؟! وفي هذا السياق يقول المفيد (توفي سنة: 413 هـ ): "إن هذا جور لا يجوز في عدل الله تعالى وحكمته، وإنما الخبر فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله) مر بيهودي قد مات وأهله يبكون عليه، فقال إنهم يبكون عليه وإنه ليعذب ولم يقل إنه معذب من أجل بكائهم عليه. وهذا مذهب أهل العدل كافة ويخالف فيه أهل القدر والإجبار"(15).
3- ومخالفته للقرآن حتمية ، فإنّه يقرر أنّ (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ) (المدثر: 38) وأنّ الوزر لا يتحمله إلا وازره: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)( الأنعام: 164) وقضية أنّ الانسان لا يؤاخذ إلا بذنبه مسلّمة قرآنية: (وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) ( الجاثية: 22) ودفع هذه المعارضة بـما إذا كان البكاء بصوت أو إذا أوصى الميت بذلك لا دليل عليه ولا ترتفع به المعارضة بين الحديث وبين آيات الكتاب العزيز.
ثالثاً : التوجيه المقبول للحديث .
لم يرد حديث: *إنّ الميت ليعذب ببكاء أهله عليه* إلا عن طريق عبد الله بن عمر وأبوه ، وهو مخالف لما تواتر عن أهل البيت الذين حصـر تلقي الدين ومعارفه بهم، وهذه في الحقيقة قادحٌ آخر للحديث، بيد أنّا هنا نقبله لكن لا برواية عبد الله بن عمر، بل بما مرّ عن عائشة من أنّ ثمة خطأ او نسيان وقع في سماعه عن النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله) وان الصيغة الصحيحة له "إِنَّهُ لَيُعَذَّبُ بِخَطِيئَتِهِ وَذَنْبِهِ ، وَإِنَّ أَهْلَهُ لَيَبْكُونَ عَلَيْهِ الآنَ" او غيرها من الصيغ التي تؤدي نفس هذا المعنى، أكّد المفيد ذلك بقوله أعلاه: وإنما الخبر فيه أن النبي (صلى الله عليه وآله) مر بيهودي قد مات وأهله يبكون عليه، فقال إنهم يبكون عليه وإنه ليعذب ولم يقل إنه معذب من أجل بكائهم عليه(16).
المبحث الثاني
البكاء على سيد الشهداء
في المبحث الأول كان الحديث يدور حول جواز البكاء على الميت، أما في هذا المبحث فالكلام عن استحباب البكاء كما تفيد أخبار العامة والخاصة (لا مجرد جوازه) وعلى سيد الشهداء الإمام الحسين بن علي لا عن عموم الميت، وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: خصائص البكاء على سيد الشهداء:
ورد في استحباب البكاء على الإمام الحسين ما يصعب إحصائه حتى، ويمكن تصديق ذلك بمراجعة سريعة للكتب وللمجامع الحديثية كالوسائل والبحار وغيرها، قد عقد فيها أبواباً كاملة في هذا الإطار، بل ثمة كتب مختصة بذلك ككتاب كامل الزيارات مثلاً، ونظراً لتعسـر جمع الأحاديث وسردها قمنا بوضع بعض القواعد والفوائد ويصح أيضاً اعتبارها خصائص البكاء على الحسين المستفادة من تلكم الأخبار، واقتصـرنا على سبعٍ منها لئلا يطول بنا المقام:
1- *كل جزع مكروه إلا الجزع على الحسين*:
ومستند ذلك عدة روايات واحدة منها رواية شيخ الطائفة الطوسي عن المفيد عن ابن قولويه عن أبيه عن سعد عن ابن عيسى عن ابن محبوب عن أبي محمد الأنصاري عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال :كل الجزع والبكاء مكروه سوى الجزع والبكاء على الحسين (عليه السلام) (17).
2- "كل عين باكية إلا عين بكت الحسين":
ودليلها ما عن أمير المؤمنين في حديث طويل جاء فيه: " كلّ عين يوم القيامة باكية وكلّ عين يوم القيامة ساهرة، إلّا عين من اختّصه الله بكرامته وبكى على ما ينتهك من الحسين وآل محمّد عليهم السلام كما ما رواه الصدوق باسناده عن الصادق عن آبائه عن أمير المؤمنين(18).
3- *لم تبك السماء والأرض إلا على الحسين ويحيى بن زكريا*.
ومستندها عدة أحاديث منها الحديث المعتبر الذي رواه ابن قولويه بسندين في كامل الزيارات عن عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : كان قاتل يحيى بن زكريا ولد زنا و كان قاتل الحسين (عليه السلام) ولد زنا و لم تبك السماء إلا عليهما(19).
4- "البكاء مبطل للصلاة إلا ما كان لسيد الشهداء".
فقهياً يعد تعمد البكاء أثناء الصلاة من مبطلاتها ، ويستثني الفقهاء من هذا الحكم البكاء من خشية الله والبكاء على سيد الشهداء ، ففي منهاج الصالحين وعن سادس مبطلات الصلاة جاء:
"تعمد البكاء على الأحوط سواء المشتمل على الصوت، وغير المشتمل عليه إذا كان لأمور الدنيا، أو لذكر ميت، فإذا كان خوفاً من الله تعالى، أو شوقاً إلى رضوانه، أو تذللاً له تعالى، ولو لقضاء حاجة دنيوية، فلا بأس به، وكذا ما كان منه على سيد الشهداء (عليه السلام)إذا كان راجعاً إلى الآخرة"(20).
يعمم الحكم بعض الفقهاء ليشمل سائر المعصومين ، ففي استفتاء بهذا الخصوص وجه للسيد الخوئي نصه: "ما حكم البكاء اثناء الصلاة علن مصاب احد المعصومين- عدا الامام الحسين - بما يكون راجعا للاخرة ؟. أجاب عنه بالقول: هو راجح ، ولا ينافي الصلاة، والله العالم"(21).
5- "البكاء على الحسين ثابت بفحوى الخطاب القرآني".
المقصود بفحوى الخطاب هو مثل قوله تعالى: (فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ) (الإسراء: 23) التي تدل من باب أولى على حرمة ضرب الوالدين، والمقصود هنا هو بكاء يعقوب حتى (ابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ) (يوسف: 84) على يوسف الذي لم يقع عليه شيء مما وقع على أصحاب وأبناء الإمام الحسين فضلا عما وقع للإمام نفسه، وجاء هذا المعنى في حديث رواه ابن قولويه بسنده عن الإمام السجاد (عليه السلام): "لقد شكا يعقوب إلى ربه في أقل مما رأيت حتى قال يا أسفى على يوسف أنه فقد ابنا واحدا وأنا رأيت أبي وجماعة أهل بيتي يذبحون حولي"(22).
6- *من قال شعراً وبكى أو تباكى وأبكى على الحسين له الجنة*.
وجاء مؤكداً هذا المضمون أحاديث، وقد عقد ابن قولويه بابا في كتابه: كامل الزيارات عنوانه: من قال في الحسين شعراً فبكى وأبكى، روى فيه بسنده عن أبي هارون المكفوف قال قال لي أبو عبد الله(عليه السلام):
"يا أبا هارون أنشدني في الحسين(عليه السلام) فأنشدته قال: قال لي أنشدني كما ينشدون يعني بالرقة قال فأنشدته هذا الشعر: امرر على جدث الحسين فقل لأعظمه الزكية".
قال فبكى ثم قال زدني فأنشدته القصيدة الأخرى قال فبكى و سمعت البكاء من خلف الستر قال فلما فرغت قال يا أبا هارون من أنشد في الحسين (عليه السلام)شعرا فبكى وأبكى عشـرة كتب لهم الجنة ومن أنشد في الحسين (عليه السلام)شعرا فبكى وأبكى خمسة كتب له الجنة ومن أنشد في الحسين(عليه السلام) شعرا فبكى وأبكى واحداً كتب لهم الجنة، ومن ذكر الحسين (عليه السلام) عنده فخرج من عينيه مقدار جناح ذبابة كان ثوابه على الله عز و جل و لم يرض له بدون الجنة(23).
7- "الحسين ينظر ويستغفر لباكيه".
ومستنده ما وراه ابن قولويه بسنده عن الصادق (عليه السلام) إنّ الحسين "لينظر إلى من يبكيه فيستغفر له ويسأل أباه الاستغفار له و يقول أيها الباكي لو علمت ما أعد الله لك لفرحت أكثر مما حزنت و إنه ليستغفر له من كل ذنب و خطيئة"(24).
المطلب الثاني: البكاء على الحسين في مصادر العامة.
خشية الملل الناتج عن الإطالة سأنقل أربعة حقائق فقط وردت في أحاديث صحيحة وآثار معتبرة عند أهل السنة والجماعة فيما يخص مسألة البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام):
الحقيقة الأولى: *بكاء النبي على الحسين والإخبار عن مقلته وعن كربلاء*.
وفيها أحاديث ، فيما يلي اثنان فقط:
الحديث الأول : عن علي (عليه السلام): "قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ وَعَيْنَاهُ تَفِيضَانِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ، أَغْضَبَكَ أَحَدٌ؟ مَا شَأْنُ عَيْنَيْكَ تَفِيضَانِ؟ قَالَ: بَلْ قَامَ مِنْ عِنْدِي جِبْرِيلُ قَبْلُ، فَحَدَّثَنِي أَنَّ الْحُسَيْنَ يُقْتَلُ بِشَطِّ الْفُرَاتِ. قَالَ: فَقَالَ: هَلْ لَكَ أَنْ أُشِمَّكَ مِنْ تُرْبَتِهِ. قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ: فَمَدَّ يَدَهُ فَقَبَضَ قَبْضَةً مِنْ تُرَابٍ فَأَعْطَانِيهَا، فَلَمْ أَمْلِكْ عَيْنَيَّ أَنْ فَاضَتَا"(25).
الحديث الثاني : عَنْ أُمِّ سَلَمَةَ قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَالِسًا ذَاتَ يَوْمٍ فِي بَيْتِي قَالَ: " لَا يَدْخُلُ عَلَيَّ أَحَدٌ ". فَانْتَظَرْتُ فَدَخَلَ الْحُسَيْنُ، فَسَمِعْتُ نَشِيجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَبْكِي، فَاطَّلَعْتُ فَإِذَا حُسَيْنٌ فِي حِجْرِهِ وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ جَبِينَهُ وَهُوَ يَبْكِي، فَقُلْتُ: وَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ حِينَ دَخَلَ، فَقَالَ: إِنَّ جِبْرِيلَ – عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مَعَنَا فِي الْبَيْتِ، فَقَالَ: أَتُحِبُّهُ؟ قُلْتُ: أَمَّا فِي الدُّنْيَا فَنَعَمْ. قَالَ: إِنَّ أُمَّتَكَ سَتَقْتُلَ هَذَا بِأَرْضٍ يُقَالُ لَهَا: كَرْبَلَاءُ، فَتَنَاوَلَ جِبْرِيلُ مِنْ تُرْبَتِهَا. فَأَرَاهَا النَّبِيَّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا أُحِيطُ بِحُسَيْنٍ حِينَ قُتِلَ قَالَ: مَا اسْمُ هَذِهِ الْأَرْضِ؟ قَالُوا: كَرْبَلَاءُ، فَقَالَ: صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ; كَرْبٌ وَبَلَاءٌ"(26).
الحقيقة الثانية: ام سلمة تبكي وترى النبي في المنام يبكي:
روى الحاكم النيسابوري في المستدرك على الصحيحين بسنده عن سلمى قَالَتْ: "دَخَلْتُ عَلَى أُمِّ سَلَمَةَ، وَهِيَ تَبْكِي فَقُلْتُ: مَا يُبْكِيكِ؟ قَالَتْ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَنَامِ يَبْكِي وَعَلَى رَأْسِهِ وَلِحْيَتِهِ التُّرَابُ، فَقُلْتُ: مَا لَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: «شَهِدْتُ قَتْلَ الْحُسَيْنِ آنِفًا"(27).
الحقيقة الثالثة: آيات كونية وبكاء الأرض والسماء والجن:
وفيما يلي خمسة آثار صحيحة نقلها الهيثمي في مجمع الزوائد:
1ـ عن الزهري قال: لم ترفع حصاة ببيت المقدس إلا وجد تحتها دم عبيط.
2ـ وعنه أيضاً قال: ما رفع بالشام حجر يوم قتل الحسين بن علي إلا عن دم.
3ـ عن أم حكيم قالت: قتل الحسين وأنا يومئذ جويرية فمكثت السماء أياماً مثل العلقة.
4ـ وعن أبي قبيل قال: لما قتل الحسين بن علي انكسفت الشمس كسفة حتى بدت الكواكب نصف النهار حتى ظننا أنها هي.
5ـ عن أم سلمة وميمونة أيضاً قالتا : سمعت الجن تنوح على الحسين بن علي(28).
الحقيقة الرابعة : الحسين: من دمعت عيناه فينا له الجنة.
فقد روى أحمد ابن حنبل في فضائل الصحابة باسناد صحيح، قال: "حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِسْرَائِيلَ قَالَ: رَأَيْتُ فِي كِتَابِ أَحْمَدَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللهُ بِخَطِّ يَدِهِ: نا أَسْوَدُ بْنُ عَامِرٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ قثنا الرَّبِيعُ بْنُ مُنْذِرٍ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ يَقُولُ: مَنْ دَمَعَتَا عَيْنَاهُ فِينَا دَمْعَةً، أَوْ قَطَرَتْ عَيْنَاهُ فِينَا قَطْرَةً، أَثْوَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجَنَّةَ"(29).
المطلب الثالث: إشكالات ومعالجات .
• الاشكال الاول: هل يعقل ان مجرّد البكاء والدمعة تدخل الانسان الجنة؟!
الجواب : هذا الاشكال ينجر الى جميع ما ورد عن الشارع المقدس وإلا فإن حكمت ضابطة التساوي بينهما فلا تناسب ايضا بين عمل الانسان في الدنيا عمل ما عمل وبين الجنة التي عرضها السموات والارض وفيها ما لاعين رات ولا اذن سمعت ولا خطر على بال احد ، ولهذا ندعو اللهم لا تعاملنا بعدلك*.
ومن جانب آخر فإنّ الواهب تختلف الهبة الى ان نصل الى اجود الاجودين واكرم الاكرمين فلا يقاس الجزاء حينئذ بالفعل والعمل وانما يلحظ فيه كرم الواهب المجازي وجوده وكما يقال في المثل: إنّ الهدايا على مقدار مُهديها (30) وفي غير أكثر من آية يؤكد القرآن ما نقول من أنّ الجزاء الإلهي عطاء غير محدود يفوق العمل بما لا يتناهى عمل الإنسان: منها: قوله تعالى: (مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) ( البقرة : 261) ومنها : (مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشـرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) (الأنعام : 160) ومنها أيضاً: (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) ( البقرة : 245).
• الاشكال الثاني : تتضمن أحاديث البكاء السالفة دعوة للتحلل وتهوين بالذنوب وعدم الاكتراث بالمعاصي، إنّها تفتح شهية العاصين وتجرأهم على أفعالهم وتزرع في نفوسهم الاستخفاف بالذنوب فيفعل المذنبون ما شاءوا ثمّ يبكوا الحسين وينتهي كل شيء.
الجواب:
أولاً : ينقض على هذا الإشكال بآيات قرآنية من قبيل قوله تعالى : (إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا) ( النساء: 31) وبأحاديث من السنة مثل ما جاء عن النبي (صلى الله عليه وآله) قوله: "مَا مِنْ عَبْدٍ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ ثُمَّ مَاتَ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قُلْتُ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ قَالَ وَإِنْ زَنَى وَإِنْ سَرَقَ عَلَى رَغْمِ أَنْفِ أَبِي ذَرٍّ".
ثانيا: ثمة ثلاثة مستويات من الحل لهذه الإشكالية:
1ـ إنّ دخول الجنة لا ينفي العذاب قبله ,وللعذاب أنواع منه: عذاب الحسـرة فاللجنة درجات و للنار دركات، ولهذا ذكر القران من اسماء يوم القيامة "يوم الحسـرة" لتحسـر الكافر على كفره والمسـيء على اساءته والمحسن لقلة بضاعته واحسانه.
2ـ البكاء اقتضائي للجزاء كدخول الجنة لا علة تامة له، بمعنى أنّ تأثير البكاء على الإمام الحسين في دخول الجنة كتأثير الوقود في المحرك، وتأثير النار في إحراق الورقة لا يتم كل ذلك مالم تتوفر الشـروط وتنتفي الموانع.
3ـ حتى لو قبلنا أنّ البكاء علة تامة كافية لدخول الجنة فلن يترتب اللازم المذكور في الإكشال أعني لا يترتب عليه الاستهانة بالمعاصي لعدم ضمان العاصي لحياته حين المعصية وبعدها قبل البكاء .
• الاشكال الثالث: البكاء ينافي الرضا بقضاء الله وقدره والصبر على المصيبة لقوله تعالى: (الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ) ( البقرة: 156).
الجواب : علاوة على أنّه مخالفة هذا الفهم لما ثبت عن النبي (صلى الله عليه وآله) ومن قبله يعقوب على يوسف كما أسلفنا، فإنّ اثبات الشـيء لا ينفي ما عداه، أو كما تقرر في الأصول: لا تنافي بين المثبِتَات، سيّما وأنّنا هنا بين حال ومقال، حال يقتضـي البكاء وقول: إنّا لله وإنّا إليه راجعون، لا بين حالين ولا بين مقالين، والأهمّ من ذلك كله أنّ الأحاديث استثنت البكاء والجزع عن الامام الحسين (عليه السلام) من سائر البكاء والجزع كما مرّ علينا.
في الختام:
إذا كان البكاء حالة صحية كما يؤكد العلم، منسجم مع الفطرة والدين والفلسفة ومؤشر على النضوج العقلي والصفاء الروحي، ومتأصل في الكائن البشـري ، عندئذٍ وبموجب قاعدة: الأصل لا يسأل عنه، وإنما يسأل عما خرج عن الأصل ينقلب السؤال:
من: لماذا نبكي على الحسين؟!
إلى: لماذا لا نبكي على الحسين؟!
"فعلى مثل الحسين فليبك الباكون"(31).
اترك تعليق