إشكالية انحصار النبوة في الشرق الاوسط

: السيد علي الحسيني

مقدمة: 

تهتمُّ هذه الأوراق بتساؤلٍ إشكالي، موضع سهامه: النبوة ، بوصفها ظاهرة خاصة في منطقة الشـرق الأوسط، دون سائر بقاع الأرض.

وبعد أن ذاع صيت الإثارة الفتية في الفضاءات اللادينية، دونما مقاربة جادّة ـ فيما أعلم ـ أخذ البحث على عاتقه تحليل بنيتها ، وما اختزلتْه من أصولٍ وتساؤلات؛ تمهيداً لتفكيكها ونقدها ومحاولة الإجابة عنها، إجابةً قوامها: المنهج العقلي والاستدلال المنطقي .

لا حاجة لتكثير الكلمات ، وتسطير العبارات لبيان أهمية معالجة الإشكالية؛ فهي تحدٍ حقيقيٍّ للدين الإبراهيمي، بتمثلاته الواقعية والتاريخية (اليهودية والمسيحية والإسلام ) التي لا يقوم لها عمود، ولا يخـضرّ لها عود دون النبوة، والإشكالية إنّما تتمركز وتستهدف هذا العمود !

يتكون البحث من: مدخل، وثلاثة فصول، وخاتمة، جاء المدخل بعرض وتحليل لهذه الإشكالية، تحليلاً أفضى لردها إلى ثلاثة اسئلة، وبعد المدخل جاء كل فصلٍ ليجيب عن سؤالٍ من تلكم الأسئلة، فكانت الفصول ثلاثة أيضاً ووقعت الخاتمة موقع التلخيص.

تجدر الإشارة إلى أنّ هذا البحث في حقيقته هو أحد فصول كتابي: (أصالة الدين وفطرية الإيمان) ، أُفرد للطبع مستقلاً بعد أن وضعتُ له مقدمة وخاتمة، نظراً لأهميته في العصر الراهن وكثرة تداول سؤال البحث .

***

المدخل: الإشكالية ـ عرض وتحليل ـ

تقوم الإشكالية على معطيَين:

المعطى الأول : تفيد النصوص الدينية و القرآنية بالذات: أنّ الله تعالى بعث لكل أمة من الأمم نبياً أو رسولاً ليرشدهم ويهديهم الدين الحق، وهذا طبعاً يشمل كلّ الأمم على وجه الكرة الأرضية (أوروبا، والأمريكتين، واستراليا، والصين، والهنود الحمر، وقبائل الإنكا، والإزتيك بأمريكا الشمالية والجنوبية، وسكان استراليا الأصليين الأبورجينز، وللصينيين، ولليابانيين و … إلخ! ) .

     يقول القرآن الكريم:وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً( النحل: 23)، وفي آية أخرى:وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِـيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ( يونس: 47)، وثالثة: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ( فاطر: 24)، وهكذا غيرها من آيات ونصوص.

المعطى الثاني : وهو معطىً يتحدى المضمون السالف الذي تؤصّله النصوص الدينية و يصطدم معه بشكل جلّى، وهذا المعطى الثاني هو: خلو (التاريخ والأنتربولوجيا) من الإشارة إلى أيّ نبي خارج منطقة الشرق الأوسط.

وما يؤكد هذا المعطى ويعززه ، هو أنّ الأنبياء المذكورين في القرآن لم يتجاوزوا الشرق الأوسط، ففي جزيرة العرب بُعث: هود، وصالح، واسماعيل، وشعيب، ومحمد، وكان في العراق: آدم، و نوح ،وإدريس، وإبراهيم، ويونس، وذو الكفل، وفي بلاد الشام: لوط، وإسحاق، و يعقوب، وأيوب، وداود، وسليمان، وإلياس، واليسع، وزكريا، ويحيى، وعيسى وفي مصـر كان: يوسف، و موسى، وهارون، (طبعاً على خلاف في تحديد أماكن بعضهم).

وعلى إثر ذينك المعطيين، ومن تمحور الأنبياء والأديان السماوية الإبراهيمية في قارةٍ واحدةٍ، وضمن منطقة محددة فيها: (الشرق الأوسط)، تتبلور العديد من الأسئلة، مثل:

ماذا عن سائر الأمم الأخرى الذين يعيشون خارج الشرق الأوسط، على سطح  هذه المعمورة ؟ 

وأين العدالة الإلهية في خص منطقة جغرافية محددة بالوحي وحرمان سائر مناطق العالم ؟ 

وهل بقية مناطق الأرض غير مهمّة بالنسبة إلى الله؟ 

ولماذا نزلت كل الأديان السماوية في الشرق الأوسط، ولم نسمع بنبي في باقي مناطق العالم مثل الصين و الهند و أفريقيا و الأمريكيتين؟!

وهكذا، تخلُص الإثارة لطرح ثلاثة تساؤلات إشكالية، جُمعتْ في العرض آنفاً :

الأول: لماذا لم يبعث الله أنبياء خارج الشـرق الأوسط ؟! إذ لا وجود للنبوة  خارج أسواره، ولم يظهر نبي في شعوبها، نعم، ظهر في الصين (الحكيم) كبديل للنبى، فقد ظهر في اوروبا الفلاسفة العظماء، من امثال ارسطو وافلاطون وسقراط وغيرهم كثيرون، ولم يظهر فى اوروبا كذلك نبى !

الثاني: لماذا لم يرد في القرآن إلا الأنبياء الذين بعثوا في الشـرق الأوسط، والتأريخ الأنتربولوجيا بدارسته لماضي البشر لا يشتمل على أيّ ذكر لأنبياء خارج تلك البقعة ؟!

الثالثة: مع عدم التوزيع المتساوي لإرسال الرسل، أين العدالة الإلهية في حصـر "الدين الحق" في منطقة معينة يحرم المولود خارجها منه؟

وعن قصد، أهملنا ما جاء في هذه الإثارة من أنّ بعض تلك الأقوام ولغاتها، لم يَرد فيها حتى مفردة "دين"؛ إذ يمكن مراجعة أي كتاب في علم الأديان لترى سطحية هذا الطرح، ابتداءً من اللغة الأكدية، والآرامية، ثمّ الهندية، والصينية، واليونانية، واللاتينية، وصولاً  للغات الأوربية، كل تلك اللغات تعرف تلك الكلمة ولها عندها معنى(1).

***

الفصل الأول:

لماذا لم يبعث الله أنبياء خارج الشرق الأوسط؟!

تتداخل في هذا السؤال الإشكالي مغالطتان، وتنطبقا عليه في نفس الآن:

 الأولى: (المصادرة على المطلوب)، والأخرى: (مغالطة الاحتكام إلى الجهل) (2) .

فقد انطلقت الإشكالية من قضية اعتبرتها مسلّمة ـ وهي ليست كذلك ـ مفادها: لا وجود لأنبياء في غير الشـرق الأوسط، نعم، سيكون السؤال وجيهاً فيما لو كان بمفاد (هل البسيطة)، أي لو كان على النحو التالي: 

هل يوجد أنبياء في غير الشـرق الأوسط؟ أو هل ذكر التاريخ شيئاً عن الأنبياء السابقين؟، بدلاً من صياغته السالفة: لماذا لا يوجد أنبياء؟! ومن جميل ما قيل: عدم الإيجاد لا يدل على عدم الوجود، وهذه الملاحظة تحوّل الإشكال إلى سؤال، ومع هذا التصحيح، فجوابه في نقاطٍ ثلاث: 

1ـ أديان شفهية وتاريخ غير مكتوب:

إنّ أقدم تاريخ لاكتشاف التدوين، يعود للسومريين في حضارة وادي الرافدين، ويعتبر علماء التاريخ " اختراع الكتابة " هو ما يفصل بين عصور ما قبل التاريخ، والعصور التاريخية التي ظهرت فيها حضارات الانسان الكبرى، وهذا واضح ومعلوم ، لكن السؤال هنا : ماذا عمّا قبل التاريخ ؟! أعني تلك الفترة التي تبدأ من قبل نصف مليون سنة ، وتنتهي إلى ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد  ؟! وهي فترة قد استغرقت أكثر من(99%) من حياة الإنسان الواعية، ولا تبدو الخمسة آلاف سنة التي تلتها ـ مع غزارتها العقائدية ـ إلا وهلة صغيرة(3) هذا من جهة ، ومن جهة أخرى فإنّ كل الأديان التاريخية التي نعرفها لا يتجاوز عمرها الأربعة آلاف سنة، وهي فترة لا تساوي شيئاً مقارنة بثلاثة ملايين سنة عاشتها الأديان التي سبقتها، ولم يكن أتباع تلك الأديان القبلية والبدائية يعرفون القراءة والكتابة.

من أجل هذا يدعوها بعض الدارسين للأديان وتاريخها بـ(الأديان الشفهية)؛ إذ يعتبر المشافهة إحدى خصائص الأديان البدائية، وعلى ضوء ذلك يدرس التجربة الاسترالية وسكانها الأصليين، وكيف أنّ زعماء تلك الأديان حتى عندما وصلتهم الكتابة والقراءة ظلوا يحافظون على معتقداتهم من انتهاكات الكتابة والقراءة(4).

كما أنّ المعروف عن عالم الأنتربولوجيا ويلهلم شميدت(توفي:1954م) في دراسته لقبائل أقدم الأجناس البشرية ( الأقزام ) وتوصل إلى أنّها كانت تؤمن بإله خالق متعال، يعمل في الكون من خلال مندوبيه أو نوّابه(5) ، وهنا ينشأ سؤالٌ آخر: كيف سنعرف هوية اولئك المندوبين وتحديد حقيقة هويتهم وحال المؤرخين هو الاهتمام بتدوين تأريخ الأقوياء، الأمراء و الملوك والسلاطين وحروبهم وبطولاتهم وأسرهم وما يدور في هذا الفلك حتى قيل: التاريخ يكتبه الأقوياء المنتصرون ؟!  

على أنّ كُتّاب التاريخ لا يختلفون غالباً عن بيئتهم ومجتمعهم بل هم ـ في الغالب ـ انعكاس لرؤية العقل الجمعي، فماذا كان موقف معظم الناس من الأنبياء والرسل؟! فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا( الإسراء: 89)، وكَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ( الذاريات: 52).

2ـ نور الحكمة من مشكاة النبوة:

تركن طائفة لا بأس بها من العلماء إلى نبوة شخصيات خارج الشرق الأوسط لم تعتد البشرية على وصفها بغير الحكمة، أعني فلاسفة اليونان من أمثال سقراط وأفلاطون وأرسطو وهلم جراً، فيما يلي بعض من أولئك:

أولاً: الشريف المرتضى (توفي: 436هـ).

قال السيد رضي الدين ابن طاووس (توفي: 664هـ ): ووجدت في كتاب "ريحان المجالس" وتحفة الموانس تأليف أحمد بن الحسين بن علي الرخجي وسمعت من يذكر أنه من مصنفي الإمامية وعندنا الآن تصنيف له آخر اسمه "أنس الكريم " وقد كان يروي عن المرتضى ما هذا لفظه:

حدثني أبو الحسن الهيثم أن الحكماء العلماء الذين أجمع الخاصة والعامة على معرفتهم وحسن أفهامهم ولو يتطرق الطعن عليهم في علومهم مثل هرمس المثلث بالحكمة وهو إدريس النبي ، ومعنى المثلث، أنّ الله أعطاه علم النجوم والطب والكيمياء ومثل: (أبرخسـي وبطليموس) ويقال: إنّهما كانا من بعض الأنبياء وأكثر الحكماء كذلك، وإنما التبس على الناس أمرهم؛ لعلة أسمائهم باليوناينة ومثل نظرائهم ممن صدر عنهم العلم والحكمة المفضلين(6).

ثانياً: صدر الدين الشيرازي (توفي: 1050هـ).

قال عن بعض حكماء اليونان :  "كانوا مقتبسين نور الحكمة من مشكاة النبوة و لاخلاف لأحد منهم في أصول المعارف، و كلام هؤلاء في الفلسفة يدور على وحدانية الباري و إحاطة علمه بالأشياء كيف هو و كيفية صدور الموجودات و تكوين العالم عنه وأنّ المبادي الأول ما هي وكم هي وأن المعاد ما هو وكيف هو و بقاء النفس يوم القيمة" (7).

ثالثاً: قطب الدين الأشكوري الديلمي اللاهيجي (توفي: نهاية القرن الحادي عشر).

وكتابه: (محبوب القلوب ) مليءٌ بما يمكن الاستشهاد به على رأيه وشواهده عليه في المسألة، سنركز على بعدين بشكل بسريع وموجز:

أـ المطابقة بين مقولاتهم الفلسفية ، وبين النصوص الدينية :

كتب الديلمي نقلاً عن فيثاغورس عن الله : أنّ وحدته عددية، وأنّه تعالى لا يدرك من جهة العقل ولا من جهة النفس ...وإنّما يدرك بآثاره، وأنّ من أحب الله عمل بمحابّه، يقارن الديلمي كل ذلك بما ورد عن أهل البيت، فعن الصحيفة السجادية: لك يا إلهي وحدانية العدد، وعن الباقر: كلّما ميزمتوه بأوهامكم في أدق معانيه فهو مخلوق مصنوع مثلكم مردود عليكم، وبما ورد أيضاً: ما أحب الله من عصاه :

تعصي الإله وأنت تظهر حبه                                           هذا لعمرك في الفعال بديع

لو كان حبك صادقاً لأطعتَه                                          إنّ المحب لمـن أحـب مطـيع

وما في القرآن: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ( آل عمران: 31). 

ب ـ نقل رواية: أرسطو نبي جهله قومه:

وأشارصاحب (محبوب القلوب)أيضاً إلى أنّ أعظم الفلاسفة عند اليونانيين طبقة وقدراً خمسة: أنباذقلس، وفيثاغورس وسقراط، وأفلاطون، وأرسطوطاليس.

وانفرد برواية نقلها تقول: إنّ عمرو بن العاص قدم من الإسكندرية على رسول الله  فسأله عما رأى؟

فقال: رأيت قوما يتطلّسون ويجتمعون حلقا ويذكرون رجلا يقال له أرسطو طاليس، لعنه الله، فقال : مه يا عمرو! إنّ أرسطو طاليس كان نبيا فجهله قومه(8).

رابعاً: حسن زاده الآملي: وهو من المعاصرين.

بعد أن نقل مقطعاً مروياً عن الإمام الصادق  جاء فيه: وقد كان أرسطوطاليس ردّ عليهم فقال: إنّ الذي يكون بالعرض والاتفاق إنّما هو شيءٌ في الفرط مرةً مرةً، لأعراض تعرض للطبيعة فتزيلها عن سبيلها وليس بمنزلة الأمور الطبيعية الجارية على شكل واحد جريا دائما متتابعا.

يعلّق الآملي: تبجيل الإمام  أرسطوطاليس بما نطق فيه من لسان العصمة، حجةٌ على المتقشفين، الذين ليس لهم إلا إزراء العلم وذويه، بما أوهم فيهم نفوسهم الأمارة بالسوء والإيذاء، فهؤلاء بمعزل عن سبيل الولاية، وإلّا فهذا وليّ الله الأعظم، يبجّل العلم والعالم. 

وكفى بأرسطوطاليس فخراً أنّ حجة الله على خلقه نطق باسمه تبجيلاً، وارتضى سيرته السنية المضيئة بأنه كان يسلك الناس إلى بارئهم من طريق وحدة الصنع والتدبير، ويوقظ عقولهم بأن الاتفاقي لا يكون جاريا دائما متتابعا وما هو سنة دائمة لا تبدل ولا تحول فهو تحت تدبير الملكوت، فكأن الأصل ما هو قبل الطبيعة وفوقها وبعدها.. "ونقل الآملي أيضاً كلام الديلمي في محبوب القلوب المارّ آنفاً دون تعليق(9).

خامساً: ومن علماء السنة، مفتي طرابلس نديم الجسر(توفي: 1980م) في كتابه: (قصة الإيمان)، ولم يقتصـر على الأغريق، فقد رجّح كون الكثير من فلسفة الأقدمين في مصر والصين والهند هي بقايا نبوات نسيها التاريخ فحُشـر أصحابها في عداد الفلاسفة، ولعلهم من الرسل أو أتباع الرسل(10).

وهكذا احتملت نبوة بوذا، وزرادشت أيضاً، وبالفعل يعتقد الزرادشتيون (المجوس) من أتباعه نبوته، فقد نقلتْ المرويات الفارسية نبوته وإيمانه بأهورا- مزدا (رب النور) الإله الأعظم(11) ، وهذا وارد في كوفوشيوس في الصين، و كرشنا في الهند. 

وفي الطاوية (الدين الصيني الآخر التي نشأتْ مع شخصية غامضة لا يعرف حتى اسمه الحقيقي (لاو تسو)، وكتابها المقدس (طاو تي تشينغ) حقائق ملفتة جداً يمكن مراجعتها في كتب دراسة الأديان مثل: أديان العالم(12).

ومؤخراً نشر موقع (بك ثنك) مقالاً بعنوان: البوذية: فلسفة أم دين؟ 

وقد جاء فيه:

تتشابه البوذية مع الديانات الأخرى بناحية الميتافيزيقيا، ويعتبر (الابهيدارماكوسا) أحد أهم النصوص البوذية الميتافيزيقية، والتي تتضمن حديثاً مباشراً بين بوذا والآلهة(13).

وعلى أيّ حالٍ، من ناحية واقعية ليس بوسع أحد، القطع بعدم ارتباط تلك الأسماء بالوحي، مباشرة أو بالواسطة، واتصالهم بنبي أو ولي، وأنّى لنا القطع بعدم نبوتهم والحال أنّ نبوة النبي لا تتطلب بالضـرورة ادّعاء الإتصال بالوحي وإشهار نبوته في الناس، ما دام الغرض من بعثته متحققاً، فيدعو قومه للهداية، ويأمرهم بعبادة الله تعالى وحده، ويؤدي دوره الذي من أجله بُعث كاملاً من غير أن يعلن نبوته وإتصاله بالله عبر قناة الوحي؟!

ولايزال هناك بعض المؤشرات على صحة قول أولئك الأعلام منها مثلاً معبد أبولو في دلفي من أقدم المعابد الدينية في اليونان القديمة، يذكر أنّه كان مركزاً لنبي الوحي أبولو(14).

3ـ من جهة أخرى أهمّ وبعيداً عن كل ذلك، فحتى لو صحّ أنّ الواقع يخلو من أنبياء في تلك البقاع، وأنّ الحقيقة المطلقة تقول: إنّ الأنبياء لم يظهروا إلا في مكان واحد، فلا نرى فيه أي وجهٍ للإنكار؛ ذلك أنّ ظهورهم  في مكان معين لا يعني أنّهم لم يبعثوا إلا له، فالأنبياء بعثوا في مكان محدد ، لا أنّهم بعثوا لمكان محدد، أو قل:  خصّ الله الأنبياء بالشرق ، ولم يخصّ الشرق بالأنبياء.

بكلمة أخرى أكثر وضوحاً: الإشكالية نتجت عن خطأ بيّن تمثّل في ربط تأثير الدين بمحيطه المكاني الذي ظهر فيه، لكنّها فكرة لكنها منقوضة بما لا يحصـى من الأمثلة والشواهد، يمكنك أن تضع هنا: الخالدون المئة، الذين وضعهم مايكل هارت في كتابه(15)، كان سقراط يقول: أنا لستُ أثينياً ولا يونانياً، أنا مواطن عالمي أو كوني .وفي الدين: خذ مثلاً الغرب الذي ارتبط اسمه بالمسيحية لاحقاً، ولا علاقة له لا بظهورها ولا بولادة نبيها، حقاً: الدين لا وطن له، لكن لا تجدُ وطناً بلا دين، بالنهاية يبقى الإنسان محدوداً في كل شيء، و في وقوفه لابد له من أرض محددة يقف عليها وينطلق منها، لا نطيل أكثر فلنا عودة .

الفصل الثاني :

لماذا لم يذكر القرآن الأنبياء خارج الشرق الأوسط؟

مدخل:

وهذا السؤال لا ينشأ إلا مع تعميم إرسال الرسل مكانياً  وتوزيع بعث الأنبياء على كامل الكرة الأرضية وبكلمة أوضح، إنّ الواقع التاريخي الذي نجهل معرفته معرفة تفصيلية تامة في هذا الخصوص يجعلنا نفترض حالتين لا تخلو الحقيقة منهما: إمّا أنّ الأنبياء بالفعل لم يظهروا إلا ضمن بقعة جغرافية محددة (الشرق الأوسط )، وإمّا أنّ النبوة عمت كل الأرض وظهر الأنبياء بين كل الأقوام بيد أنّ التأريخ طوى ذكرهم، كما القرآن أيضاً وبناءً عليها ينشأ السؤال: لماذا اهتم القرآن بأنبياء الشرق الأوسط و لم يذكر سواهم؟! واذن، لا يُسأل عن خلو القرآن عمّا لا وجود له، والمكان ليس عائقاً مثلما لاحظنا، لكن هذا لا يُخرج الحالة الأولى من السؤال، فإذا كانت النبوة في الشرق الأوسط وحسب، كيف إذن نفهم الآيات التي أفادت التعميم، لكل الأقوام ؟! وعليه ، فثمّة سؤالان وقضيتان في هذا الفصل:

الأولى: اهتمام القرآن بأنبياء الشرق الأوسط:

سيكون للسؤال وجه في حال أنّ القرآن الكريم صرّح بأنّ من ذكرهم من الرسل هم وحدهم رسل الله ولا رسل سوى الذين ذكرهم، أو على الأقل فيما لو سكت بيد أنّه يفيد بكل صراحة أنّ ثمة رسل موجودون بالفعل ولم يذكرهم وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا( النساء: 164)، وأنّ هؤلاء الأنبياء سواء الذين ذكرهم أو الذين لم يقصصهم قد أرسل كل واحد منهم بلسان قومه: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ...( إبراهيم: 4). 

إنّ إعداد قوائم تتضمن سرد أسماء أولئك الأنبياء فقط، يعني أننا أمام سجلات النفوس، وأمّا إذا أشير لشيء من أحوالهم وقصصهم فالأمر يقتضـي تدوين موسوعات تاريخية، الله وحده يعلم عدد أجزائها وكم مرّة يضاعف عمر الإنسان ليطلع عليها، وفي كلتا الحالتين يخرج الكتاب الكريم عن كونه كتاب هداية ليكون إمّا سجّلاً للنفوس أو كتاباً تاريخياً . 

طبعاً إذا أغمضنا النظر عن أوصيائهم، وإلا فحسب العقيدة الإسلامية واستناداً لبعض الأخبار، فإنّ عدد المجموع يقرب من الربع مليون، ولا أقلّ من عشـرات الآلف!    

يقول الصدوق (توفي: 381هـ ): اعتقادنا في عددهم أنّهم مائة ألف نبي وأربعة وعشرون ألف نبي، ومائة ألف وصي وأربعة وعشرون ألف وصي، لكل نبي منهم وصي، أوصى إليه بأمر الله تعالى(16).

ومن ناحية قرآنية أيضاً، تعدّ كلّ من: اليهودية والمسيحية والإسلام امتداداً تكاملياً لدين واحد، دين إبراهيم الذي ظهر في الشرق (العراق تحديداً)، تكمل المسيحية اليهودية، ويكمل الإسلام ما قبله، وعندها فالسياق المنطقي يقتضـي أن يكون الشرق موضعاً لإرسال الرسل ويأخذوا محل اهتمام القرآن. 

كما أنّ تلك البقعة حوت أسبق الحضارات وأكثرها تقدماً منها عرف البشـر الكتابة، وفيها خطّ حمورابي أولى القوانين التي عرفها البشر (مسلّة حمورابي)، وقد قيل عنها: إنّها شرائع نازلة من السماء كما نقل ول ديورانت في قصة الحضارة كما وأشار لـ (فضل مدينة بابل على المدينة الحديثة)(17)، وفيها اكتشفت العجلة، واشتملت أعلى منسوب في الكثافة السكانية من بين سائر بقع الأرض، والحديث طويل في هذا الجانب،  لكن المهم هو أنّ ذلك كله أهّل الشرق وأهّله في أن يكون محلاً للإهتمام في هذا الجانب ليكون النافذة والبوابة لسائر أمم الأرض.

وما دامت تخلو سائر بقع الأرض وشعوبها من تأريخ مدون ومكتوب لرسلها كما افترضت الإشكالية، كيف إذن يسوغ للقرآن أن يسرد و يذكّر تلك الأمم والشعوب برسلها وأنبيائها الذين لا تعرف عنهم تلك الأمم شيئاً أصلاً ؟!، ألا يكون هذا مدعاة لرمي القرآن بالاختلاق والكذب من قبل تلك الشعوب؟!

القضية الثانية: كيف نفهم آيات عموم الإرسال والبعث؟

بالعودة لتلك الآيات، مثل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً فثمّ أربع احتمالات لا يخرج الواقع عنها،  على ضوء مفردتين متضمنتين فيها: الرسول و، والأمة، كل منهما يحمل افتراضين، وفيما يخصّ المفردة الأولى، فإنّ الآيات المشار إليها لم تتحدث بلسان "النبوة، والنبي" ، بل عبّرت بـ "الرسول"، والمعنى المفترض لها أعمّ من المعنى المعهود والمتداول، لكنه محتمل، وهو بمعنى الحجة، ويشمل كل من له ارتباط بالله ويوصل رسائله إلى الناس، أي أنّه الواسطة بين الخلق والخالق وإن لم يكن نبياً، ليس لقمان وحده، فثمّ ذو القرنين المذكور في القرآن، ولا يقطع أحد بمعرفة شخصه حتى اليوم، قيل هو الاسكندر ملك مقدونيا الأغريقي المعروف وقيل هو (تبّع)أحد ملوك اليمن وذهب آخر إلى أنّه (كورش الكبير) أول ملوك الفرس، لكن لقمان مثال جيد، فقد عرف عنه في التأريخ وبين الناس بالحكيم، والقرآن أيضاً، وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ( لقمان: 12)، وهكذا كما انقلب قول المعترض: بدلاً عن الأنبياء ظهر فى اوروبا الفلاسفة العظماء، من امثال ارسطو و افلاطون و سقراط،  ينقلب الآن وهنا قوله: ظهر فى الصين الحكيم كبديل للنبى .

وفيما يخص المفردة الثانية، في معناها احتمالان متصوران: أحدهما يأخذ الوحدة الزمنية كرابطة بين أعضاء أفرادها، وفي الآخر تؤخذ اعتبارات أخرى كاللغة أو القومية أو الدين وهكذا، ولا نود الإسهاب في هذه الجانب، وكل الذي نود قوله هنا هو الآتي :

على جميع الاحتمالات الأربعة المتصورة لا يترتب أيّ محذور ولا يلزم الإشكال،  فلا بعد المسافة والمكان يعيق الغرض من إرسال الهداة من أنبياء ومرسلين وحجج وأولياء، ولا تواجد الحجة بشخصه ضروري لبلوغ هدفه، تصل الهداية للناس أو يصلوا إليها، وتبلغ الرسالة كل العالم مع ما بين الهادي والمهدي من بعد، والواقع الراهن و التأريخي شاهد، يظهر المسيح عيسى ابن مريم ومعه تلامذته ورسله في الشرق الأوسط وتحديداً في فلسطين من بلاد الشام ذات الأغلبية المسلمة اليوم، لكن أوربا التي لم تطأها قدماه تدين بالمسيحية! وذات الكلام في رسول الإسلام محمد بعده، ولو كان عذر المكان و والحضور الشخصي صحيحاً لم تكن اليمن والعراق وايران واندنوسيا ووالخ  بلدانا اسلامية، ولن تنتهي القصة لو كان لكل قارة رسول ففي كل بقعة وبلد داخل القارة الواحدة يمكن أن يقال كما قيل في سائر القارات والامكنة، وتصل السذاجة لاعتراض الحي المجاور لحي الرسول، وما يدرينا ربما المنزل المجاور!

يعترف (دوكينز) باندهاشه من الجهل العام بالكتاب المقدس في العقود الأخيرة؛ إذ يورد استلاعاً للرأي تمّ سنة: 1954م، وجد بأنّ ثلاثة أرباع المسيحيين لم يستطيعوا تسمية نبي واحد من العهد القديم، هذا في الولايات المتحدة الأكثر تديناً من البلاد الأخرى ، كما يقول دوكينز(18).

وأكثر الناس في الشـرق الأوسط لا يعرفون إمامهم، وقرآنهم بين أيديهم يتلونه ويتلى عليهم في كل مكان وزمان ولأكثر من ألف عام، وهو يقول: يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ( الإسراء : 71)، وأهمّ من ذلك قوله بصيغة المضارع المستمر: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ( القدر : 4)، ولا يعرفون على من تتنزل اليوم ؟! هذا بحد ذاته يضعك أمامك بذرة جواب متكامل إياً يكن انتماؤك وأينما كنت، احتمل صدقيته على الأقل، هذه تنهيدة وجدتْ لنفسها محلاً، على ألا تنسينا القاعدة التي يرسيها القرآن: لا عذاب ولا مسائلة إلا مع قيام الحجة: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (الإسراء: 15)، ولَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا( الطلاق: 7).

ونتيجة ذلك كله ، أنّ بعث الأنبياء في مكان محدد  غير عائق من  بلوغ دعوتهم لسائر الأمم ، ويحدث أن يصدق العكس، فمغنية الحي لا تطرب، كما يقول المثل، وقوله لا يقاس، ومن محاسن الصدف أن ثمة مثل في ذات الموضوع بالخصوص ، يقول المثل: لا كرامة لنبي في وطنه (19) ، وللشاعر أيضاً بيت:

لا عيب لي غير أنّي من ديارهم *** وزامر الحي لا تشجي مزامره

 

 

الفصل الثالث:

الدين صدفة جغرافية وإرث ثقافي!

على ضوء ما مرّ بالتأكيد لا يبدو محقاً ذاك السؤال الإشكالي الذي نفى العدالة استناداً على عدم التساوي في توزيع الرسل جغرافياً ؛ إذ لا فاعلية وتأثير للمكان في الهداية للإيمان أو في قبول الأفكار، وقد سقنا الشواهد على ذلك ونضيف: ها هي الشيوعية تنشأ في ألمانية فيأخذها الروس ويتأسس الإتحاد السوفيتي عليها !

لكن يتعزز موقف السؤال من نواحي أخرى، فمن ناحية ثمة انحصارية في الدين الحق، تسلب فيها مشروعية سائر الأديان الأخرى وتكفيرها والحكم بدخولها النار، ويحدث بين المذاهب داخل الدين الواحد، إنّه يتولد عن فكرة حصر الحق في دين واحد، تكفير الآخر وتضليله والحكم بخلوده في النار أخروياً.

ومن ناحية ثانية فإنّ الدين "صدفة جغرافية وإرث ثقافي" كما قالوا، يرثه الطفل من أبويه ويكبر عليه، والواقع يشهد بتأثر الفرد بدين محيطه الجغرافي والبيئي، فالمولود في الشرق الأوسط مسلم، وفي أوربا مسيحي، والاسرائيلي يهودي، وفي الصين كونفوشيوسي أو طاوي، وفي الهند هندوسي، وفي اليابان يكون بوذياً وهكذا، وهي إشكالية قديمة، يقررها المعرّي (توفي: 449هـ ) في بيتين :

وينشأ ناشئ الفتيان منّا، على ما كان عوّده أبوه

وما دان الفتى بحِجا، ولكن يعلّمه التدين أقربوه

 فما الذي نقوله حيال ذلك؟!

أولاً وقبل كل شيء، علينا الاعتراف بأثر العقل الجمعي والبيئة على الفرد بوصفها عاملاً مهماً وقويّاً في تشكّل قناعاته، لكنها وبلا شك لا تفضـي للسببية الحتمية، فتحولات الأفراد المخالفة لأفكار بيئاتهم وعقائد مجتمعاتهم التي نشأوا عليها قائمة على قدم وساق.

في تجربة عالم النفس الإجتماعي سولومون اش (توفي: 1996م) التي أجريت أول مرة سنة: 1950م، أظهرت كيف يمكن لضغط المجموعة أن يحرف مسار التفكير السوي للإنسان، لقد عرضت خطوطاً متفاوتة الطول على مجموعة المبحوثين، وكان على الشخص المشارِك في التجرِبة أن يُحدِّد إنْ كان الخطُّ أطولَ أم أقصرَ أم في نفس طول الخط المرجعي، حين يجلس أحد الأشخاص بمفرده في الغرفة فإنّه يقدر كل أطوال الخطوط المعروضة بشكل صحيح لأنّها في الواقع مهمة سهلة، بعد ذلك يدخل سبعة آخرون إلى الغرفة كلهم ممثلون إلا أن المتطوع في التجربة لا يعرف هذا، كل واحد بعد الآخر يدلي بإجابة خاطئة، يقول: أقصر، على الرغم من أن الخط بشكل واضح أطول من الخط المرجعي، ثم يأتي الدور على المتطوع في التجربة 

إنّ ما وجدته هذه التجربة من أنّه في (30%) من الحالات يعطي الإجابة الخاطئة مثل من سبقوه فقط بسبب الضغط الإجتماعي(20).

ومن طريف ما يحكى في هذا السياق، أنّ ملكاً لم يكن له ولد، فألحّ على الله في طلبه والتمس الأسباب الطبيعية فرزق بما طلب، بيد أنّه أنجب طفلاً بأذن واحدة، فخشـي أن يعيّره الأطفال، فأمر الملك بقطع أذن كل طفل وإبقاء واحدة أسوة بطفله، مرّت الأيام والشهور والأزمان، حتى صار قطع أذن المولود عادة جارية عند الناس مجرى الختان !، وفي نهار يومٍ ما، دخل على القرية رجلٌ غريب، فلمّا رأوه تعجبوا وسخروا وصاروا ينادون خلفه: أبو أذنين أبو أذنين! 

إنّ تلك التجربة وهذه الحكاية تكشفان لنا بوضوح، أنّ هوى الجماعة لا يحمل قيمة ذاتية معرفية في نفسه، وهو كغيره سلاح ذو حدّين، يقبل التوجيه نحو أي من الضدين: الخير أو الشر، الحق أو الباطل، الرذيلة أو الفضيلة ..إلخ حسب الزمان والمكان والظروف والبيئة والدولة وقوانينها وإعلامها ..إلخ، في كندا مثلاً، كانت مادة الحشيش (الماريجوانا) محظورة قانونياً لأكثر من تسعين سنة، وهكذا نشأت أجيال على المنع وظل طوال تلك الفترة ممنوعاً في مزاج الأكثرية، واليوم ينقلب مزاج الأكثرية لتقرر رفع الحظر، وقد فعلوا!

وهنا فلسفة ذمّ الإسلام في إتباع الأفكار والعقائد المتوارثة عن الآباء والأجداد وانسياق الفرد للعقل الجمعي بحيث تذوب شخصية الفرد وعقله داخل تيار الجماعة وآرائها، ويأخذ ما تقول ويرفض ما لاتقول، وهكذا يغدو الشيوع والانتشار والكثرة هي المدار لا غير، دون بحثٍ وتنقيب وإعادة النظر، بل انسياقاً مع الجماعة وحشر مع الناس عيد وحسب، وفي ظل هذا المسار يمكن جداً أن تتحول الرذيلة إلى فضيلة، أو بالعكس، وما أسهل تغيير الرأي العام في عصرنا الراهن، عصر الفضاء المفتوح ووسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي والجيوش الإلكترونية!، وقد رأينا بالفعل، كيف وقع الشباب في موجة الإلحاد الأخيرة تحت قوة تأثير  رأي "العلماء والمجتمع العلمي أو العالمي"، مع أنّ ما يبدونه من موقف حيال الدين ومسألة وجود الله هي آرائهم واستنتاجاتهم وتحليلاتهم، وليست معلومات يقولها العلم، وهي مواقف لا تجد أي موقع لها داخل أصناف الحجج وعالم البرهان. 

هذا هو الوجه في عدم جواز التقليد في العقائد وأصول الدين كالتوحيد والنبوة والإيمان باليوم الآخر، وهو القدر المؤكد من ذم الإسلام وعبر آيات القرآن المتوافرة، وذمّ الدين الذي يجد فيه الفرد نفسه قد تبناه في طفولته وصباه وكبر عليه تماهياً مع محيطه وفقط، وتحت تأثير ضغط المجموعة وحسب، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ( المائدة: 104)، ذلك أنّها تحرف التفكير السليم.

"إنّ المطلوب فيها ( أصول الدين) هو: اليقين والاعتقاد ونحوهما، ممّا لا يمكن أن يحصل بالتقليد، فلا معنى له في مثلها، بل لو عقد القلب - في تلك الأُمور - على ما يقوله الغير لم يكتفِ به بوجه؛ إذ المعتبر في الأُصول إنّما هو اليقين والعرفان والاعتقاد، وشيء من ذلك لا يتحقّق بعقد القلب على ما يقوله الغير, بل هذا هو القدر المتيقّن ممّا دلّ على ذم التقليد واتّباع قول الغير في الأُصول؛ لقوله عزّ من قائل: بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ( الزخرف: 22)(21).

وما يهم قوله: إنّ الدين يفرّق بين مرحلتين في حياة الإنسان: مرحلة النشوء، ومرحلة البقاء، في الأولى ، يجد الإنسان نفسه منساقاً في طفولته لدين مجتمعه دون خيار منه ولايسائل عليها، وهو هنا ومن ناحية دينية غير مكلّف أصلاً،  لكن لمّا يبلغ التكليف و يصبح مؤهلاً للبحث والتفكير وإجالة النظر، يمكنه حينها أن يختار وبكامل عقله ووعيه: إمّا الإبقاء على ما كان عليه أو عدمه، وفي هذه المرحلة تحديداً ترتهن المسائلة، ويكون فيها الفرد هو مسؤول عن دينه الذي يختار.

عليه إذن، أن يبحث عن طريق آمن ليعبر للضفة الأخرى، أمّا اختيار البقاء وسط شارع عام وجد نفسه ملقىً فيه فإنّه يعرض نفسه للدهس، لا يمكن ـ وبلا شك ـ أن يُرجع الإنسان آلة الزمن ليغير البداية، لكن بإمكانه الشروع ببداية جديدة، أن ينهي استمرار البداية الأولى ويقطع دوامها إن كانت خاطئة  أو يبقيها إن كانت صحيحة ، لا يُسائل الإنسان عن البداية الأولى بل عن الأخرى .

وبالانتقال لمسألة التكفير والحكم بدخول النار على غير المؤمن بالدين الحق ، نقول:

للتكفير زاويتان، فمن حيث هو وفي نفسه ليس أكثر من مجرّد توصيف للخارج عن نسق وتوجه له حدوده وإطاره يستدعي بالضرورة توصيف الخارج عن ذلك الإطار والحد بالكفر والخروج عنه، وهو بهذا المفهوم لا تخلو عنه كل العقائد و المنظومات الفكرية لها قواعدها واصولها، لم تكن لتوصف شيوعية ماو تسي تونغ بالماوية لو لم تكن تختلف عن شيوعية ماركس أو الاتحاد السوفيتي، وأمّا من حيث أنّه يستتبع حكماً باحتكار الجنة على المؤمنين بالدين الحق وخلود من لا ينتمي له في النار فذاك خاص بالمعاندين الجاحدين : [وأن تخلد فيها المعاندين].

وبكلمة أخرى أوضح: لا اقتران ضروري بين مجرد عدم الانتماء للدين الحق وبين دخول النار، ولمشهور الأصوليين قاعدة ظريفة  البراءة العقلية تفيد: قبح العقاب بلا بيان، ويؤشر عليها القرآن قائلاً: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا( الإسراء: 15)، ومادام العقل يحكم بقبح العقاب دون بيان، فلا يصدر عن الله ؛ لقاعدة أخرى: كل ما حكم به العقل حكم به الشرع، بناءً على عقلية الحسن والقبح، والأمر ذاته ينطبق على أطفال الكفار، وهكذا  لا يختص بالمستضعفين ومن جهل الدين قصوراً أو لم تصله رسل ربّ العالمين :إِنَّ اللهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ( النساء: 40)، فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا  إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا( النساء: 98).

وفي هامش هذه الآية ثمة  "كلام في المستضعف" للمفسرين، ومما تبيّنه صاحب الميزان مثلاً من هذه الآية: أنّ الجهل بمعارف الدين إذا كان عن قصور وضعف ليس فيه صنع للإنسان الجاهل كان عذراً عند الله سبحانه... ويضيف معرّفاً المستضعفين: بـعدم تمكّنهم مما يدفعون به المحذور عن أنفسهم، وهذا المعنى كما يتحقق فيمن أحيط به في أرض لا سبيل فيها إلى تلقي معارف الدين لعدم وجود عالم بها خبير بتفاصيلها، أو لا سبيل إلى العمل بمقتضـى تلك المعارف للتشديد فيه بما لا يطاق من العذاب مع عدم الاستطاعة من الخروج والهجرة إلى دار الإسلام والالتحاق بالمسلمين لضعف في الفكر أو لمرض أو نقص في البدن أو لفقر مالي ونحو ذلك، كذلك يتحقق فيمن لم ينتقل ذهنه إلى حق ثابت في المعارف الدينية ولم يهتد فكره إليه مع كونه ممن لا يعاند الحق ولا يستكبر عنه أصلا بل لو ظهر عنده حق اتبعه لكن خفي عنه الحق لشيء من العوامل المختلفة الموجبة لذلك .

فهذا مستضعف لا يستطيع حيلة ولا يهتدي سبيلا لا لأنه أعيت به المذاهب بكونه أحيط به من جهة أعداء الحق والدين بالسيف والسوط، بل إنما استضعفته عوامل أخر سلطت عليه الغفلة، ولا قدرة مع الغفلة، ولا سبيل مع هذا الجهل، هذا ما يقتضيه إطلاق البيان في الآية الذي هو في معنى عموم العلة، وهو الذي يدل عليه غيرها من الآيات كقوله تعالى: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ( البقرة: 286)، فالأمر المغفول عنه، ليس في وسع الإنسان... (22).

الخاتمة:

بعد التعديل الذي أجريناه على الإشكالية تخليصاً لها من المغالطة المنطقية، يمكن تلخيص الإجابات وكنتائج فقط في ثلاثة نقاط:

1. ثمة أحقاب تأريخية لم تدوّن، إمّا لعدم اعتماد التدوين آنذاك كما هو الحال للأديان القديمة الغالب عليها سمة "الشفوية" كما رأى سميث،  أو  لأنّ الدين قلٌّ و الأنبياء وأتباعهم قلة مستضعفة، وكتابة التأريخ تجري على أيدي الأقوياء، وقد احتملت طائفة من علماء الإسلام بسنتهم وشيعتهم نبوة غير واحد من حكماء اليونان، وري عند الشيعة في أرسطو خاصة، على أنّنا حتى لو قبلنا إنحصار النبوة بالشرق فالمكان لا علاقة له بتأثير وانتشار الأفكار والعقائد، ويحدث أن يجري العكس تماماً كما في حالة المسيح عيسى بن مريم .

2. نصّ القرآن صراحة على أنّه لم يذكر كل الأنبياء بل طوى ذكر من لا يدرى عنهم  شيء على سبيل الجزم، هذا إذا اغمضنا النظر عن الكتاب الكريم لم يعد بغرض سرد التأريخ والأسماء بقدر ماهو يذكر الوقائع والأحداث والشخصيات بهدف العبرة والهداية، ثمّ إنّ آيات عموم البعث والإرسال مفتوحة على جميع الإحتمالات ولا نص يفيد العلم حتى فيمن نصّ على أسمائهم: هل كانوا جميعا أنبياء؟ وهل كلهم من الشرق؟ الشرق الذي شهد ولادة أول دين وآخره تتالت بعده الأنبياء بدينها الواحد وشرائعها المتعددة،  وفي كل الأحوال يبقى للشرق خصائصه التي تؤهله ليكون مهداً للرسالات وموضعاً لبعث الأنبياء .

3. لا ينكر تأثير البيئة والمجتمع على ثقافة الإنسان عموماً، ودينه الأول الذي وجد أهله ومحيطه عليه مما لا دور له فيه ولا اختيار، لكنّ طائلة المسائلة وأول تكليف يّوجه له لا يقع على حالة الصبى والقصور الإدراكي والمعرفي، بل في الحالة الأخرى الواقعة تحت اختيارته من حيث الإبقاء على ما نشأ عليه أو عدمه بعد البلوغ والتأهل العقلي والمعرفي الذي يسمح له بالمراجعة ثمّ اتخاذ القرار: إما البقاء عن إيمان قلبي تام وقناعة عقلية محكمة أو اتخاذ قرار الإزالة والعدول.

 

الهوامش

(1)راجع مثلاً : علم الأديان،  للماجدي : ص26 .
(2) يراجع فيهما كتاب : المغالطات المنطقية – فصول في المنطق غير الصوري ص25 و ص239 .
(3) الماجدي – أديان ومعتقدات ما قبل التاريخ ص10، دار الشروق، الإصدار الأول : 1997م .
(4) هوستن سميث - أديان العالم، ص536  .
(5) هوستن سميث - أديان العالم، ص555.
(6) ابن طاووس -  فرج المهموم في تاريخ علماء النجوم، ص 151، دار الذخائر – قم .
(7) صدر الدين الشيرازي - الأسفار الأربعة، ج 5، ص207
(8) قطب الدين اللاهيجي - محبوب القلوب، المقالة الأولى :  في أحوال الحكماء وأقوالهم من آدم إلى بداية الإسلام ،  ص281 وص 117، تقديم وتحقيق : د. ابراهيم الديباجي، و د.حامد صدقي، نشر : مرآة التراث، الطبعة الأولى : 1999م .
(9) حسن زاده الآملي –  هامش (2) من كتاب : كشف المراد في شرح تجريد الاعتقاد، للحلي، ص202.
(10) نديم الجسر- قصة الإيمان : بين الفلسفة والعلم والقرآن . ص 36، توزيع : دار الطليعة، الطبعة الثالثة : 1969م .
(11) قصة الحضارة ج2 ص424.
(12) هوستن سميث – أديان العالم ص300 .
(13) ترجم المقال للعربية بواسطة: المشـروع العراقي للترجمة :  www.iqtp.org/?p=15250 .
(14) محاورات أفلاطون – أسماء الأماكن ص213 .
(15) عنوان الكتاب : المائة - ترتيب أكثر الشخصيات تأثيرًا في التاريخ، لعالم الفيزياء الأمريكي المعاصر : مايكل هارت، ترجم الكتاب للعربية أنيس منصور بعنوان : الخالدون مئة أعظمهم محمد، لأنّ هارت وضع أسم النبي أولاً .
(16) الصدوق – الاعتقادات، ص92، تحقيق : عصام عبد السيد، مركز الأبحاث العقائدية (186) .
(17) ديورانت - قصة الحضارة، ج2 ص187، مصدر سابق .
(18) دوكينز - وهم الإله، ص347.
(19) جاء أيضاً في الكتاب المقدس : [لأنّ يسوع نفسه شهد ان ليس لنبي كرامة في وطنه] إنجيل يوحنا : 4: 44.
(20) رولف دوبلي –  [فن التفكير الواضح، 52 خطأ في التفكير يجب عليك تجنبها] ص32، ترجمة: نيرمين الشرقاوي، مؤسسة هنداوي، الطبعة الأولى: 2017م.
(21) الخوئي – التنقيح (الاجتهاد والتقليد ) ص 411، بقلم : الميرزا علي الغروي.
(22) الطبأطبائي – الميزان، ج5، ص51 .