لماذا احتجب الله سبحانه عن خلقه؟
السؤال: لماذا لا يمكننا رؤية الله سبحانه؟ أين أختفى؟ هل هو غير موجود؟ سؤال كثيراً ما يطرح على الأذهان، ويلحّ عليها باستمرار، طالبا إجابة شافيه... ولا يقتصر طرح هذا السؤال من قبل المشككين بوجود الله تعالى، بل هو سؤال يراود حتى المؤمنين منهم، لذا نجدهم يسألون بحثا عن جواب يملأ نفوسهم، ويدفع كلّ ريب عن عقيدتهم...
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
قد يفهم البعض من هذا السؤال، بأنّ الله تعالى غير موجود لعدم رؤيته، وذلك لانحصار مصدر المعرفة البشريّة عندهم بالحسّ فقط، وكلّ ما لدى الإنسان من صور، ومعانٍ إنّما هي وليدة الحسّ لا غير، وكلّ ما موجود في الذهن البشريّ إنّما هو انعكاس للحسّ، وليس للذهن البشريّ القدرة على استيراد معانٍ غير متولّدة من الحسّ السابق. فتكون الموجودات لديهم منحصرة بالمحسوسات، وأيّ شيء ليس بمحسوس فهو غير موجود.[نظريّة المعرفة ص١٣٨]
وبالتالي يكون عدم رؤية الله سبحانه دليلاً على عدم وجوده، إذ لو كان موجوداً لشاهدناه وبصرنا به...
وهذا الكلام واضح البطلان للناظر المعتبر وذلك:
أوّلاً: توجد أدلّة كثيرة على إثبات خالق لهذا العالم، وموجد للإنسان ليس من جنس البشر، ولا على شاكلتهم، بل موجود غير مادّي، والحال أنّ وسائل الإثبات ليست بمنحصرة بالإدراكات الحسّيّة، بل هي جزء من قوى اللإدراك، ووسائل المعرفة.
ثانيا: الأعمى لا يرى الأشياء الثابتة بحاسّة البصر، فلا يمكن له، ولا نقبل منه إنكار القمر لعدم رؤيته ، ولا نقبل من فاقد حاسّة السمع إنكار الاصوات لعدم سماعها من قبله، وهكذا كلّ خلل يصيب أدوات المعرفة الحسّيّة، ويمنع من إدراكها لا يعني عدم وجود الشيء غير المدرك بالفتح.
ثالثا : الحواس كثيراً ما يقع فيها الخطأ والاشتباه، فتحسّ ما ليس بموجودٍ موجوداً كما، هو الحال في السراب الذي تراه ماءً، وهو ليس بماء، وترى الخطوط المتقطّعة خطّاً واحداً متّصلا، وهو ليس بمتّصلٍ، وترى الاجسام صغيرةً لبعدها، وهي كبيرة في واقعها، فكثيرة هي أخطاء الحواس، فلا يمكن الوثوق بما تفرّدت به الحواسّ من علوم ومعارف، وما استقلّت به من إدراكاتٍ، بل يجب أنْ يكونَ هناك حاكم خلفها ورقيب لها ومصحّح لما تشتبه فيه من صور الأشياء ومعانيها ألّا وهي حكومة العقل.
رابعا: الحواسّ الظاهريّة ليست مدركةً، ولا شاعرةً، ولا يمكن لها ذلك، بل ليس لها من الأمر شيئاً لا تثبت ولا تنفي لا تحكم ولا أيَّ شيءٍ، بل هي أدوات ووسائط بين النفس البشريّة وبين الأشياء معدّات فكيف يعقل أنْ تكون ميزاناً للفصل بين الموجود والمعدوم وتنفي وتثبت؟ فلهذه الأسباب وغيرها لا يمكن أنْ نقولَ: إنَّ عدم وجدان الشيء وعدم رؤيتنا له يدلّ على عدم وجوده، بل هناك أمر آخر هو السبب في عدم رؤيته والمانع من مشاهدته والحاجب لشمس حقيقته... فنقول في بيانه:
نعتقد بأنَّ الحقّ سبحانه لا يمكن أنْ يُرى بالعين الحسّيّة البصريّة، لا في عالم الدنيا، ولا في عالم الآخرة لا تدركه الأبصار، لأنّه سبحانه ليس كمثله شيء، ولأنّهم لا يحيطون به علماً، وإلى غير ذلك من الآيات التي تحيل رؤيته البصريّة سبحانه، ومسألة رؤية الله تعالى، قد دخلت الى عالم المسلمين، وتسلّلت اليهم من عقائد اليهود والنصارى الذين يعتقدون بأنَّ الله سبحانه داخل في الأشياء، وموجود فيها كوجود شيءٍ في شيء، فيكون الحقّ المتعال محاطا ومحدوداً ومفتقرا، ويكون كسائر الأشياء التي تحتاج الى موجدٍ، وسببٍ لوجودها، ويكون له مكان وزمان، وهو خالق المكان والزمان فكيف نفترضه محكوما بهما خاضعا لقوانينهما؟
وبالتالي سيكون مفتقراً محدوداً، وليس غنيّاً مطلقاً كما هو الثابت بالبراهين والأدلّة العقليّة والنقليّة.
هذا هو تمام الكلام في مسألة الرؤية البصريّة، وهناك رؤية لله تعالى من نوع آخر تسمّى بالرؤية القلبيّة تثبتها الآيات والروايات، سنذكرها ان شاء الله في جواب منفصل.
فعن أمير المؤمنين (ع) يقول: ( ...أفأعبد ما لا أرى فقال له السائل وكيف تراه فقال صلوات الله عليه لا تدركه العيون بمشاهدة العيان بل تدركه القلوب بحقائق الايمان [نهج البلاغة الخطبة 179]
وغيرها الكثير من الروايات الدالّة على حصول رؤية من نوع آخر تسمّى بالرؤية القلبيّة. فالله تعالى يقول في محكم كتابه الكريم: {وإذا سألك عبادي عنّي فإنّي قريب أُجيب دعوة الداعي اذا دعان} (البقرة ١٨) ،وقوله تعالى {ونحن أقرب اليه من حبل الوريد}(ق١٦)، وقوله {إنَّ الله يحول بين المرء وقلبه}(الانفال٢٤)، وقوله سبحانه{ ونحن أقرب إليه منكم ولكن لا تبصرون} (الواقعة٨٥).
والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق