لماذا لا يكون هناك أكثر من إله؟

يقولُ البعضُ حولَ الرّدِّ على قولِه تعالى: { لَو كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا ۚ فَسُبحَانَ اللَّهِ رَبِّ العَرشِ عَمَّا يَصِفُونَ } (الأنبياء:22) ما الذي يمنعُ أن يكونَ هناكَ إلهانِ أو أكثر مُتّصفينِ بالكمالِ المُطلق ليحكموا الكونَ والكمالُ المُطلقُ يمنعُ الخلافَ بينَ الآلهة.. كما هوَ الحالُ في شريعةِ الهندوس! ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

مَن يتبنّى هذا الإشكالَ غفلَ بالتأكيدِ عن الأسسِ المنطقيّةِ التي يرتكزُ عليها البُرهان.

وقد سُمّيَ هذا البرهانُ عندَ المُتكلّمينَ ببُرهانِ التمانع، في إشارةٍ إلى حُكمِ العقلِ باستحالةِ تعدّدِ الآلهة، وقد أكّدَ العلّامةُ الطباطائيّ ذلكَ في كتابِه (نهايةُ الحِكمة) ضمنَ بحثِه (توحيدُ الربوبيّة)، حيثُ قالَ إنَّ ادّعاءَ وجودِ أكثرَ مِن خالقٍ ومُدبّرٍ لهذا العالمِ لازمُه الحتميُّ فسادُ نظامِ هذا العالم.

وبعبارةٍ أخرى: إنَّ فرضَ وجودِ أكثرَ مَن ربٍّ هوَ أمرٌ مستحيلٌ عقلاً.

وقبلَ مُناقشةِ هذا الإشكالِ لابدَّ مِن بيانِ حقيقةِ برهانِ التمانعِ والأسسِ التي يرتكزُ عليه:

يتألّفُ هذا البرهانُ مِن مُقدّمتين:

المُقدّمةُ الأولى: حكمُ العقلِ بوجودِ تناسقٍ وانسجامٍ بينَ عالمِ الخلق.

وهذهِ المُقدّمةُ يدركُها العقلُ بالضرورةِ فمُجرّدُ تصوّرِ الكونِ كافٍ للحُكمِ بعدمِ التنافرِ بينَ أجزائِه.

المُقدّمةُ الثانية: لو كانَ للكونِ أكثرُ مِن خالقٍ ومُدبّرٍ لَما شهِدنا هذا الانتظام.

وما ذكرَه السائلُ مِن إشكالٍ له علاقةٌ بهذهِ المُقدّمة، حيثُ يفترضُ السائلُ اتّفاقَ أكثرَ مِن إلهٍ على صناعةِ الكونِ بالشكلِ الذي هوَ عليه، والردُّ على هذهِ الشبهةِ سوفَ يأتي لاحقاً.

بعدَ التسالمِ على المُقدّمتين تصبحُ النتيجةُ الحتميّةُ أنَّ عالمَ الخلقِ لهُ إلهٌ واحدٌ خالقٌ ومُدبّر.

وقد أشارَت رواياتُ أهلِ البيت (عليهم السلام) إلى مضمونِ هذا البُرهان، فعن أميرِ المؤمنينَ (عليهِ السلام) قالَ: (واعلَم يا بُني أنّه لو كانَ لربِّكَ شريكٌ لأتَتكَ رُسلُه ولرأيتَ آثارَ مُلكِه وسلطانِه ولعرفتَ أفعالَه وصفاتَه، ولكنّه إلهٌ واحدٌ كما وصفَ نفسَه، لا يضادُّه في مُلكِه أحدٌ، ولا يزولُ أبداً، ولم يزَل).

وعن الإمامِ الصّادقِ (عليهِ السلام) في جوابِه للمُلحدِ الذي تحدّثَ عن إمكانيّةِ تعدّدِ الآلهة، قال:

(لا يخلو قولُك أنّهما اثنانٍ مِن أن يكونا قويّينِ أو يكونا ضعيفين، أو يكونَ أحدُهما قويّاً والآخرُ ضعيفاً.

فإن كانا قويّين فلمَ لا يدفعُ كلُّ واحدٍ مِنهما صاحبَه وينفردُ بالتدبير.

وإن زعمتَ أنَّ أحدَهُما قويٌّ والآخرُ ضعيفٌ ثبتَ أنّه واحدٌ كما نقول، للعجزِ الظاهرِ في الثاني.

وإن قُلتَ: إنّهما اثنانِ، لا يخلو مِن أن يكونا مُتّفقين مِن كلِّ جهةٍ أو مُتفرّقين مِن كلِّ جهة.

فلمّا رأينا الخلقَ مُنتظماً، والفلكَ جارياً، واختلافَ الليلِ والنهار، والشمسِ والقمر، دلَّ صحّةِ الأمرِ والتدبيرِ وائتلافِ الأمرِ أنَّ المُدبّرَ واحدٌ...).

وفي هذهِ الروايةِ إجابةٌ عن الإشكالِ الذي أشارَ إليهِ السائل: فالقولُ بوجودِ إلهينِ لا يخرجُ عن أحدِ احتمالين:

إمّا أن يكونا قويّين، وإمّا أن يكونَ أحدُهما قويّاً والثاني ضعيفاً.

ولا يمكنُ وضعُ احتمالٍ ثالث، كأن نقولَ أنَّ كليهما ضعيفان؛ لأنَّ حينَها تنتفي عَنهما صفةُ الألوهيّة.

وعليهِ ينحصرُ الأمرُ في احتمالينِ لا ثالثَ لهُما، فإن كانَ أحدُهما ضعيفاً والثاني قويّاً فقد ثبتَ أنّه إلهٌ واحد.

وإن كانَ كلاهُما قويّين فلماذا لا يدفعُ أحدُهما الآخر؟

ولا يقالُ هُنا: أنَّ الكمالَ المُطلقَ يمنعُ الاختلافَ كما أشارَ السّائل؛ وذلكَ لأنَّ الكمالَ المُطلقَ غيرُ مُتصوّرٍ في هذهِ الحالة؛ لأنَّ قوّةَ كلِّ إلهٍ تقفُ عندَ حدودِ قوّةِ الإلهِ الثاني، فتكونُ قوّةُ كلِّ واحدٍ مِنهما محدودةً بقوّةِ الآخر، وفي هذهِ الحالةِ ينتفي الإطلاقُ كما هوَ واضح.

وقدّمَ علماءُ الكلامِ بُرهانَ التمانعِ بصياغةٍ أخرى حيثُ قالوا:

إذا افترَضنا وجودَ إلهين وكانا مُستجمعينِ لشروطِ الألوهيّةِ التي مِنها القُدرةُ والإرادة. فإنّا نفترضُ أيضاً جوازَ تعلّقِ أحدِهما بإيجادِ المَقدورِ وتعلّقِ إرادةِ الآخرِ بعدمِ إيجاده. وذلكَ لأنَّ الاختلافَ في الدّاعي مُمكن.

وهُنا يمكنُ تصوّرُ ثلاثِ حالاتٍ لا غير:

1- إمّا أن يتمَّ ما أرادا جميعاً بأن يتحقّقَ مُرادُ كليهما، وهذا مستحيلٌ؛ لأنّه يستلزمُ اجتماعَ النقيضين.

2- وإمّا أن لا يتحقّقَ مرادُ أيٍّ مِنهما، وهذا معناهُ ارتفاعُ النقيضين. وهوَ محالٌ أيضاً. كما أنّه يلزمُ منهُ عجزُهما، وهذا خلفُ كونِهما إلهين.

3- وإمّا أن يتحقّقَ مرادُ أحدِهما ويمتنعَ مرادُ الآخر، فيكونُ مَن تمَّ مُرادُه هوَ الإله، والآخرُ ليسَ إلهاً؛ لأنّه عاجزٌ، والعاجزُ لا يصلحُ أن يكونَ إلهاً، وهذا خلفُ فرضِ كونِه إلهاً.

أمّا بخصوصِ الشبهةِ التي ذكرَها السائلُ فقد تعرّضَ لها المُتكلّمونَ مِن قبل، حيثُ قالوا: يستحيلُ تعدّدُ الآلهةِ لأنّ مفهومَ واجبِ الوجود لا يَصدقُ إلّا على ذاتٍ واحدةٍ غيرِ مُتعدّدة، ولا يجوزُ أن يُخصّصَ الإلهُ إرادتَه ليتّفقَ معَ الإلهِ الآخر، لأنَّ التخصيصَ علامةُ الإمكان، كما هوَ معلوم، والإمكانُ والإلهيّةُ لا يجتمعان. ولذا يستحيلُ وجودُ خالقين في محلٍّ واحدٍ بناءً على استحالةِ حلولِ مِثلين في محلٍّ واحد.

وإذا استخدَمنا نفسَ العباراتِ التي وردَت في السؤالِ وهوَ قولهُ: (مُتّصفينِ بالكمالِ المُطلق) فإنَّ الكمالَ المُطلقَ مفهومٌ لا يصدقُ إلّا على مصداقٍ واحدٍ فقط؛ لأنَّ تعدّدَ المصداقِ يعني عدمَ الاطلاق، إذ كيفَ يتّصفُ كلاهُما بالكمالِ المُطلق وكلُّ واحدٍ مِنهما يحدّدُ إطلاقَ الآخر؟

فإمّا أن يكونا مُتمايزينِ في جهةٍ منَ الجهات، فهذا يعني أنَّ هناكَ حدّاً فاصلاً يفصلُ بينَهما، وكلُّ محدودٍ لا يكونُ مُطلقاً ولا يكونُ إلهاً.

وإمّا أن يكونا مُتماثلين بالمُطلَق ولا يوجدُ ما يُميّزُ بينَهما، وفي هذهِ الحالةِ يكونانِ شيئاً واحداً وليسَ اثنين، إذ كيفَ يمكنُ أن نتصوّرَ وجودَ أمرين ولا شيءَ يفصلُ بينَهما؟

وكذلكَ الحالُ مِن جهةِ إرادةِ كلِّ واحدٍ مِنهما، فإمّا أن تكونَ إرادتُهما مُطلقةً، وإمّا أن تكونَ مُقيّدة.

فإن كانَت مُطلقةً استحالَ تخصيصُها بإرادةِ الآخر؛ لأنَّ لحظةَ تخصيصِها ينتفي عَنها الإطلاق، وعليهِ لا يصحُّ قولُ السائلِ اتفاقُهما على فعلِ شيءٍ واحد؛ لأنَّ حينَها تكونُ إرادةُ كلِّ واحدٍ مِنهما محدودةً بإرادةِ الآخرِ فينتفي بذلكَ الإطلاق.

أمّا إذا كانَت إرادتُهما منَ الأساسِ مُقيّدةً فبطلَ كونُهما آلهةً.

وإذا أرَدنا أن نضربَ مثلاً توضيحيّاً نقول:

لو كانَ هناكَ أكثرُ مِن مُهندسٍ اتّفقوا على صناعةِ مُنتجٍ مُشترك، فهذا يعني أنَّ كلَّ واحدٍ منَ الفريق لهُ وظيفةٌ مُحدّدةٌ تختلفُ عن وظيفةِ الآخر.

وبمعنىً آخر: كلُّ واحدٍ مِنهما مُطلقٌ مِن جهةٍ ومُقيّدٌ مِن جهةٍ أخرى.

وهذا الأمرُ يصحُّ في حقِّ المخلوقِ لأنَّ إرادتَه وقُدرتَه منَ الأساسِ محدودةٌ، ولكنّه لا يصحُّ في حقِّ الخالقِ فلا يكونُ مُطلقَ التصرّفِ مِن جهةٍ ومُقيّداً مِن جهةٍ أخرى، لأنَّ ذلكَ يتصادمُ معَ كمالِه ومعَ إطلاقِه.