رهان باسكال ...
سؤالٌ: هل يمكنُ الاعتمادُ على رهانِ باسكال في إثباتِ جدوى الإيمان.. الإيمانُ بالله / اللهُ غيرُ موجود = خسارةٌ محدودة (في الدّنيا) الإيمانُ بالله / اللهُ موجود = ربحٌ غيرُ محدود ( في الجنّة ) عدمُ الإيمانِ بالله/ اللهُ غيرُ موجود = ربحٌ محدود ( في الدّنيا) عدمُ الإيمانِ بالله / اللهُ موجود = خسارةٌ غيرُ محدودة (النّار) ملاحظة: العلمانيّونَ يصفونَ هذا الرّهانَ بالفاشلِ والسطحيّ لأنّهُ حصرَ الاحتمالَ بينَ وجودِ الله وعدمِ وجودِه.. والحالُ هناكَ احتمالاتٌ عديدةٌ أخرى مثلَ: الإلهُ موجودٌ/ الإلهُ غيرُ موجود/ الإلهُ كانَ موجوداً/ الإلهُ سيكونُ موجوداً/ الإلهُ لم يكُن موجوداً/ الإلهُ لن يكونَ موجوداً/ الإلهُ موجودٌ ويتواصلُ معَ البشر/ الإلهُ موجودٌ ولم يتواصَل معَ البشر/ الإلهُ يكافئُ مَن يؤمنُ به / الإلهُ يعاقبُ مَن لا يؤمنُ به / الإلهُ يعاقبُ مَن يؤمنُ به / الإلهُ يكافئُ مَن لا يؤمنُ به / الإلهُ هوَ يهوه / الإلهُ هوَ المسيح / الإلهُ هوَ الله / الإلهُ هوَ كارما / الإلهُ خلقَ الكونَ ثمَّ نسيَه / الإلهُ لا يهتمُّ بوجودِنا / الإلهُ خيّرٌ/ الإلهُ شرّير/ الإلهُ اندثر/ يوجدُ إلهانِ وليسَ واحد/ يوجدُ ثلاثةُ ألهة / إلخ..... فطالما قبِلنا بالمَبدأ ألا وهوَ الاحتكامُ لعلمِ الاحتمالِ لتحديدِ موقفِنا منَ الإله، فإنَّ علمَ الاحتمالِ نفسه الذي ارتضينا الاحتكامَ له يفرضُ علينا أن نمنحَ ذاتَ الفُرصةِ لكلِّ الاحتمالاتِ المُمكنة..
الجواب:
أوّلاً: لابدَّ منَ التأكيدِ على أنَّ اللهَ فطرَ العبادَ على معرفتِه ولولا تلكَ المعرفةِ الأوليّةِ لاستحالَ على العقلِ إثباتُ وجودِه تعالى، وقد أشَرنا إلى وجهِ تلكَ الاستحالةِ في كثيرٍ منَ الأجوبةِ السابقة.
وبذلكَ يصبحُ دورُ العقلِ في المعرفةِ هو الإقرار والتصديق بواقعِ تلكَ المعرفةِ المحفورةِ في وجدانِ كلِّ إنسان، ففي الحديثِ قال: سألتُ أبا جعفرٍ (عليهِ السلام) عن قولِ اللهِ عزَّ وجل: ﴿فِطرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيها﴾ قالَ: فطرَهم على معرفةِ أنّه ربّهم، ولولا ذلكَ لم يعلموا إذا سُئلوا مَن ربُّهم ولا مَن رازقُهم).
فمعَ كونِ المعرفةِ ثابتةً في واقعِ الفِطرة، إلّا أنّها قد تُحجبُ بحُجبِ الغفلةِ والهوى، فلا تستقيمُ إلّا بالتنبيهِ والتذكير.
ومِن هُنا كانَ منهجُ القرآنِ في معرفةِ اللهِ قائماً على تنبيهِ الغافلينَ وتذكيرِ الناسين، حيثُ نجدُ أكثرَ آياتِ الذّكرِ الحكيم تؤكّدُ على هذا المعنى.
فالقرآنُ لا يبرهنُ على أمرٍ مجهولٍ يريدُ إثباتَهُ كأيّ فرضيّةٍ أو نظريّة، وإنّما يُذكِّرُ ويدعو الناسَ إلى ربهّم الظاهرِ بذاتِه.
ثانياً: البراهينُ العقليّةُ في إثباتِ وجودِ اللهِ لا تؤسّسُ لمعرفةٍ مفهوميّةٍ تصوّريّةٍ للهِ تعالى، وإنّما تؤكّدُ على واقعِ تلكَ المعرفةِ الفطريّة.
ولذا نجدُ أنَّ الفيلسوفَ الفرنسيّ باسكال عندَما يتحدّثُ عن معرفةِ الله يقول: "إنَّ القلبَ هوَ الذي يستشعرُ اللهَ لا العقل، هذا هوَ الإيمان، اللهُ محسوسٌ للقلبِ لا للعقل"
بذلكَ نفهمُ رهانَ باسكال الذي أقامَه على وجودِ الله ليسَ إلّا تأكيداً لتلكَ المعرفةِ الأوّليّةِ التي يشعرُ بها الإنسانُ في قلبِه.
وهذا الموقفُ نجدُه أيضاً عندَ إيمانويل كانط، الذي كانَ يزعمُ بأنَّ العقلَ الخالصَ يجهلُ ما هوَ الله، ولا يمكنُه إنشاءُ مفهومٍ أصيلٍ له، وإنّما الأخلاقُ والعقلُ العمليّ هوَ الذي يدعونا للإيمانِ بالله والتسليمِ بوجوده.
فالمعرفةُ الفطريّةُ بمثابةِ المحطّةِ النهائيّةِ التي يتمُّ الوصولُ إليها عبرَ طرقٍ مُتعدّدةٍ مِن بينِها البراهينُ النظريّةُ أو المواقفُ الأخلاقيّة.
وقد أشارَ القرآنُ إلى ذلكَ مِن خلالِ أمرِه بالتفكّرِ في آياتِ الكونِ والنفسِ أو مِن خلالِ الكوارثِ والمصائبِ التي تربطُ الإنسانَ قهراً باللهِ تعالى.
ثالثاً: إذا رجَعنا لرهانِ باسكال نجدُه يقومُ على احتمالِ وجودِ الله، وعليهِ فإنَّ عدمَ الإيمانِ به معَ وجودِ هذا الاحتمالِ يؤدّي إلى خسارةٍ كبيرةٍ في الآخرة، وربحٍ يسيرٍ في الدّنيا.
في حينِ أنَّ الإيمانَ به يُحقّقُ الرّبحَ الكبيرَ في الآخرة، معَ خسارةٍ محدودةٍ في الدّنيا.
وهذا البرهانُ يقتربُ كثيراً ممّا هوَ معروفٌ في علمِ الكلامِ الإسلاميّ بوجوبِ دفعِ الضّررِ المُحتمل.
فكما هوَ واضحٌ فإنَّ برهانَ باسكال لا يقومُ على إثباتِ وجودِ الله وإنّما يقومُ على ضرورةِ الإيمانِ به لمُجرّدِ احتمالِ وجودِه، فالعقلُ الإنسانيّ كما يدعو لضرورةِ دفعِ الضّررِ الحتميّ يدعو أيضاً إلى ضرورةِ دفعِ الضّررِ المُحتمل.
وعليهِ ما توصّلَ له باسكال نتيجةٌ منطقيّةٌ لمُقدّماتٍ منطقيّة.
ولا يردُ عليهِ ما أوردَه بعضُ المُعترضين، وإذا رجَعنا لِما أشارَ إليه السائلُ نجدُ أنّه يقومُ على مُغالطاتٍ كثيرة.
يقولُ: (يصفونَ هذا الرّهانَ بالفاشلِ والسّطحي لأنّه حصرَ الاحتمالَ بينَ وجودِ الله وعدمِ وجودِه)، وهذا حصرٌ عقليٌّ مِن جهةِ الوجودِ والعدم، إذ كيفَ يمكنُ افتراضُ احتمالٍ ثالثٍ بينَ الوجودِ والعدمِ وهُما نقيضانِ لا يجتمعانِ ولا يرتفعان؟
وعليهِ فوضعُ أيّ احتمالاتٍ أخرى تكونُ خارجةً عن طبيعةِ البُرهانِ ولا تؤثّرُ في نتيجتِه المنطقيّة.
يقولُ: (والحالُ هناكَ احتمالاتٌ عديدةٌ أخرى مثلَ الإلهِ موجود/ الإلهُ غيرُ موجود/ الإلهُ كانَ موجوداً/ الإلهُ سيكونُ موجوداً/ الإلهُ لم يكُن موجوداً/ الإلهُ لن يكونَ موجوداً/).
لا يمكنُ لمَن يحترمُ عقلَه أن يضعَ مثلَ هذه الاحتمالاتِ كمُعارضٍ للاحتمالِ الذي يتردّدُ بينَ الوجودِ والعدم، فالإلهُ كانَ موجوداً، أو سيكونُ موجوداً، كلُّ ذلكَ عنوانٌ لحقيقةٍ واحدة وهيَ الوجود، والإلهُ لم يكُن موجوداً أو لن يكونَ موجوداً هيَ عنوانٌ لحقيقةٍ واحدةٍ وهيَ العدم، فكلُّ ذلكَ ليسَ إلّا لقلقةَ لسانٍ لا تُفضي لأيّ حقيقةٍ موضوعيّة.
فليسَ هناكَ شيءٌ ثالثٌ بينَ كونِ اللهِ موجوداً أو غيرَ موجود.
هذا مُضافاً إلى أنّها احتمالاتٌ تتعارضُ معَ منطقِ العقل، فمتى ما افترضَ العقلُ وجودَ اللهِ افترضَ معَه القدمَ والأزلَ فلا يقالُ في حقِّه كانَ موجوداً أو سيكونَ موجوداً، فالذي كانَ ثمَّ لم يكُن، أو الذي لم يكُن ثمَّ كانَ لا يمكنُ أن يكونَ إلهاً.
يقولُ: (الإلهُ موجودٌ وتواصلَ معَ البشر/ الإلهُ موجودٌ ولم يتواصَل معَ البشر)
هذا احتمالٌ صحيحٌ فيما يتعلّقُ بإثباتِ النبوّةِ والرّسالة، ولا علاقةَ له باحتمالِ باسكال القائمِ على أصلِ وجودِه.
يقولُ: (الإلهُ يُكافئُ مَن يؤمنُ به / الإلهُ يعاقبُ مَن لا يؤمنُ به / الإلهُ يعاقبُ مَن يؤمنُ به / الإلهُ يكافئُ مَن لا يؤمنُ به).
وهذهِ الاحتمالاتُ تدلُّ على أنَّ أصحابَها أبعدُ ما يكونونَ عن أسسِ التفكيرِ المنطقيّ، إذ كيفَ يمكنُ فرضُ مثلِ هذهِ الاحتمالاتِ ونحنُ لم نُفرِّق مِن احتمالِ وجودِه وعدمِه؟ فإذا كانوا قاطعينَ بعدمِ وجودِه فلا معنى لهذهِ الاحتمالات، أمّا إذا كانوا مُحتملينَ لوجودِه كما افترضَ رهانُ باسكال فحينَها ستكونُ النتيجةُ نفسَها التي توصّلَ لها باسكال؛ لأنَّ احتمالَ أن يكافئَ مَن يؤمنُ به ويعاقبَ مَن لا يؤمنُ به يوجبُ على العقلِ الايمانَ به دفعاً للضّررِ المُحتمل، وهوَ نفسُه ما قالَه باسكال، أمّا احتمالُ أن يُعاقبَ مَن يؤمنُ به ويكافئَ مَن لا يؤمنُ به فهوَ احتمالٌ يستحيلُ على العقلِ تصوّرُه، إذ كيفَ يرتكزُ العقلُ على مُسلّمةِ كونِه إلهاً وفي نفسِ الوقتِ يحتملُ مثلَ هذهِ الاحتمالات؟ فإذا كانَ العقلُ يُدينُ مثلَ هذا التصرّفَ منَ إنسانٍ يعاقبُ المُحسنَ ويثيبُ المسيءَ فكيفَ يجيزُه في حقِّ اللهِ تعالى؟
يقولُ: (/ الإلهُ هوَ يهوه / الإلهُ هوَ المسيح / الإلهُ هوَ الله / الإلهُ هوَ كارما).
كلُّ هذهِ الاحتمالاتِ كما هوَ واضحٌ تأتي في مرحلةٍ مُتأخّرةٍ عَن احتمالِ الوجودِ والعدم، بل كلّها قائمةٌ على الجزمِ بوجودِه، فإذا لم يكُن موجوداً كيفَ نفترضُ أنّه يهوه أو المسيحُ أو غيرُ ذلك؟
وعليهِ: هناكَ نوعانِ منَ الأسئلة:
السؤالُ الأوّل: هل اللهُ موجود؟
والثاني: مَن هوَ الإلهُ على فرضِ وجودِه؟
فما تمَّ ذكرُه مِن احتمالاتٍ يصلحُ للإجابةِ عن السؤالِ الثاني وليسَ السؤالِ الأوّل.
يقولُ: (الإلهُ خلقَ الكونَ ثمَّ نسيَه / الإلهُ لا يهتمُّ بوجودِنا / الإلهُ خيّرٌ/ الإلهُ شرّير/ الإلهُ اندثر/ يوجدُ إلهانِ وليسَ واحداً/ يوجدُ ثلاثةُ ألهة)
بحسبِ منطقِ التفكيرِ العقليّ لا تصحُّ هذهِ الاحتمالات، فالمُفترضُ في أيّ احتمالٍ أن لا يؤدّي إلى (الخلف)، أي لا يكونُ مُعارضاً للمبدأ الذي قامَ عليهِ الاحتمال، فمثلاً لو احتمَلنا وجودَ جبلٍ في مكانٍ ما، فيمكنُ أن يكونَ هذا الجبلُ منَ الصّخورِ الرسوبيّة أو منَ الصّخورِ المتحوّلةِ أو غيرِ ذلكَ مِن أنواعِ الصّخور، ولا يمكنُ أن نضعَ مِن بينِ الاحتمالاتِ أنّه جبلٌ سائلٌ تسبحُ فيهِ الأسماكُ لأنَّ هذا الاحتمالَ ينفي احتمالَ كونِه جبلاً، وكذلكَ الحالُ هُنا فإذا افترَضنا كونَه إلهاً لا يمكنُ أن نفترضَ أنّه ينسى أو يندثرّ أو لا يهتمُّ بخلقِه أو شرّيرٌ لأنَّ هذهِ الاحتمالاتَ تتعارضُ معَ افتراضِ كونِ إله.
فليسَ مِن حقِّ الإنسانِ أن يحتملَ ما يشاء، وإنّما يجبُ أن يحتملَ بحسبِ ما تُمليهِ المُبرّراتُ المنطقيّة، فهناكَ احتمالاتٌ عُقلائيّة واحتمالاتٌ غيرُ عُقلائيّة وما يلتفتُ إليه العقلُ هوَ الاحتمالُ العُقلائيّ فقط.
اترك تعليق