هل تقدم العلم يهدد الدين؟
في كلِّ مرةٍ نكتشفُ أنَّ سببَ حدوثِ الأشياءِ هيَ قوانينُ الطبيعةُ البَحتة، يتمُّ دفعُ اللهِ درجةً إلى الوراء، فيقولُ المؤمنونَ بأنَّ اللهَ هوَ السببُ وراءَ مسبِّباتها. وعندَما يتمُّ اكتشافُ السّببِ وراءَ مُسبّباتِها كذلك، يتمُّ دفعُ اللهِ درجةً أخرى للوراء وهلمَّ جرًّا. اليومَ وصلَ اللهُ إلى مرحلةِ أنّه لا يفعلُ أيَّ شيءٍ أكثرَ مِن أن يكونَ السببُ والعلَّةُ الأولى فقط. لكن، هل سيختفي الإيمانُ بالله لو عرَفنا أنَّ سببَ نشوءِ الكونِ هوَ سببٌ طبيعيٌّ بحتٌ.
مُلخّصُ الجواب:
معَ التطوّرِ الكبيرِ للعلومِ الطبيعيّةِ وما أحدثَته مِن تقدّمٍ في كلِّ المجالاتِ إلّا أنّه ما يزالُ ينقصُها الكثيرُ للوصولِ إلى مرحلةِ الإحاطةِ بكلِّ الظواهرِ الطبيعيّة.
ولو افترَضنا تمكّنَ العلومِ منَ الإجابةِ عن كلِّ الأسئلةِ فإنَّ ذلكَ لا علاقةَ له بالإيمانِ باللهِ وبعبادتِه؛ وذلكَ لأنَّ العلومَ الطبيعيّةَ لا تتحرّكُ في نفسِ المسارِ الذي تتحرّكُ فيهِ الضرورةُ الدينيّة.
فمعرفةُ الأسبابِ المُباشرةِ للظواهرِ الطبيعيّةِ لا يُغني الإنسانَ عن معرفةِ اللهِ الخالقِ لتلكَ الظواهر، ومنَ الواضحِ أنَّ حاجاتِ الإنسانِ ليسَت مادّيّةً فقط وإنّما أيضاً روحيّةٌ ومعنويّة، والدينُ والعلمُ كلاهما يخدمانِ الإنسانَ بوصفِه مادّةً وروحاً، فلا يستغني الإنسانُ عن العلمِ كما لا يستغني عن الدين.
الجوابُ التفصيليّ:
افتراضُ وجودِ تعارضٍ بينَ الدّينِ والعلمِ افتراضٌ ساذجٌ لا يتبنّاهُ إلّا جاهلٌ بالعلمِ والدينِ معاً، فلا موضوعاتُهما مشتركةٌ ولا غاياتُهما واحدةٌ ليحدثَ هذا التعارضُ المُتوهّم.
ففي كتابِه (نصيحةٌ لعالمٍ مُبتدئ) يُحدّدُ السير بيتر مداور - الحائزُ على جائزةِ نوبل - قاعدةً ذهبيّةً للعالمِ المُبتدئ، فيقولُ: "لا شيءَ يفقدُ الثقةَ في العالمِ قدرَ تصريحِه بأنَّ العلمَ يعلمُ أو سيعلمُ قريباً الإجابةَ عن كلِّ الأسئلةِ التي تستحقُّ أن تُسأل، وإنَّ الأسئلةَ التي لا توجدُ لها إجابةٌ علميّةٌ لا تستحقُّ أن تُسألَ وتعتبرُ علماً كذباً، ولا يسألُها إلّا الحمقى، ولا يحاولُ الإجابةَ عَنها إلّا السذَّج.
ويضيفُ: لا شكَّ أنَّ للعلمِ حدوداً لا يستطيعُ تجاوزَها، فالعلمُ لا يستطيعُ الإجابةَ عن الأسئلةِ البديهيّةِ التي يطرحُها علينا أطفالنا: كيفَ بدأ هذا الوجود؟ كيفَ جِئنا هُنا؟ ما الغرضُ مِن حياتِنا؟ وغيرُها كثير، إنَّ هذهِ الأسئلةَ ليسَ لها إجابةٌ إلّا عندَ الفلاسفةِ ورجالِ الدين"
وبذلكَ يؤكّدُ السير بيتر على التباينِ بينَ موضوعاتِ العلومِ الطبيعيّةِ وغاياتِها وبينَ موضوعاتِ الأديانِ وغاياتِها.
فالعلومُ الطبيعيّةُ تتحرّكُ في إطارِ الظواهرِ الطبيعيّة، حيثُ ترصدُ الأجسامَ الثابتةَ والمُتغيّرةَ سواءٌ كانَت منَ العناصرِ الطبيعيّة، أو الكائناتِ الحيّةِ، أو النباتات.
وبذلكَ تصبحُ غايةُ تلكَ العلومِ هيَ تفسيرُ العالمِ وما فيهِ مِن ظواهرَ ووضعُ نظريّاتٍ تصلحُ لفهمِ ما يدورُ في الطبيعة.
ومِن ثمَّ تسخيرُ كلِّ ذلكَ لخدمةِ الإنسان، وتذليلُ الصّعابِ التي تواجهُه في صراعِه معَ الطبيعة.
وقد عُرّفَت العلومُ الطبيعيّةُ بأنّها العلومُ المُتخصّصةُ في دراسةِ الجانبِ المادّيّ والفيزيائيّ لكلِّ ما هوَ موجودٌ في هذا الكون.
وتعتمدُ هذه العلومُ على المناهجِ الحِسّيّةِ والتجريبيّة.
وفي مقابلِ العلومِ الطبيعيّةِ هناكَ العلومُ الإنسانيّة التي تهتمُّ برصدِ الإنسانِ بوصفِه كائناً مُريداً له قصدٌ وهدفٌ، فتهتمُّ بدراسةِ السلوكِ البشريّ اجتماعيّاً وسياسيّاً واقتصاديّاً ونفسيّاً وتربويّاً وغير ذلكَ ممّا له علاقةٌ بالسلوكِ الحضاريّ للإنسان.
والغايةُ مِنها هيَ فهمُ الإنسانِ أوّلاً، ومِن ثمَّ وضعُ البرامجِ المُناسبةِ لحياتِه.
وتعتمدُ هذه العلومُ على العقلِ البُرهانيّ والتحليليّ والاستنباطيّ والاستقرائيّ وغيرِ ذلك.
وإذا تبيّنَ الفرقُ بينَ العِلمين يتّضحُ بأنَّ الأديانَ لا علاقةَ لها بالعلومِ الطبيعيّة، بل هيَ أقربُ إلى العلومِ الإنسانيّة؛ لأنَّ هدفَ الأديانِ هوَ هدايةُ الإنسانِ وإرشادُه إلى الحياةِ السعيدة.
فتقدّمُ العلومِ التطبيقيّةِ والطبيعيّة لا يحدثُ أيَّ تأثيرٍ على مسارِ الدّينِ أو العلومِ الإنسانيّة.
فلا العلومُ الطبيعيّةُ تستبعدُ الدّينَ، ولا الدينُ يستبعدُ العلومَ الطبيعيّة؛ بل كلاهما يخدمانِ الإنسانَ بوصفِه مادّةً وروحاً.
فهدفُ الأديانِ هوَ إيجادُ حياةٍ متوازنةٍ للإنسان، لا تكونُ فيها المادّةُ طاغيةً على حسابِ الرّوح، ولا يكونُ فيها الحسُّ محورَ الاهتمامِ بعيداً عن المعنى، ولا تكونُ المصلحةُ المادّيّةُ بديلاً عن القيمِ الأخلاقيّة.
وكلُّ ذلكَ لا علاقةَ له بما يتوصّلُ إليه العلمُ الحديثُ مِن علومٍ في مجالِ الطبيعةِ والمادّة.
وفي نفسِ الوقتِ لم يعمَل الدينُ على محاربةِ العلومِ الطبيعيّةِ حتّى يكونَ وجودُه خطراً عليها، بل على العكسِ مِن ذلك حيثُ أمرَ الدينُ بالعلمِ والتعلّمِ في جميعِ المجالاتِ التي تُشكّلُ مصدرَ اهتمامٍ للإنسان.
فإذا نظَرنا للإسلامِ كدينٍ خاتمٍ للأديانِ السماويّةِ نجدُه اهتمَّ بالبُرهان (قُل هَاتُوا بُرهَانَكُم إِن كُنتُم صَادِقِينَ).
كما اهتمَّ بالعلمِ والعُلماء (إنّما يخشى اللهَ مِن عبادِه العُلماء).
وأمرَ بالعقلِ والتعقّل (قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ).
وكلُّ ذلكَ يكشفُ عن اهتمامِ الإسلامِ بضرورةِ البحثِ العلميّ في كلِّ الميادينِ والمجالات.
فالمؤمنُ باللهِ هوَ الذي لا يجعلُ لبحثِه العلميّ حدّاً يقفُ عندَه، قالَ تعالى (نَرفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ ۗ وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ عَلِيمٌ) فليسَ هناكَ سقفٌ للعلمِ يقفُ عندَه البحثُ العلمي.
وبذلكَ ينكشفُ لنا حجمُ السذاجةِ التي وقعَ فيها المُعترض.
فأوّلاً: الدينُ لا يعارضُ نسبةَ المُسبّباتِ لأسبابِها الطبيعيّة.
ثانياً: كونُ اللهِ مُسبّبَ الأسبابِ لا يتعارضُ معَ العلم؛ لأنَّ العلمَ يتعاملُ معَ الأسبابِ المُباشرة.
ثالثاً: رجوعُ العللِ والأسبابِ إلى مُسبّبٍ واحدٍ مِن بديهيّاتِ التفكيرِ المنطقيّ ولا يجادلُ فيها إلّا أحمق.
اترك تعليق