هل الحل لمشكلات واقعنا يكمن في العودة الى الإسلام وتطبيق الشريعة وهو ما تنادي به كل التيارات الدينية ؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :   

الإجابةُ على هذا السّؤالِ تستوجبُ تفصيلاً واسِعاً بسببِ الخلافِ المُحتدمِ في الساحاتِ السياسيّةِ في الأمّةِ الإسلاميّة، وبما أنَّ المقامَ لا يسمحُ بذلكَ فإنّنا سوفَ نعملُ على اختصارِ الإجابةِ على أملِ أن نُوفّقَ في كتابةِ مقالٍ تفصيلي.   

منَ المؤكّدِ أنَّ الإسلامَ هوَ الذي حكمَ العالمَ الإسلاميَّ إلى وقتِ انهيارِ الخلافةِ العُثمانيّة (1924م) فتشكّلَت بعدَها دولٌ على أسسٍ غيرِ إسلاميّة أو على الأقلِ لا ترفعُ شعاراً إسلاميّاً في الحُكم، فبتفكّكِ الخلافةِ الإسلاميّة ودخولِ المُستعمرِ وتجزئةِ العالمِ الإسلاميّ تبدّدَ حلمُ الخلافةِ الإسلاميّة (الصورة المورثة للسياسةِ الإسلاميّة) ووقعَت الأمّةُ في حيرةٍ جعلتها عُرضةً للاستسلامِ أمامَ كلِّ التيّاراتِ السياسيّة الجديدة، فبرزَت ثقافةٌ كان أساسُها القوميّةُ والحكوماتُ القُطريّة، وقد ساهمَ أتاتورك الذي أقامَ نظامَه العلمانيَّ على أنقاضِ الخلافةِ العُثمانيّة على تكريسِ هذهِ الثقافة، وبدأت موجةُ القوميّةِ تجتاحُ العالمَ العربيَّ والإسلامي.  

يقرّبُنا هذا التصوّرُ الأوّليّ إلى خلفيّةِ الأزماتِ السياسيّة التي تُعاني منها المنطقة، حيثُ توارثَت الأمّةُ على مدى ثلاثةَ عشرَ قرناً منَ الزّمنِ شكلاً واحداً للحُكم، يتمثّلُ في الخلافةِ الإسلاميّة، وقد قُدّمَ الإسلامُ في طوالِ هذهِ الفترةِ بالشكلِ الذي لا يتناقضُ معَ هذا النّظام، الأمرُ الذي ساعدَ على إبعادِ الأمّةِ عن الشأنِ السياسيّ وإيكالِ الأمرِ إلى مَن يُسمّى بخلفاءِ اللهِ ورسولِه، فتبلّدَت وتجمّدَت عقليّةُ الأمّةِ سياسيّاً، وأصبحَ منَ الصعبِ إنتاجُ تصوّرٍ سياسيٍّ ينتمي إلى الإسلامِ وفي الوقتِ ذاتِه يمكنُه مواكبة تحدّياتِ الواقعِ الرّاهن، وقد شكّلَ هذا الإرثُ السياسيُّ نوعاً منَ النفورِ منَ التجاربِ الإسلاميّةِ في الحُكم، بسببِ المظالمِ الكبيرةِ والاضطهادِ الذي مارسَه الخلفاءُ في كلِّ الحقبِ التاريخيّة.   

وفي المقابلِ شكّلت الدولُ الغربيّةُ والأنظمةُ الحديثةُ في الحُكمِ تحدّيّاً آخرَ أمامَ إقامةِ أيّ مشروعٍ إسلاميّ، فحتّى بدايةِ القرنِ التاسعِ عشر كانَ الإسلامُ نظاماً مقبولاً وأمراً واقعاً، حيثُ لم يكُن بوسعِ المُسلمِ تصوّرُ نظامٍ آخر وبديلٍ أفضل، فقَد كانَت الشريعةُ الإسلاميّةُ بنظامِها الأخلاقيّ والقانوني تُحقّق التفاعلَ المطلوبَ معَ النمطِ الثقافيّ والعُرفي لتلكَ المُجتمعات، وبعد تطوّرِ المُجتمعاتِ الإسلاميّة وانفتاحِها على كياناتٍ وأنظمةٍ سياسيّةٍ أخرى، أصبحَ هناكَ نوعٌ منَ التفكيرِ يقارنُ بينَ التجاربِ الحديثةِ للحُكم والتجربةِ التقليديّة، وأصبحَ النموذجُ الأوروبيُّ هوَ الحلمُ الذي يراودُ أجيالَ الأمّةِ الإسلاميّة، وقد أوجدَ ذلكَ جوّاً ثقافيّاً قدّمَ مقارباتٍ جديدةً للحرّيّةِ، والمُساواة، والكرامةِ، والعدالة، والتعدّديّة، والديمقراطيّة، والحقوقِ، ودولةِ القانون، والمواطنة... وغيرها منَ العناوينِ التي أصبحَت أكثرَ حضوراً وتفاعلاً في الشارعِ المُسلم، فوجدَت العقليّةُ التقليديّة الُمتصدّيةُ للمشروعِ الإسلاميّ نفسَها تعيشُ حالةً منَ الانفصالِ عن الواقعِ وهمومِ الناسِ وحاجاتِهم، الأمرُ الذي كرّسَ النفورَ منَ الخطابِ السياسيّ الإسلاميّ بوصفِه خطاباً رجعيّاً غيرَ مُنسجمٍ معَ التحوّلاتِ الثقافيّةِ والاجتماعيّةِ والسياسيّة.  

وفي مقابلِ كلِّ ذلكَ هناكَ غيابٌ للتصوّرِ الواضحِ حولَ نظامِ الحُكمِ في الإسلام، ومعَ الأسفِ لم تُجمِع الحركاتُ الإسلاميّة على رؤيةٍ واحدةٍ واضحةٍ حولَ طبيعةِ النظامِ الإسلامي، وما تُنادي بهِ الحركاتُ الإسلاميّة لا يتجاوزُ حدودَ الشعارِ ومجرّدَ الدّعوةِ إلى حُكمِ الله، فالحركاتُ الإسلاميّة التي تُوصَفُ بكونِها أكثرَ واقعيّةٍ لم تتميّز في عملِها السياسيّ عن الأحزابِ غيرِ الإسلاميّة إلّا في إطار تبنّيها لشعارِ الإسلام، أمّا في ما يخصُّ نظامَ الحُكمِ والهيكليّةِ الإداريّة وكيفيّة الوصولِ إلى السلطةِ وشرعيّة الحاكمِ فهيَ تمارسُ السياسةَ كما يمارسُها الآخرونَ، الأمرُ الذي جعلَ البعضَ يتّهمُها بأنّها تستخدمُ الإسلامَ لتمريرِ أجندتِها السياسيّة، وهناكَ نوعٌ آخرُ منَ الحركاتِ التي توصفُ بكونِها خارجةً عَن إطارِ الواقعِ وهيَ الحركاتُ السلفيّةُ التي ترفعُ شعارَ العودةِ إلى دولةِ الخلافةِ الإسلاميّة، وبالتّالي ترفضُ هذهِ الحركاتُ كلَّ أدواتِ السياسةِ الحديثةِ التي تقومُ على التنافسِ الديموقراطيّ حيثُ اعتبرَتها نوعاً منَ الكُفر، وقد فشلَت هذهِ الحركاتُ في تقديمِ نموذجٍ للحُكمِ الإسلاميّ يمكنُ أن يتطلّعَ إليه الجميع.

وبناءً على هذا التصوّرِ تتعقّدُ الإجابةُ على هذا السّؤال، فإذا انطلقنا مِن تحليلِ الواقعِ السياسيّ في العالمِ الإسلاميّ وبحثنا مِن بينِ الخياراتِ الإسلاميّةِ المطروحة لا يمكنُ أن نجزمَ بكونِ الإسلامِ هوَ الحل، والكلامُ عن تطبيقِ الشريعةِ يؤكّدُ المفهومَ المشوّهَ للنّظامِ الإسلامي، حيثُ يعتقدُ البعضُ أنَّ مجرّدَ تطبيقِ الشريعةِ وإقامةِ الحدودِ هوَ الذي يجعلُ الدّولةَ إسلاميّةً، الأمرُ الذي يؤكّدُ على أنَّ شعارَ (الإسلامُ هوَ الحل) يكتنفُه الكثيرُ منَ الغموض، وفي المقابلِ إذا ابتعَدنا عَن هذا الواقعِ وبحَثنا في النصِّ الدينيّ بعيداً عن ثقافِتنا المُنهزمةِ وما يحمله الواقعُ مِن خيباتٍ وتعاملنا معهُ بوصفِه قِيَماً ومعاييرَ أخلاقيّة لا يسعُنا إلّا الاعترافُ بكونِه هو الحل، فأسبابُ تخلّفِ الأمّةِ هي في ابتعادِها عن القيمِ الحضاريّة التي نادى بها الإسلام، فالعلمُ والعملُ والتقدّمُ والتطوّرُ والعدلُ والحرّيّةُ والمساواةُ والتنميةُ وغيرُ ذلكَ مِن قيمِ النهوضِ تمثّلُ قيماً إسلاميّة لا تتمُّ العبادةُ للهِ إلّا بها، كما أنَّ الضميرَ الأخلاقيَّ الذي يُنمّيه الدينُ في نفسيّةِ الأمّة هوَ الضامنُ لحصانةِ الأمّةِ منَ الانحراف، إلّا أنَّ الأمّةَ تخلّت عن قيمِها وعن ضميرِها الأخلاقيّ فكانَ هذا هوَ حالها.  

وعليهِ فالسياسةُ في الإسلامِ يجبُ أن تكونَ حركةً أخلاقيّةً تسعى لبناءِ مُجتمعٍ تقوُم روابطهُ على قيمِ الحقِّ والفضيلة، وتعملُ على رفضِ كلِّ المظالمِ بما فيها الاضطهادُ السياسيُّ والاستئثارُ بالسّلطة، وتسعى لتحقيقِ العدلِ والمساوةِ وإقامةِ الحقوقِ وتحقيقِ الرّفاهِ والتنمية، والدّفعِ بالأممِ والمُجتمعاتِ إلى الأمام، لتحقيقِ تكاملِ الإنسانِ وبناءِ حضارةِ الإسلام، وتتوسّلُ السياسةُ في الإسلامِ لتحقيقِ ذلكَ بالصّدقِ والإخلاصِ وكلِّ قيمِ الفضيلةِ والأخلاق. وهذا الواقعُ الطموحُ هو الذي يجبُ أن يتمسّكَ بهِ الجميع؛ لأنّهُ يُمثّلُ الفهمَ الذي يتعاملُ معَ الإسلامِ بوصفِه رسالةً للحياةِ وليسَ رسالةً تتعاملُ معَ الإنسانِ فقط بعدَ الموتِ وفي عالمِ الآخرة.