هل كل فعل يصدر عن الرسول (ص) يعتبر حسنًا عقليًا؟
السؤال: هل هناك تلازمٌ بين صدور الفعل من الرسول (ص) وبين حسنه العقليّ؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
للوقوف على الجواب المناسب عن سؤالكم لا بدّ من بيان بعض الأمور:
الأمر الأوّل: هنالك عدّة معانٍ وإطلاقات للحسن والقبح ربّما أوصلها بعضهم إلى عشرة أو أكثر، والذي يعنينا منها هو الإطلاق الذي يتمحور البحث حوله في علم الكلام وعلم أصول الفقه، وقد جاء في بيان معناه ما يأتي:
1- الفعل الحَسَن، وله عند علماء الطائفة تعريفان:
أحدهما: هو ما يحكم العقل باستحقاق فاعله المدح، وكان قاصداً إلى فعله. [ينظر: بداية المعارف الإلهية للخرّازيّ ج1،ص107 ، وتقريب المعارف لأبي الصلاح الحلبيّ ص97] .
والآخر: هو ما لا يستحقّ فاعله الذمّ. [ينظر: الذريعة للسيّد المرتضى ج2 ص563].
2- الفعل القبيح، وهو: ما يحكم العقل باستحقاق فاعله الذمّ، مع كونه عالماً بقبحه أو متمكّناً من العلم بذلك، ولم يكن مُكرهاً عليه أو مضطرّاً إليه. [ينظر تمهيد الأصول في علم الكلام للطوسيّ ص160].
الأمر الثاني: في بيان معنى حكم العقل - والمراد به حكم العقل العمليّ في قبال النظريّ - وهو: أنّ يُدرِكَ العقلُ كون هذا الفعل ممّا ينبغي أن يُفعل لما فيه من حُسنٍ ، وذاك الفعل ممّا ينبغي أن يُترك لما فيه من قُبح. [ينظر أصول الفقه للشيخ المظفّر ج2 ص278].
الأمر الثالث: كلّ فعلٍ من أفعال الإنسان لا يخلو - شرعاً - من الاتّصاف بأحد عناوين الأحكام الخمسة، وهي: الواجب كالصلاة اليوميّة، والمستحب كغسل الجمعة، والحرام كالغِيبة، والمكروه مثل كراهة السلام على المصلّي، ثمّ المباح كشرب الماء.
ومن هنا ينشأ السؤال التالي: هل المكروه والمباح يُعَدّانِ من أقسام القبيح أو من أقسام الحسن؟.
إذِ اختلف علماء الإماميّة في ذلك. [ينظر القواعد الكلاميّة للشيخ علي الربّانيّ الكلبايكانيّ ص33]، بل الخلاف فيه عند سائر علماء المسلمين. [ينظر غاية الوصول في شرح لبّ الأصول لزكريّا الأنصاريّ ص24 وما بعدها، والبحر المحيط للزركشيّ ج1 ص137].
وقد نتج من الخلاف المذكور قولان لهما مدخلٌ في الإجابة عن السؤال محلّ البحث، وهما:
القول الأوّل: أنّ مَن عرّفوا الحَسَنَ بـأنّه: (ما يستحقّ فاعله المدح)، قد جعلوا المباح قسماً مستقلّاً لا يوصف بالحُسن أو القبح ولا يستتبع مدحاً ولا ذمّاً، وأمّا المكروه فجعلوه من الأمور القبيحة، وهذا ما ذهب إليه ابن ميثم البحرانيّ. [ينظر: قواعد المرام ص104].
القول الثاني: وهو لِمَن عرّفوا الحَسَن بـأنّه: (ما لا يستحقّ فاعله الذم)، فإّنهم عَـدّوا المكروه والمباح من الأمور الحَسَنَة، وليس القبيح عندهم إلّا ما كان حراماً، وهذا ما عليه جماعة من العلماء منهم العلّامة الحلّيّ. [ينظر: كشف المراد ص418].
فإذا عرفت جميع ذلك فإنّ تفصيل الإجابة عن السؤال، يكون ببيان التالي:
أوّلاً: بناءً على ما ذهب إليه ابن ميثم البحرانيّ، تكون أفعال النبيّ (ص) دائرةً بين ما هو حَسَنٌ عقلا ، وبين ما هو مباحٌ لا يتّصف بالحُسن ولا بالقبح كما في مثال شرب الماء ، وليس في تلك الأفعال شيءٌ من القبيح على الإطلاق.
وأمّا لو بنينا على ما ذهب إليه الآخرون من علمائنا، فإنّ الأفعال الصادرة عنه (ص) تكون جميعها دالّةً على حسنها عقلاً، فليس فيها ما هو قبيح، ولا ما هو خالٍ من الحسن والقبح معاً.
ثانياً: يمكن الاستدلال على استحالة فعله (ص) للقبيح عن طريق ثبوت العصمة له (ص) ، لكن لا بالمعنى الذي ذهب إليه العامّة، من أنّها تكون في التبليغ فقط، بل بالمعنى الذي نعتقده نحن الشيعة، فإنّ العصمة عندنا: هي التنزّه عن الذنوبِ والمعاصي صغائرها وكبائرها ، وعن الخطأ والنسيان ، وعن كلّ قبيح ينافي المروءة والأخلاق ، كالتبذّل بين الناس ، وعن ارتكاب ما يُستهجن فعله عند العرف العقلائي العامّ ؛ كالأكل في الطرقات أو الضحك بصوتٍ عالٍ ، ومصاحبة السفهاء والبطّالين ونحو ذلك ، ولا فرق في وجوب العصمة بين أفعال الجوارح كما في الأمثلة المتقدّمة ، وبين أفعال القلوب ؛ كالبُخل أو الجُبن ونحوهما...
والخلاصة أنّ العصمة هي: (التنزّه عن كلّ قبيحٍ عقليٍّ أو شرعيٍّ أو عُرفي، سواء كان ذلك في الآداب والسلوكيات الظاهرية، أم في الأخلاق والخصائص النفسانيّة). [ينظر: عقائد الإماميّة للشيخ المظفّر ص45].
وقد دلّ الدليل العقليّ على هذه العصمة، وهو أنّه: لو جاز على النبيَّ (ص) أن يفعل المعصيةَ والقبيح، وصدر منه شيء من هذا القبيل - وحاشاه من ذلك - ، فإمّا أن يجب اتّباعه في ما فعله أو لا يجب، فإنْ وجب اتّباعه فقد جوّزنا فعل المعاصي والقبائح برخصة من الله تعالى، بل أوجبنا ذلك، وهذا باطل بضرورة الدّين والعقل، وإنْ لم يجب اتّباعه، فذلك ينافي الفائدة والغاية من النبوّة.
وبعبارة أخرى: إجماع المسلمين منعقدٌ على كون السنّة الشريفة مصدراً من مصادر التشريع بعد القرآن الكريم ، إذْ جعلها الشارع المقدّس حجّة بين العبد وربّه ، بأن تتنجّز من خلالها أوامر الشريعة ويحتجُّ الله تعالى بها على عباده يوم القيامة ، كما أنّ للعباد أن يعتذروا بها هناك فيما لو فعلوا أو تركوا شيئاً بالاعتماد عليها ، وقد ثبت في محلّه من علم الأصول ، أنّ المراد من السُّنّة عند الإماميّة قاطبة هو:قول المعصوم ، وفعله ، وتقريره. [ينظر أصول الفقه للشيخ المظفّر ج3 ص64]. وبالتالي: فلو أنّه (ص) فعل القبيح - وحاشاه من ذلك - ، ثمّ وجب علينا متابعته فيه؛ لكان ذلك ترخيصاً من الشارع لنا بارتكاب القبائح ، وهو ممّا يؤدّي إلى استشراء الفساد ، فيكون ذلك خلاف الحكمة من بعثة الأنبياء (عليهم السلام) ، فإنّ الغرض منها هو إرشاد العباد إلى صلاحهم ، وهدايتهم إلى ما فيه كمالهم - أي إلى فعل ما هو حَسَن من الأفعال، والحكيم لا ينقض غرضاً كهذا بتشريع ما ينافيه. وأمّا لو وجبت مخالفة النبيّ (ص) وعدم إطاعته واتّباعه في فعل القبيح فحينئذٍ لا معنى لجعله نبياًّ ، كما لا مجال للإيمان بنبوّته ؛ وذلك لعدم إمكان التفكيك - عقلاً وشرعاً - بين منصب النبوّة وبين وجوب الطاعة لصاحبها ، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...}[النساء:59] ، وقال أيضاً: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا}[النساء:80]، هذا فيما يتعلّق باستحالة فعله (ص) للقبيح.
ثالثاً: أمّا حكم العقل بحُسنِ أفعاله (ص) ، فيمكن الاستدلال له بأنّه : لو لم يكن فعله (ص) حسناً عقلاً ، لكان ذلك منافياً لجملة من آيات الذكر الحكيم ، منها مثلاً:
1- قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}[القلم:4] ، وتقريب الاستدلال أن يقال: إنّ استحقاق المدح المطلق المذكور في الآية ناشئٌ من كون أفعاله (ص) كلّها حسنة ؛ إذ لو لم تكن كذلك لكانت: إمّا قبيحة فتستوجب الذمّ ، وليس المدح ، وإمّا خاليةً من الحُسنِ والقبح معاً، فلا تستوجب شيئاً من الذمّ ولا المدح ، ولكنّ أفعاله (ص) ممدوحة في الآية الشريفة ، إذاً فهي حسنة ، وهو المطلوب.
2- ومنها قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآَخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}[الأحزاب:21] ، وكيفية الاستدلال كسابقه ، بأن يقال: لو لم تكن أفعاله (ص) حسنة ، لما دعانا الله تعالى إلى التأسّي به فيها بنحو مطلق ، ولكنّه دعانا إلى ذلك ، فهي إذاً حسنة وهو المطلوب.
أو فقل: لو لم تكن أفعاله (ص) حسنة ، لكان الله - تعالى ربّنا عن ذلك علوّا كبيراً - قد دعانا : إمّا إلى ما هو قبيح ، وذلك خلاف الحكمة وفيه نقض الغرض من البعثة ، أو يكون دعانا إلى ما هو مباح لا مصلحة لنا فيه ؛ لعدم كونه حسناً ولا قبيحاً حتّى يستتبع المدح أو الذمّ ، وهذا يُنافي ثبوت وجوب اللّطف عليه تعالى ، بل هو خلاف العدل..!. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق