حقيقة اللعن في سيرة النبي صلى الله عليه وآله وسلم
السؤال: يحتج الشيعة بحديث منسوب للرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو (لعن الله من تخلّف عن جيش أسامة ) والحديث منكر، أخرجه الجوهري في كتاب السقيفة. حيث لم يعهد عن النبي صلى الله عليه وسلم لعن حتى المنافقين المتخلفين عن الغزوات، والآيات واضحة في أنه كان يستغفر لهم، وكان يقبل أعذارهم حين يأتون معتذرين إليه.
الجواب:
لا شكَّ أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بُعث رحمة للعالمين، ووصفه الله عز وجل بقوله: ﴿فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم﴾ سورة آل عمران، 159.
ومع خُلقه العظيم، فإنّ هذا لم يمنع أن يلعن بعض من استحقّوا اللّعن، وليس هذا منقصة ولا عيباً والعياذ بالله، فاللّعن جاء على لسان الأنبياء قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو دعاء على الآخر بإبعاده عن رحمة الله وطرده، قال تعالى: ﴿لُعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى ابن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ﴾ سورة المائدة، 78.
والمعنى واضح، فداود وعيسى عليهما السلام لعنوا الكافرين من بني اسرائيل، فلو كان هذا اللعن شرّاً لَـما فعلاه ولما أقرّهما الله تعالى على فعله، ولا يجوز القول لماذا لم يستغفرا لهم أو يدعوا لهم بالهداية، فبعد قيام الحجّة عليهم والنصيحة لهم، حيث لم يبق لهم عذر، يُعدّ الاستغفار لهم سذاجة وخلافاً للحكمة.
فإذا جاز لنبيين عظيمين أن يلعنا مستحقّي اللّعن، فلماذا يستبعد السائل أن يلعن النبيّ محمّد (صلّى الله عليه وآله) مستحقّي اللّعن في زمانه؟ مع أن الله عز وجل قد أمره بالاقتداء بالأنبياء السابقين فقال: ﴿أُوْلَئك ٱلَّذِينَ هَدَى ٱللَّهُ ۖ فَبِهُدَىٰهُمُ ٱقْتَدِهْ ﴾ سورة الأنعام،90.
وأخرج أحمد بإسناده عن عبد الله قال قال رسول الله (ص) لما وقعت بنو إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا فجالسوهم في مجالسهم قال يزيد أحسبه قال وأسواقهم وواكلوهم وشاربوهم فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم. (مسند أحمد، ج 1 ص 391).
بمراجعة القرآن الكريم نرى بوضوح أنّ القرآن استعمل اللعن واشتقاقاته أكثر من 29 مرة.
إذْ ورد في القرآن (لعن الله): مرتين.
وورد كلمة: (لعنة) 11 مرة.
وجملة: (لعنهم الله): 5 مرات.
وعبارة: (لعنهم): مرتين.
وعبارة: (اللعنة): 3 مرات...
وإليك مثالاً من هذه الموارد، قال تعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ﴾ سورة البقرة، 159
وعرض آيات أخرى يشطُّ بنا عن موضوع السؤال، ولكن وجب الإشارة إلى ذلك حتّى يعي السائل أصل اللّعن ووروده في القرآن الكريم، فلماذا لم يستبدل الله اللعن بالاستغفار والدعوة للملعونين بالهداية ؟!
إنّ اللّعن لغة قرآنية استعملها الله عزّ وجلّ وأنبياؤه والمؤمنون، ولا شكَّ أن هذا اللّعن يكرّس البراءة من أفعال أهل الشرك والكفر والفسوق من بعد ما تبين لهم الحقّ.
ومن يراجع كتب الحديث يُلاحظ كثرة ورود لفظ اللّعن على لسان النبيّ (صلّى الله عليه وآله) خلافا لرؤية السائل، وهذا يدلُّ على جواز هذا الأمر، ومن أمثلة ذلك قوله صلّى الله عليه وآله وسلم:
ـ لعن الله اليهود اتّخذوا... (صحيح البخاري، ج1 ص 110).
ـ لعن الله اليهود حرمت... (ن. م. ج4 ص 145).
ـ لعن الله الواشمات... (ن.م. ج6 ص 58).
ـ لعن الله الواصلة... (ن.م. ج7 ص 62).
ـ لعن الله السّارق... (ن.م. ج8 ص 15).
ـ وهَاكَ جملة من الأحاديث والروايات التي تثبت ورود اللعن، فمنها:
. عن أنس عن النبيّ (ص) قال: المدينة حرم من كذا إلى كذا لا يقطع شجرها ولا يحدث فيها حدث من أحدث فيها حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (ن.م. ج 2 - ص 220).
وفي رواية: ومن تولّى قوما بغير إذن مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين. (ن.م. ج2 ص 221).
ـ لعن الله من لعن والده... (صحيح مسلم، ج6 ص 84).
ـ إنّ النبيَّ (ص) مرَّ عليه حمار قد وسم في وجهه فقال: لعن الله الذي وسمه. (ن.م. ج 6 ص 163)
ـ وعن عتبة بن عبد السلمي أنّ رجلاً قال يا رسول الله العن أهل اليمن فأنهم شديد بأسهم كثيرة عددهم حصينة حصونهم فقال رسول الله (ص): لا، ثم لعن رسول الله (ص) الأعجمين فارس والروم وقال رسول الله (ص) إذا مروا بكم يعني أهل اليمن يسوقون نساءهم ويحملون أبناءهم على عواتقهم فإنهم مني وأنا منهم. (الآحاد والمثاني للضحاك، ج 4 - ص 265).
ـ وعن سمرة قال كان النبي (ص) إذا لعن المشركين في الصلاة يبدأ بقريش ثم يتبعهم بعد ذلك قبائل كثيرة من العرب فقيل له مرة: اِلْعن كفّار قريش؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول إذا أراد أن يلعن قبيلة اللهم العن كفار قريش بني فلان. (المعجم الكبير، ج 7 ص 260).
ـ وعن النبي (ص) أنه قال: اللهم العن رجلا سماه!! واجعل قلبه قلب سوء واملأ جوفه رضف جهنم. (مسند الشاميين، ج 2 - ص 432).
ـ وعن ابن عمر: أنّ رسول الله (ص) لعن من اتخذ شيئا... (صحيح مسلم، ج6 ص 73).
ـ وفي حديث عند الحاكم وصححه: ... ثم قال أمرني ربى أن العن قريشا مرتين فلعنتهم وأمرني ان أُصلي عليهم فصليت عليهم مرتين مرتين ثم قال لعن الله تميم ابن مرة خمسا وبكر بن وائل سبعا ولعن الله قبيلتين من قبائل بنى تميم مقاعس وملادس... (المستدرك، ج 4 ص 81).
وقد كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله) يذكر أسماء بعض الظالمين في قنوته ويدعو عليهم، ولكن حُذفت هذه الأسماء!!
روى البخاري بإسناده إلى سالم عن أبيه أنه سمع رسول الله (ص) إذا رفع رأسه من الركوع من الركعة الأخيرة من الفجر يقول اللهم العن فلانا وفلانا وفلانا بعد ما يقول سمع الله لمن حمده. (صحيح البخاري، ج 5 - ص 35).
وقال ابن عمر دعا النبي (ص) في الصلاة اللهم العن فلانا وفلانا... (ن.م. ج 7 - ص 164).
لكنّ المدرسة الأموية افترت وجعلت لعن النبيّ (صلّى الله عليه وآله) زكاة للشخص الملعون، لكي تحفظ كرامة رجالها بعد أن أخفت أسماءهم في الروايات!
فالرسول (صلّى الله عليه وآله) يستغفر لمن يستحقّ الاستغفار، ويلعن من يستحق اللعن، وليس كما صوّره السائل في سؤاله.
أما قوله صلى الله عليه وآله وسلم: جهّزوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عنه. فقد ذكره الشهرستاني (ت458هـ) في الملل والنحل، ج1 ص 29.
ولا شكّ أن الشهرستاني نقله عن مصادر متقدمة عليه زماناً أو كان لديه سند له، غير أنه لم يشتهر ويروى في سائر الكتب، لأنّ فيه طعنا صريحا بالصحابة المتخلفين عن الجيش، وما كان الرواة ولا المحدثون ليجرؤوا على العناية بهذه الرواية ونشرها مع الطعن الصريح الذي تستبطنه للسلف.
وعلى كلّ حال: لو تغاضينا عن هذا الحديث الذي ذكره السائل، فمما لا شك فيه أنّ فعل الصحابة في التخلف هو معصية كبيرة لأمر النبي (ص)، وتخلفهم مشهور مسطور. راجع: صحيح البخاري، ج5 ص 95.
وقد كان الشيخان ضمن الصحابة في الجيش. قال الشيخ محمد أبو زهرة الأزهري: (وقد أجمع الرواة على أنه عليه الصلاة والسلام جعل في إمرته، الشيخين أبا بكر وعمر) سيرة خاتم النبييين، ج2 ص 1215.
ولسنا من دعاة اللّعن والسبِّ، وإنّما ينبغي تسمية الأمور بأسمائها وتصحيح بعض المفاهيم المغلوطة التي طرحها، وقد تم لنا ذلك والحمد لله رب العالمين.
اترك تعليق