هل الرسول معصوم فقط في تبليغ الوحي؟

السؤال: الرسول ليس معصوماً إلّا فيما يتعلق بتبليغ الرسالة وهي (القرآن فقط) وكلّ ما زاد على القرآن لا يعدُّ تشريعاً، فالرسول كبشر يحتاج إلى العصمة في تبليغ الوحي عن الله، وما دون ذلك فهو بشر كغيره يخطئ ويصيب.

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

تحدّثنا في أجوبة سابقة عن أدلّة حجّيّة السنّة النبويّة واستدلّينا على حجّيّتها بآيات القرآن الكريم، ولذا سنكتفي هنا بمناقشة الادّعاء الذي يقول بأنّ الرسول يحتاج إلى العصمة في تبليغ الوحي عن الله.

أوّلاً: العصمة درجة ومنزلة متى ما حازها الإنسان عصمته في كلّ شؤونه؛ فهي كمال إنسانيّ يتعلّق بشخص المعصوم وليست قضيّة تمنح له من الخارج في بعض الشؤون وتنزع منه في شؤون أخرى، فالإنسان في حال كونه معصوماً لا يصدر منه الخطأ في أيّ فعل من أفعاله.

صحيح أنّ العصمة لطف إلهيّ وتسديد منه تعالى لعبده، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّه معصوم على نحو الجبر ومن دون اختيار منه، وإنّما هي أشبه بمرتبة عالية من التقوى تحبس صحابها عن المعاصي، ومرتبة عالية من العلم تكشف له قبائح الذنوب، ومرتبة عالية من الإرادة تردعه عن الاقتراب من الآثام، واكتساب الإنسان لهذه اللّطف وبلوغه لهذه المرتبة مضافاً إلى أنّه توفيق من الله إلّا أنّه موقوف على استعدادات يوجدها الإنسان بإرادته.

ولو كانت العصمة أمر خارج عن إرادة الإنسان وكماله الذاتيّ؛ لجاز القول إنّ الفاسق والفاجر والمنحرف وصاحب كلّ صفة ذميمة يصلح لتبليغ الرسالة إذا تدخّل الله وعصمه في هذه المهمّة، فالقول إنّ الله يعصم الرسول من أجل تبليغ وحيه فقط ولا يعصمه في غير ذلك، أو أنّ شخص الرسول وكماله الذاتيّ لا قيمة ولا اعتبار له، قول مخالف لسنّة الله في اصطفاء خيار عباده للقيام بمهامّ الرسالة، فشخص الرسول بعد وصوله إلي درجة من الطهر والطهارة والعلم والذوبان في الله جعلته معصوماً في كلّ شؤونه، وحينها لا يمكن تقسيم هذه العصمة..

ثانياَ: إنّ تبليغ الوحي من الله ليس موقوف على العصمة إذْ يمكن أنْ يكتفي في التبليغ بالصدق وعدم الكذب، فالرسول الصادق في حديثه والأمين في نقل ما استحفظ به قادر على إيصال الوحي كما هو ولا يحتاج الأمر الي عصمة ولا يتوقّف عليها .. وعلى ذلك يكون ترتيب عصمة الرسول على تبليغ الوحي ليس كافياً مادام الدرجة الأدنى تكفي لذلك..

ثالثاً: لو سلّمنا بهذه المزاعم وكانت العصمة خاصّة في ما يُبلّغه الرسول من رسالة، فلماذا لم نجد في القرآن آية واحدة تحذرّنا من اتّباع الرسول أو تنبهنا بضرورة اجتنابه وعدم الأخذ بمطلق أقواله؟؛ بل وجدنا عكس ذلك تماماً، فالقرآن في جميع آياته يأمرنا بالاتّباع المطلق لرسوله دون قيد أو شرط، فإذا كان للرسول جانب شخصيّ ليس له علاقة بالرسالة؛ فلما لم تنبه الآيات من ذلك حتّى لا نقع في الخلط بين جانب الرسول الشخصيّ وجانبه الرساليّ؟، وعدم تفكيك آيات القرآن بين الجانبين، إمّا أن يكون بهدف إضلال الناس بعدم تحذيرهم من الجانب البشريّ للرسول، وإمّا أن يكون الرسول له جانب واحد وهو جانب الرسالة وكلّ ما يصدر عنه يكون معبّراً عن رسالة الله.

رابعاً: ربط عصمة الرسول بتبليغ الوحي فحسب يقود إلي إهمال إيّ دور للرسول غير تسلّم الوحي وتسليّمه، في حين أنّ القرآن نفسه كاشف عن أدوار أخرى للرسول غير التبليغ، يقول تعالى: (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِّنكُمْ يَتْلُو علَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُوا تَعلَمُونَ)، فإذا كانت تلاوة الآيات تعني تبليغ القرآن، فما بال المهامّ الأخرى مثل التزكية وتعليم الكتاب وتعليم الحِكمة.. فمن غيره يزكّي؟ ألَا يكون زاكياً في نفسه طاهر من كلّ دنس وعيب؟ وإذا كان دوره فقط تبليغ الكتاب فلِمَ قال تعالى يعلّمكم الكتاب؟ وتعليم الكتاب مهمّة إضافيّة تختلف عن مهمّة الإبلاغ .. ففي هذا الكتاب أحكام وحقائق نحتاج إلى الرسول ليعلّمنا إيّاها، وإذا كان غير معصوم في تعليمه للكتاب حينها لا يكون وقوعه ووقوعنا في الخطأ مأموناً إذْ يمكن أن يعلّمنا ما لم يريده الله منّا، وكذلك تعليمه لنا الحِكمة فإذا لم يكن معصوماً في تعليمه الحِكمة فقد يعلّمنا ما هو مخالف للحِكمة وهكذا .. فجعل العصمة ضروريّة في التبليغ دون غيرها من المهامّ ليس صحيحاً، فكما أنّ العصمة ضروريّة في إيصال (نصّ القرآن) حتّى لا يصل ناقصاً أو محرّفاً أو مشوّهاً، هي ضرورية أيضاً لبيان معاني القرآن المتعلّقة بتوجيهاته المعرفيّة والعقائديّة وبأوامره الأخلاقيّة والتربويّة والتشريعيّة، فثبوت العصمة للرسول يعنى بشكل واضح ومباشر أنّه عندما يخبرنا بكيفيّة الصلاة التي أرادها الله في القرآن أو كيفيّة الحجّ وغير ذلك يدلّ على أنّ كلّ ما أخبر به الرسول هو تشريع وجزء من رسالة الله لعباده.

خامساً: إذا كانت مهمّة الرسول منحصرة في تبليغ الوحي، وكان واجبنا اتّجاهه هو التصديق بالقرآن فقط، فكيف يمكن أن نفهم الكثير من الآيات مثل قوله تعالى: (رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلْتَ وَاتَّبَعنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَع الشَّاهِدِينَ)، إذْ تصبح كلمة واتّبعنا الرسول تحصيل للحاصل مادام تحقّق الإيمان بما أنزل الله وهو القرآن، فإذا كان اتّباع الرسول منحصراً في الإيمان بما أنزل عليه وهو القرآن فحينها تصبح الآية (ربّنا آمنا بما أنزلت وآمنا بما نزّلت فاكتبنا مع الشاهدين)!

وكذلك قوله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ)، فإذا كانت الاستجابة لله هي في الإيمان بما أنزل والعمل به، فكيف تكون الاستجابة للرسول؟ وإذا كانت الاستجابة للرسول هي تصديق ما أنزل اليه، فكيف تكون الاستجابة لله؟

وقوله تعالى: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ۚ وَمَن يُطِع اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا)، فإذا كانت حدود الله كلها في القرآن ولا توجد لله حدود خارج القرآن فلابد ان تكون الآية (تلك حدود الله ومن يطع الله يدخله جنات...) فما هي ضرورة طاعة الرسول في هذه الآيمادام الرسول ليس له حدود غير حدود القرآن؟

وقوله تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ)، فإذا كان مهمّة الرسول محصورة في تبليغ ما أنزل إليه كما زعموا، فما الداعي لذكر الرسول بعد أن قال: تعالوا إلى ما أنزل الله؟، وإذا فسّرنا الآية بحسب هذا الزعم تكون النتيجة (وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله والى ما أنزل الله )

وغير ذلك من الآيات، فيتّضح أنّ مهمّة الرسول ليست محصورة في تسلّم الوحي من الله وتسليمه للناس حتّى تكون العصمة ضروريّة لذلك، وإنّما مقام الرسول أكبر من ذلك وله وظائف ومهامّ أخرى كلّها تستدعي أن يكون معصوماً..

والحمد لله رب العالمين.