عدم سهو النبي (ص) لمحل القطع بعصمته المطلقة.
عبد الرحمن/الكويت/: إن النسيان والسهو والخطأ واقع من الأنبياء لأنهم بشر، والذي لا ينسى هو الله، وقد جاء القرآن مصرحاً بأن الأنبياء يقع منهم النسيان، فقال تعالى عن يوشع بن نون أنه قال لموسى (عليهما السلام): ((فإني نسيت الحوت)) (سورة الكهف: 73)، وقال تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ((واذكر ربك إذا نسيت)) (سورة الكهف : 24)، وقال له أيضاً: ((سنقرئك فلا تنسى)) (سورة الأعلى : 6)، وقال تعالى عن موسى (عليه السلام) وهو يخاطب الخضر: ((لا تؤاخذني بما نسيت)) (سورة الكهف : 73). وجاء في بحار الأنوار [ج25 ص350] حيث قيل للإمام الرضا وهو الإمام الثامن من الأئمة المعصومين عند الشيعة: (إن في الكوفة قوماً يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقع عليه السهو في صلاته، فقال: كذبوا لعنهم الله، إن الذي لا يسهو هو الله الذي لا إله إلا هو).
الأخ عبد الرحمن المحترم، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته:
من الأمور التي يجب معرفتها في البداية أن الظنّ - حتى لو كان معتبراً كأن يكون أخبار آحادٍ موثّقة وما شابه - لا يمكن أن يغلب القطع.
فإذا ثبت أمرٌ قطعيٌ - من نقلٍ أو عقلٍ - فلا يمكن التنازل عنه لصالح الظنّ حتى لو كان هذا الظنّ معتبراً.
فإذا عرفت هذا نأتي ونسأل هذا السؤال: هل الأنبياء معصومون؟!
الجواب: نعم إنّ الأنبياء (ص) معصومون، والدليل عليه واضحٌ جداً يمكن معرفته بأدنى تأمّل، فمن الثابت أن الله عزّ وجلّ أمر الناس بإطاعة الأنبياء (ص) فيما يأتون به إليهم، فهنا لو جوزنا على الأنبياء (ص) المعصية، والناس مأمورون بإطاعة الأنبياء (ص)، فماذا ستكون النتيجة؟!
ستكون النتيجة تجويز ارتكاب المعاصي شرعاً، وهذا محالٌ في الحكمة الإلهية، وعليه لا بدّ أن يكون النبي (ص) معصوماً.
تقول: الناس مأمورون بإطاعة الأنبياء (ص) فيما يأتون به من التبليغ فقط، أمّا بقية الأمور من كلماتهم وأفعالهم فلا يجب إطاعتهم فيها؟
نقول: وكيف يميّز الناس أن ما يأتيهم به الأنبياء (ص) هو وحيٌ أو غيره، مع ملاحظة أنّه يوجد عندنا - في حقّ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثلاً - وحيان: وحيٌ قرآني، ووحيٌ نبويٌ لبيان الأحكام، كما هو مقتضى قوله تعالى في سورة النحل: (...وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)(النحل:44)، وقد ورد في أثرٍ صحيح: (كَانَ جِبْرِيلُ يَنْزِلْ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ)(1).
فلو كان الموضوع يمكن حلّه في الوحي القرآني من خلال ملاحظة بلاغة القرآن الكريم وتميّزها عن كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فكيف نحلّها في الوحي النبوي؟!
هل ظهر جبرئيل (عليه السلام) للناس وأخبرهم أنّ ما يقوله لكم النبي محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) هو وحيٌ من الله وعليكم الأخذ به، مع أن صريح البيان القرآني لزوم إطاعة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المطلقة في كلّ ما يقوله ويأتي به.
يقول تعالى: (...وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ...) (الحشر: 7)؟!
فكيف يميز الناس في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين الوحي وغيره؟!
فلا مناص – إذن - من القول بعصمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، لعدم قدرة الناس على التمييز بين ما يقوله وحياً - سواءٌ كان وحياً قرآنياً أم نبوياً - أو هو أمرٌ خارجٌ عن ذلك.
ويدل على هذا الكلام جملة من الآيات القرآنية، نذكر منها:
قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ...) (النساء: 59).
وهنا الإطاعة للرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقة، والإطلاق يفهم منه الشمول لكل الحالات سواءٌ التبليغيّة وغيرها، ومن هنا قال الفخر الرازي في تفسيره عند بيان عصمة أولي الأمر الذي جاء في سياق الطاعة المطلقة الوارد في الآية الكريمة أيضاً:
(إن الله تعالى أمر بطاعة أولى الأمر على سبيل الجزم في هذه الآية، ومن أمر الله بطاعته على سبيل الجزم والقطع لا بدّ وأن يكون معصوماً عن الخطأ، إذ لو لم يكن معصوماً عن الخطأ كان بتقدير إقدامه على الخطأ يكون قد أمر الله بمتابعته، فيكون ذلك أمراً بفعل ذلك الخطأ، والخطأ لكونه خطأً منهياً عنه، فهذا يفضي إلى اجتماع الأمر والنهي في الفعل الواحد بالاعتبار الواحد، وإنّه محالٌ، فثبت أن الله تعالى أمر بطاعة أولي الأمر على سبيل الجزم، وثبت أن كل من أمر الله بطاعته على سبيل الجزم وجب أن يكون معصوماً عن الخطأ)(2).
وهذا بيانٌ صريحٌ من عالمٍ كبيرٍ من علماء أهل السنّة بأنّ الإطاعة المطلقة توجب العصمة.
وقال تعالى في سورة النجم (3، 4): (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)(النجم:3-4).
والآية الكريمة صريحة في إطلاقها من هذه الناحية أيضاً، وهي تثبت عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) في كلّ أقواله، التبليغيّة وغيرها، وهذا المعنى تدلّ عليه جملةٌ من الأحاديث الصحيحة والحسنة التي رواها أهل السنّة أنفسهم.
فقد روى أحمد في مسنده(3)، وأبو داوود في سننه(4)، والدارمي في سننه(5)، والحاكم في مستدركه صححه(6)، و وافقه عليه الذهبي، وابن كثير في تفسيره (7)، وابن حجر في الفتح: (كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- أريد حفظه فنهتني قريش، وقالوا: تكتب كل شيء سمعته من رسول الله – صلى الله عليه وسلم- ورسول الله بشر يتكلم في الغضب والرضا، فأمسكت عن الكتابة، فذكرت ذلك لرسول الله – صلى الله عليه وسلم- فأومأ بإصبعه إلى فيه، وقال: "اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج منه إلا حق).
وكلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) هنا - كما ترى - عامٌ ومطلق، يشمل لزوم الأخذ عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحالات كلها.
بل ورد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنّه حتّى في حالات الممازحة والمداعبة لا يقول إلا حقّاً، فقد قال له بعض أصحابه يوماً وكان يداعبهم: فإنّك تداعبنا يا رسول الله؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): (إنّي لا أقول إلا حقّاً).(8) .
قال المباركفوري في شرحه للحديث: ("إِنِّي لَا أَقُولُ إِلَّا حَقًّا" أَيْ عَدْلًا وَصِدْقًا لِعِصْمَتِي عَنِ الزَّلَلِ فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَلَا كُلُّ أَحَدٍ مِنْكُمْ قَادِرٌ عَلَى هَذَا الْحَصْرِ لِعَدَمِ الْعِصْمَةِ فِيكُمْ)(9).
نقول: وهكذا الحال في موضوع الخطأ والسهو والنسيان، لا يمكن أن يصدر من الأنبياء(ص)؛ لعدم قدرة الناس على التمييز فيما يأتيه بهم الأنبياء (ص) هل هو صدر منهم في حال الصحة أو في حال الخطأ، أو صدر في حال الانتباه أو حال الغفلة والسهو ؟!
فكيف نميّز بين هذه الحالات إذا جوَّزنا عليهم الخطأ والغفلة والنسيان؟!
لا طريق أمامنا إلا تمييزه من خلالهم هم فقط، فهم الذين يصرحون لنا بأننا أخطأنا هنا في هذا المورد والصحيح هو كذا، وأننا سهونا في هذا المورد والصحيح هو كذا.
ولكن هذا لازمه عدم القطع بما يقولون؛ لاحتمال أنّ ما ذكروه لنا هو أيضاً خطأٌ وسهو، وهذا الاحتمال واردٌ تماماً لفرض عدم القطع بعصمتهم عن الخطأ والسهو، فكيف نحلّ هذه المعضلة ونطمئن إلى كلام الأنبياء (ص) جزماً من دون أي احتمالٍ يخالفه؟!
لا يوجد أمامنا سوى القطع بعصمتهم من كلّ ذلك، وبه يثبت المطلوب.
ومن خلال ما تقدّم من الدليل العقليّ القاطع، والقرآنيّ المطلق، والنبويّ المطلق، ثبتت العصمة للأنبياء (ص) بشكلٍ قاطعٍ في كلّ الأمور، التبليغيّة وغيرها، ولا يمكن القول بعصمتهم في التبليغ فقط دون غيره لمحل الإشكال المتقدم.
تقول: فماذا نعمل بهذه الآيات التي قد يفهم منها نسيان الأنبياء (ص) وسهوهم، كقوله تعالى:
(...فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ...) (سورة الكهف: 63)، وقوله تعالى للنبي (صلّى الله عليه وآله وسلم): (...وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ...) (سورة الكهف: 24)، وقوله تعالى عن موسى (عليه السلام) وهو يخاطب الخضر: (لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ) (سورة الكهف: 73)؟!
الجواب: يوجد للنسيان معنيان: عدم الحفظ، والترك، وهو ما سيوضحه لنا المفسّر الكبير ابن جرير الطبري، فقد قال عند تفسيره لقوله تعالى: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) (طـه: 115) (إن "النسيان" على وجهين: أحدهما على وجه التضييع من العبد والتفريط، والآخر على وجه عجز الناسي عن حفظ ما استحفظ ووكل به، وضعف عقله عن احتماله.
فأما الذي يكون من العبد على وجه التضييع منه والتفريط، فهو ترك منه لما أمر بفعله. فذلك الذي يرغب العبد إلى الله عز وجل في تركه مؤاخذته به، وهو "النسيان" الذي عاقب الله عز وجل به آدم صلوات الله عليه فأخرجه من الجنة، فقال في ذلك: (وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا) [سورة طه: 115]، وهو "النسيان" الذي قال جل ثناؤه: (فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا) [سورة الأعراف: 51])(10)، وبهذا المعنى من تفسير النسيان بالترك فسّر الآية الكريمة القرطبي والجلالين (السيوطي والمحلي) وغيرهم.
وكذلك تُحمَل بقية الآيات الكريمة التي ورد فيها نسبة النسيان للأنبياء (ص)، مثل قوله تعالى: (نسيت الحوت)، أي تركته وفقدته (11).
ومثل قوله تعالى: (لا تؤاخذني بما نسيت)، أي بما تركت(12).
ومثل قوله تعالى: (سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى)(الأعلى:6)، فقد حمله جمع من المفسّرين والشرّاح على إرادة النسخ لا النسيان الحقيقي، كما ينقله ابن حجر عن الإسماعيلي: (أَنْ يَرْفَعهُ الله عَنْ قَلْبه عَلَى إِرَادَة نَسْخِ تِلَاوَته، وَهُوَ الْمُشَار إِلَيْهِ بِالإسْتِثْنَاءِ فِي قَوْله تَعَالَى: "سَنُقْرِئُك فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّه")(13)، وهكذا بقية الموارد.
وأما ما ذكرتموه من رواية البحار من مرويّاتنا، فالطائفة الإمامية قد أَجْمَعَت على عصمة الأنبياء (ص) بشكلٍ مطْلق في التبليغ وغيره، وهذا ما تُصرّح به كتب الأوَلِين والآخِرين منهم، ومعه تُحْمَل كل رواية تخالف هذا الاعتقاد المُجْمَع عليه عندهم - حتى لو كانت صحيحة فهي تبقى من أخبار الآحاد - على محامل أخرى كالتقيّة، أو يُضْرَب بها عرض الجدار لمخالفتها للمقطوع عندهم، كما أوضحنا ذلك في القاعدة التي بدأنا بها جوابنا على هذا السؤال.
ودمتم سالمين.
______________________
(1)- فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، طبعة دار المعرفة، ج13، ص291.
(2)- تفسير مفاتيح الغيب للفخر الرازي، طبعة دار إحياء التراث العربي،ج10، ص113.
(3)- مسند أحمد لأحمد بن حنبل، طبعة مؤسسة الرسالة، ج11، ص406.
(4)- سنن أبي داوود، طبعة المكتبة العصرية،ج3، ص318.
(5)- سنن الدارمي لعبد الله الدارمي، طبعة دار المغني، ج1، ص 429.
(6)- المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري، طبعة دار الكتب العلمية،ج1، ص187.
(7)- تفسير القرآن العظيم لابن كثير، طبعة دار الكتب العلمية، ج7، ص411.
(8)- (سنن الترمذي، طبعة دار الغرب الإسلامي، ج3، ص425 وحسّنه)،(مجمع الزوائد ومنبع الفوائد للهيثمي، طبعة مكتبة القدسي، ج9، ص17، قال: رواه الطبراني في الأوسط وإسناده حسن).
(الأدب المفرد بالتعليقات لمحمد البخاري، طبعة مكتبة المعارف، ص140)
(9)- تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي للمباركفوري، طبعة دار الكتب العلمية، ج6، ص 108.
(10)- جامع البيان في تأويل القرآن لأبو جعفر الطبري، طبعة مؤسسة الرسالة، ج6، ص133.
(11)- (انظر الكشف والبيان عن تفسير القرآن للثعلبي، طبعة دار إحياء التراث العربي، ج6، ص182) (معالم التنزيل في تفسير القرآن للبغوي، طبعة دار إحياء التراث العربي، ج3، ص204).
(12)- (مدارك التنزيل وحقائق التأويل المشهور بتفسير النسفي، طبعة دار الكلم الطيب، ج2، ص312) (أنوار التنزيل وأسرار التأويل المشهور بتفسير البيضاوي، طبعة دار إحياء التراث العربي، ج3، ص288)
(13)- (فتح الباري شرح صحيح البخاري لابن حجر، طبعة دار المعرفة، ج9، ص86).
اترك تعليق