هل هناك تعارض بين الانتماء الدينيّ والانتماء الوطنيّ؟

السؤال: هل هناك تعارض بين الانتماء للوطن والانتماء للدين، وكيف يمكن أن نوازن بينهما، وما هو المسار التاريخيّ الذي حصل فيه هذا التباين؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الإجابة:

التنافر بين الانتماء الدينيّ والانتماء القوميّ لم يظهر كإشكالية إلّا بعد تشكّل الأنظمة السياسيّة الحديثة، وقد تبلور هذا الإشكال بشكل أكثر وضوحاً بعد تفتّت الدولة الإسلاميّة الواحدة وتكوّنت دويلات قطريّة، فالدولة في المفهوم الإسلاميّ بحسب المسار التاريخيّ منحصرة في الخلافة الإسلاميّة التي تشمل معظم الأقطار الإسلاميّة الحالية، ولم يكن هناك تباين واضح بين الحالة الوطنيّة والحالة الدينيّة، وبعد سقوط الخلافة الإسلاميّة سنة 1924م، ودخول الاستعمار وتقاسم الدول الإسلاميّة، ظهرت دويلات مختلفة لكلّ واحدة منها هويّة وطنيّة خاصّة، وقد شجّعت النزعة القوميّة التركيّة بزعامة أتاتورك القوميّات الأخرى كالقومية العربيّة، فنشطت تيّارات سياسيّة تعمل على تكوين إطار عربيّ يشمل جميع الدول العربيّة مثل الأحزاب البعثيّة والناصريّة، وقد حاولت هذه التيّارات تشكيل ولاءات عربيّة بعيداً عن الولاء للدين والإسلام، وبعد نكسة 67 أنهار هذا المشروع وأصبح لكلّ دولة هويّتها وإطارها الخاصّ بها، وأصبح للوطنيّة مفهومها السياسيّ الذي يجعل العراقيّ هو من ينتمي للعراق كوطن، والمصريّ هو من ينتمي لمصر.. وهكذا بقيّة الأقطار العربيّة، ومع ظهور تيار الإسلام السياسيّ الذي يجعل الولاء للإسلام مقدّم على الولاء للوطن، ظهر التباين بقوّة بين الانتماء للوطن والانتماء للإسلام.

ومن أبرز الآراء القديمة في هذا الشأن هو أنّ الإسلام لا يتعارض مع الوطنيّة، إذْ شجّع الإسلام على حبّ الأوطان وجعل حبّها من الإيمان، إلّا أنّ هذا الرأي قد لا يصمد أمام التوجّهات السياسيّة للدول الحديثة، وفي الغالب يجد المسلم أنّه مطالب بأن يختار بين مخالفة السياسات الوطنيّة لبلده، والانتماء لولاءات خارج الحدود لها علاقة بالهمّ المشترك للمسلمين، وبين مقاطعة الهمّ العامّ لمجموع الأمّة الإسلاميّة والاكتفاء بالولاء لسياسات وطنه الخاصّ، والذي يعزّز هذا التباين هو ما تنادي به التيارات العلمانيّة والليبراليّة بضرورة إبعاد الدين عن أيّ شأن سياسيّ، فمعها يصبح أي عمل سياسيّ إسلاميّ يتعارض مع الانتماء الوطنيّ بالضرورة، وتصبح مقولة الدين لله والوطن للجميع هي المقولة التي تحكم معادلة الانتماء للمسلم.

والذي يبدو أنّ هذا الإشكال يصبح أكثر وضوحاً عند من يفهم الإسلام بوصفه مشروعاً له رؤية سياسيّة وحضاريّة، وأمّا من يفهم الإسلام في حدود الطقوس والشعائر، قد لا يشعر بإشكاليّة الانتماء مادام الإسلام في فهمه لا يفرض عليه أيّ ولاءات سياسيّة.

وممّا لا يخفى أنّ التركيبة السياسيّة والقوميّة في عالمنا العربيّ والإسلاميّ معقّدة لأبعد الحدود، كما أنّ التجربة الإسلاميّة لبعض الحركات الإسلاميّة المتطرّفة والإقصائيّة تجربة مريرة، وهو ممّا جعل الخيارات السياسيّة العلمانيّة هي الخيارات الأكثر شيوعاً في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، ونحن هنا لا نشرّع للخيار العلمانيّ الذي يستبعد الدين، وإنّما نحاول الإشارة إلى العجز الذي يعانيه وعينا الدينيّ الذي أفرز مثل هذه الحركات المتطرّفة والإقصائيّة، وفي نفس الوقت لم يتمكّن من تقديم رؤية حضاريّة لمشروع الحكم في الإسلام في بعده السياسيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ.

فمضافاً إلى إشكاليّات الخطاب الإسلاميّ، هناك إشكالات حقيقيّة تتعلّق بالنظم السياسيّة التي تحكم العالم الإسلاميّ والعربيّ، والذي يبدو أنّ الشعور بالتباين بين الانتماء للأوطان والانتماء للإسلام يعود إلى التعارض الواضح بين قيم الإسلام وعدالته، وبين سياسات الأنظمة وما تمارسه من ظلم وافقار لشعوبها، فمن الصعب معالجة هذه المشكلة ثقافيّاً وفكريّاً بعيداً عن الواقع السياسيّ الذي يحكم العالم الإسلاميّ، فالموازنة يمكن أن تكون ممكنة عندما تصبح الدول أكثر عدالة وتكون الحقوق متساوية أمام الجميع، فحينها لا يشعر المسلم بالغربة حتّى يبحث عن ولاءات خارج حدود بلده، ومن هنا يمكن القول إنّ إشكاليّة القوميّة والدينيّة تعود إلى وجود خلل في الفهم المتحضّر للإسلام وخلل في الأنظمة التي تحكم بالفعل في العالم العربيّ والإسلاميّ.