هل الدين سبب شقاء الإنسانية؟
السؤال: يقول خزعل الماجديّ: "الدين سبب شقاء الإنسانيّة" وذلك لأنّ الأديان الشموليّة، بالذات، سبّبت هذا الشقاء الإنسانيّ عندما حصرت البشر في خنادق عقائديّة ورمت نارها على الخنادق التي خارج أرضها. العصر الوسيط الذي ظهرت فيه الأديان والحضارات الوسيطة، ردة في التحضّر البشريّ، ولهذا نسمّيها (العصور المظلمة)، ونحن اليوم نحاول إصلاح آثار هذه الردّة. بكلمات أدقّ وأوضح، فإنّ التاريخ الوسيط كان جحيماً وخراباً للإنسان ولا بدّ من إعادة النظر وفهم ما جرى من خلال مبدأ العنف، وسنكتشف أنّ العقل البشريّ اختلّ في هذه المرحلة من التاريخ ومارس جنونه الفوضويّ العنيف، ولا بدّ من توقّفه الآن. ولا أقصد بهذا إلغاء الأديان مطلقاً، فالدين ضرورة للبشر، بل يعني النظر فيها من جديد ونقدها بشكل صريح ودون مواربة أو مجاملة ونزع الأشواك منها، أشواك الكراهيّة والتعصّب على وجه التحديد".
الجواب:
تعرضنا في إجابة سابقة لإشكال مشابه ينسب الشقاء والحروب التي تعاني منها البشريّة إلى الدين، وقد نشر ذلك في موقعنا تحت عنوان (هل الدين هو المتسبب في الشرور والحروب)، ولاحظنا في تلك الإجابة ادّعاءات الملحدين الجدد وعلى رأسهم دوكنز، ولذا كان من الضروريّ كتابة إجابة أخرى تتناسب مع ما يطرحه الدكتور خزعل الماجديّ، إذِ الفكرة القائلة بأنّ الأديان كانت السبب الرئيس لشقاء الإنسانيّة تحتاج إلى التفكيك والتحليل، فعلى مرّ العصور لم يكن الدين وحده هو الفاعل في تشكيل السلوكيّات الإنسانيّة، فهناك عشرات العوامل التي تتحكّم في خيارات البشر على مستوى الفعل السلوكيّ والحضاريّ، وإذا نظرنا للعوامل التاريخيّة والسياسيّة والطموحات الاقتصاديّة والنزاعات الجغرافيّة نجدها هي الوقود الأساس للصراعات، في حين أنّ الدين بحدّ ذاته هو مجموعة من القيم والمبادئ التي تنادي بالسلام والتراحم والعدالة، وقد أسهمت الديانات السماويّة في ترسيخ القيم الأخلاقيّة والعدالة الاجتماعيّة، ولا يمكن إنكار دورها في تكوين الحضارات الكبرى، فعلى سبيل المثال، الحضارة الإسلاميّة التي أضاءت العصور الوسطى في مجالات العلم والفكر والثقافة، أسهمت في بناء معرفة إنسانيّة متقدّمة حين كانت أوروبا تغرق في جهلها آنذاك.
وعليه: فما يُسمّى بالعصور المظلمة فإنّها تسميات تحتاج إلى مراجعة وتنبّه، وذلك لأنّ هذا الوصف نفسه هو نتاج رؤية أوروبيّة غربيّة، كانت تعيش في تخبّط تاريخيّ وسياسيّ في تلك الفترة، في حين كان العالم الإسلامّي في أوج إشراقه العلميّ والفكريّ. تلك الفترة التي أُنتجت فيها أهمّ المخطوطات العلميّة والفكريّة والفلسفيّة التي أصبحت فيما بعد الأساس الذي بنى عليه الغرب نهضته، وبالتالي تعميم تجربة القرون الوسطى التي عاشها الغرب على جميع التجارب الإنسانيّة تعميم يفتقد إلى الكثير من الموضوعيّة.
وأمّا القول: بأنّ العنف والشقاء كانا ناتجين عن الدين، فهو قولٌ مخلّ ومحرّف للحقائق التاريخيّة، فالتاريخ مليء بأمثلة لا تعد ولا تحصى على أنّ الأهداف السياسيّة والطموحات السلطويّة هي المتسبّب في كلّ العنف الذي شهدته البشريّة، وحتّى لو كان للدين حضور في بعضها، إلّا أنّ ذلك الحضور كان مجرّد توظيف لخدمة أغراض سياسيّة وسلطويّة، وهذا التوظيف للدين، لا يعني بالضرورة أنّ الدين هو المحرّك الأساس للعنف، بل إنّ الفاعلين السياسيّين والقيادات الدينيّة المُسيّسة هم الذين استغلّوا الدين لتحقيق مكاسبهم الخاصّة، وفي مقابل ذلك هناك أمثلة عديدة على حركات ومبادرات دينيّة عُرفت بإشاعة السلام والعدل والمحبّة؛ بل إنّها كانت ترفض العنف جملة وتفصيلاً، كما هو الحال في فلسفة السلام في المسيحيّة والإسلام وحتّى في الهندوسيّة والبوذيّة.
ومن هنا، فنحن بحاجة إلى نقد بنّاء وليس إلى إلغاء، وذلك لأنّ فكرة نقد الدين وإزالة أشواك التعصّب والكراهيّة هي نقطة يمكن الاتّفاق معها إذا ما تمّ النظر إليها من زاوية النقد البنّاء، فالنقد الجادّ والمستمرّ لكلّ المؤسّسات والمعتقدات، وكذلك الأديان، هو أمر ضروريّ وصحيّ لتطوير المجتمعات. ولكن، يجب أن يتمّ هذا النقد في إطار يهدف إلى التجديد والإصلاح وليس الهدم والإلغاء، فالدين ليس مجموعة من الأحجار الثابتة، بل هو نهر متجدّد من القيم والمبادئ التي يمكن إعادة قراءتها وفهمها بما يتناسب مع العصر ومتطلباته.
فعبر التاريخ، نجد الدين لعب دوراً مهمّاً في دفع الإنسان نحو الرقيّ الروحيّ والمعرفيّ، بل إنّه كان ولا يزال محرّكاً أساسيّاً للبحث عن المعنى والقيم الإنسانيّة العليا، فالحضارات الكبرى لم تكن لتقوم دون وجود أسس روحيّة وقيميّة تدعمها، فعلى سبيل المثال الحضارة الإسلاميّة التي كانت مثالاً للتسامح الدينيّ والفكريّ في بعض أجزائها، أثبتت أنّ الدين يمكن أن يكون قوّة ناعمة تدفع الإنسان نحو الإبداع والتفوّق العلميّ، فمفهوم "العدل" و"الرحمة" الذي ركّز عليه الإسلام والمسيحيّة واليهوديّة في نصوصها الأساسيّة يعكس جانباً أصيلاً من الرسالة الدينيّة التي جاءت لخدمة الإنسانيّة.
والفصل بين العقل والدين أو الروح والجسد ليس الحلّ؛ بل الحلّ يكمن في توازنهما وتكاملهما، وهذا ما سعى إليه فلاسفة الإسلام ومفكّريه، فاستخدام العقل للفهم لا يتنافى مع الدين، والاهتمام بالروح لا يتنافى مع الجسد، وحصول هذا التوازن هو الذي يضمن تحصين المجتمعات من السقوط في الفوضى، وهذا ما غفل عنه دعاة العلمانيّة الذين تصوّروا نوعاً من التعارض بين الدين وبين الاهتمام بالدنيا. وقد تناولنا ذلك في مواضيع سابقة كثيرة.
وفي المحصلة، الدين لم يكن سبباً للشقاء في ذاته، وإنّما استُخدم في كثير من الأحيان كغطاء لأفعال عنيفة وجشعة كانت جذورها في الطموحات السياسيّة والاقتصاديّة، والبشريّة تحتاج إلى تربية روحيّة ونفسيّة تكبح جماح المطامع والأنانيّات، والدين هو الخيار الوحيد الذي يساعد في ذلك، ولا يمنع ذلك من القيام بالنقد البنّاء للخطاب الدينيّ، ومحاولة تطويره وتوجيهه في اتّجاه إشاعة العدل والمحبّة، وليس استخدامه كذريعة لنشر التعصّب والعنف. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق