هل الغاية من الدين هي تسكين الجراحات؟

سؤال: ريتشارد دوكنز يقول بأنّ الغاية الأساسيّة من الدين هي تضميد جراح المكلومين وتسكين آلامهم، والقول بأنّ تعويض الخسارة إذا لم تعوض بالدنيا فسيكون بالآخرة، ويسمّيه إطفاء الجراح بالوهم، ويقول إنّ كون الشيء مريحاً لا يعني أنّه حقيقة!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

لم نقف على هذه المقولة المنسوبة لريتشارد دوكنز حتّى نتعرّف على خلفيّاتها وسياقاتها التي ذكرت فيها، ولذا سيكون الردّ على المقولة بعيداً عن قائلها، بوصفها مقولة يمكن لأيّ ملحد أن يتبنّاها.

أوّلاً: الدين لم يكن مجرّد ظاهرة عابرة في التاريخ الإنسانيّ، كما أنّه لم يكن حالة وقتيّة رافقت الإنسان في لحظات العسر والشدّة، بل هو أكثر الحقائق حضوراً في تاريخ الإنسان وحاضره. وعليه، فمن الإجحاف وعدم الموضوعيّة تفسير الدين - الذي بدأ ببداية الإنسان على الأرض، ومازال يزداد حضوراً وتوسّعاً وتجذّراً - بكونه مجرّد وهم لتسكين الجراح. ولذا لا يمكن لأيّ باحث موضوعيّ يترفّع عن تحيّزاته الأيدلوجيّة أن يتبنّى هذا الرأي لتفسير نشوء الأديان.

ثانياً: الوهم النفسيّ وإنْ كان له وجود في الحياة الإنسانيّة إلّا أّنه سرعان ما يتسرّب ويضمحل أمام العقل وأسئلته المحرجة، ولذا لا يربط العقلاء حياتهم ومصيرهم بمجرّد وهم لا تدعمه أيّ حقائق علميّة أو عقليّة، والحالات النفسيّة - كما هو مؤكّد - ليس لها ثبات يمكن الارتكاز عليه، فهي دائماً في حالة من الاضطراب والتبدّل المستمرّ بحسب الظروف الخارجيّة. وعليه، كيف لعاقل أن يفسّر وجود الأديان واستمرارها على أساس حالة نفسيّة تفتقر لأبسط عوامل الثبات والاستقرار؟

ثالثاً: الأديان ترتكز على مبرّرات فطريّة وعقليّة لا يمكن إهمالها وتجاهلها، فاضطرار الإنسان إلى معرفة مَن أوجده من جهة، وحاجته إلى الكمال من جهة أخرى، وتطلّعه إلى مصير الحياة ومستقبلها المجهول من جهة ثالثة، يحتمّ عليه التطلّع إلى الغيب والبحث خارج حدود المادة، وهذا النوع من الوعي المتسامي عن المادة والمترفّع عن الحسّ، يمثّل جانب الإشراق في الإنسان.

يقول بارتيلمي سانت هيلير: (هذا اللغز العظيم الذي يستحدث عقولنا: ما العالم؟ ما الإنسان؟ من أين جاء؟ مَن صنعهما؟ مَن يدبّرهما؟ ما هدفهما؟ كيف بدءا؟ كيف ينتهيان؟ ما الحياة؟ ما الموت؟ ما القانون الذي يجب يقود عقولنا في أثناء عبورنا في هذه الدنيا؟ أيّ مستقبل ينتظرنا بعد هذه الحياة؟ هل يوجد شيء بعد هذه الحياة العابرة؟ وما علاقتنا بهذا الخلود؟ هذه الأسئلة لا توجد أمّة، ولا شعب، ولا مجتمع، إلّا وضع لها حلولاً جيّدة أو رديئة، مقبولة أو سخيفة، ثابتة أو متحولة) [بحوث ممهّدة لدراسة تاريخ الأديان للدكتور عبد الله دراز ص٨٣].

ويقول شاشاوان: (مهما يكن تقدّمنا العجيب في العصر الحاضر... علمياً، وصناعياً، واقتصادياً، واجتماعياً، ومهما يكن اندفاعنا في هذه الحركة العظيمة للحياة العمليّة، وللجهاد والتنافس في سبيل معيشتنا ومعيشة ذوينا، فإنّ عقلنا في أوقات السكون والهدوء - عظاماً كنّا أو متواضعين، خياراً كنّا أو أشراراً - يعود إلى التأمّل في هذه المسائل الأزليّة: لم وكيف كان وجودنا ووجود هذا العالم؟ وإلى التفكير في العلل الأولى أو الثانية، وفي حقوقنا وواجباتنا؟) [المصدر السابق].

وبذلك يتّضح أنّ نشوء الأديان له علاقة بواقع تلك الأسئلة الوجوديّة المتأصّلة في كلّ إنسان، فلو لم يكن التديّن حالة أصيلة وضرورة فطريّة لَمَا وجدنا هناك ديناً في المجتمعات الإنسانيّة، وهذا ما يؤكّده معجم (لاروس) للقرن العشرين الذي جاء فيه: (إنّ الغريزة الدينيّة مشتركة بين كلّ الأجناس البشريّة، حتّى أشدّها همجيّة، وأقربها إلى الحياة الحيوانيّة.. وإنّ الاهتمام بالمعنى الإلهيّ وبما فوق الطبيعة هو إحدى النزعات العالميّة الخالدة للإنسانيّة). ويقول: (إنّ هذه الغريزة الدينيّة لا تختفي، بل لا تضعف ولا تذبل، إلّا في فترات الإسراف في الحضارة وعند عدد قليل جداً من الأفراد).

وهذا خلاف الإلحاد الذي يعدّ مساراً معاكساً لتاريخ الإنسان وفطرته المتديّنة، ومن هنا لم يجد الإلحاد طريقاً لتبرير موقفه إلّا بتقديم تفسيرات مشوّهة لنشوء الأديان.

رابعاً: كون الدين يضمّد جراحات المكلومين، ويسكّن آلامهم يعدّ أمراً إيجابيّاً، يحسب للأديان وليس عليها، وفي ذلك اعتراف من الإلحاد بأنّ الدين له قدرة على جعل الحياة أكثر هدواً واطمئناناً، ونحن هنا نؤكّد معهم على هذه النتيجة، ونختلف معهم في التفسير الذي قدّموه، فالوهم النفسيّ لا يمكن أن يحقّق هذه الحالة من الاطمئنان والاستقرار، وإنّما التفسير المقنع الذي يقدمه الدين لفلسفة الحياة هو الذي يحقّق هذه الحالة للإنسان.