ما هوَ موقفُ الإسلامِ مِن نشأةِ الدّينِ في النّظريّةِ الطبيعيّة؟
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
الإسلامُ بوصفِه ديناً منَ اللهِ سُبحانَه وتعالى للعبادِ لابدَّ أن يتعارضَ معَ كلِّ تفسيرٍ للدّينِ لا يقومُ على الإعترافِ برسالاتِ اللهِ، وعليهِ يكفي في كشفِ التّعارضِ بينَهما أن نُثبتَ أنَّ الإسلامَ دينٌ سماويٌّ والتّفسيراتُ الأخرى تجعلُ الدّينَ مُنتجاً أرضيّاً، ولكي تكتملَ الصّورةُ عندَ السّائلِ لابدَّ منَ الإشارةِ ولو بشكلٍ مُختصرٍ لنظريّاتِ النّشأةِ الطّبيعيّةِ للأديان.
أكثرُ النّظريّاتِ التي فسّرَت الظاهرةَ الدّينيّةَ تفسيراً طبيعيّاً إعتمدَت في دراساتِها على المُجتمعاتِ البدائيّةِ والأشكالِ الأوليّةِ للتّديّنِ، ومِن ثمَّ أسقطَت نتائجَها على كلِّ الأديانِ بما فيها الأديانُ الإلهيّةُ، ومنَ الواضحِ أنَّ هناكَ خطأً منهجيّاً في مثلِ هذهِ الدّراساتِ، فوجودُ أديانٍ تشكّلَت نتيجةَ عواملَ طبيعيّةٍ لا يعني أنَّ طبيعةَ الأديانِ بالمُطلقِ طبيعةٌ أرضيّةٌ، بل قد يقودُنا شغفُ الإنسانِ وميله الفطريّ للتّديّنِ للقولِ أنَّ هناكَ حقيقةً دينيّةً يجبُ أن يدينَ بها الإنسانُ، وإنَّ خطأ الإنسانِ في تحديدِ مصداقِها الفعليّ يتطلّبُ بعثَ الأنبياءِ والرّسلِ ليوجّهوا الإنسانَ لِما يُمثّلُ الحقيقةَ الدّينيّةَ، فالأديانُ كحالةٍ متأصّلةٍ في التّاريخِ الإنسانيّ وما زالَت حاضرةً في كلِّ المجتمعاتِ الإنسانيّةِ تؤكّدُ الحاجةَ المُلحّةَ للأنبياءِ والرّسلِ، وعليهِ فإنَّ بحوثَ الأنثروبولوجيا يمكنُها أن تُثبتَ الميلَ المُتأصّلَ في الإنسانِ نحوَ التّديّنِ مِن خلالِ وجودِ الأديانِ في التّاريخِ الإنسانيّ، ولكنّها لا يمكنُ أن تُفسّرَ ذلكَ مِن خلالِ رصدِ الظّروفِ والعواملِ الطّبيعيّةِ؛ وذلكَ لوجودِ مسافةٍ فاصلةٍ بينَ وجودِ ميلٍ فطريٍّ نحوَ التّديّنِ وبينَ أشكالِ التّديّنِ التي تُمليها الظّروفُ الطّبيعيّةُ، فالأوّلُ أصيلٌ والثاني رهينُ الظّروفِ، وتفسيرُ الأوّلِ بالثّاني يُعدُّ تفسيراً مُشوّهاً يقومُ على قلبِ الحقائقِ، وعليهِ فإنَّ التّسلسلَ المنطقيَّ في التّفكيرِ بعدَ الإعترافِ بالتّديّنِ المُتأصّلِ في الإنسانِ يقودُنا إلى وجودِ دينٍ يُمثّلُ التّعبيرَ الأصدقَ لِما يسعى إليهِ الإنسانُ بفطرتِه، وعجزُ الإنسانِ في الوصولِ بنفسِه لذلكَ الدّينِ يقودُ حتماً إلى ضرورةِ النّبوّةِ والرّسالةِ، فإضطرارُ الإنسانِ إلى الخالقِ مِن جهةٍ، وحاجتُه إلى الكمالِ مِن جهةٍ أخرى، وتطلّعُه إلى مصيرِ الحياةِ ومستقبلِها المجهولِ مِن جهةٍ ثالثةٍ، يُحتّمُ عليهِ التّطلّعَ إلى الغيبِ والبحثَ خارجَ حدودِ المادّةِ، وهذا النّوعُ منَ الوعي المُتسامي عنِ المادّةِ والمُترفّعِ عنِ الحسِّ، يُمثّلُ جانبَ الإشراقِ في الإنسانِ، فإهمالُ الإنسانِ لعالمِ الحِسِّ - في ما يتعلّقُ بسرِّ الوجودِ وفلسفةِ الخِلقةِ - والبحثُ عمّا وراءَ المادّةِ لهوَ دليلُ علمٍ وتعقّلٍ لا دليل جهلٍ وعجزٍ، فحبسُ العقلِ في حدودِ الحِسِّ جريمةٌ في حقِّ العقلِ وفي حقِّ الإنسانِ، فقيمةُ العقلِ في إدراكِ عُمقِ الحياةِ لا في معرفةِ ظاهرِها، وقيمةُ الإنسانِ بأن يعيشَ في ذلكَ العمقِ لا في ظاهرِ السّطحِ، والغيبُ ليسَ شيئاً آخرَ غيرَ عُمقِ الحقيقةِ ولبِّ المعنى.
وقد إرتكزَت هذه الدّراساتُ على فرضيّةٍ منَ الصّعبِ التّأكّدُ مِنها، وهيَ كونُ الأديانِ نتاجُ جهلِ الإنسانِ وعدمُ قُدرتِه على تفسيرِ الظّواهرِ بشكلٍ علميٍّ، ولِذا لجأ الإنسانُ إلى تفسيرِ تلكَ الظّواهرِ إلى إفتراضِ قوىً فوقَ طبيعيّةٍ، ويبدو أنَّ هذهِ الفرضيّةَ كانَت نتاجَ بداياتِ عصرِ العلمِ وإفتتانِ الإنسانِ به إلى درجةٍ تصوّرَ معها أن يكونَ العلمُ بديلاً عنِ الأديانِ، ولِذا إعتقدَ بعضُ الدّارسينَ أنَّ مرحلةَ العلمِ هيَ المرحلةُ التي يجبُ أن يتوجّهَ فيها الفكرُ إلى الوضعيّةِ الطّبيعيّةِ، وهذا ما دفعَ أوغست كونت للإعتقادِ بأنَّ المدنيّةَ الأوروبيّةَ قد وصلَت بالفعلِ إلى مرحلةِ الوضعيّة الطبيعيّةِ، وهُنا لابدَّ أن نُشيرَ أيضاً للخطأِ المنهجيّ لهذا الإتّجاهِ في التّفكيرِ، فإنَّ العلميّةَ التّجريبيّةَ والوضعيّةَ الطبيعيّةَ، لا تقعُ في نفسِ الخطِّ الذي تسيرُ فيه الضّرورةُ الدّينيّةُ، فالبحثُ عنِ القوانينِ الطّبيعيّةِ وربطُ الظّواهرِ بأسبابِها المباشرةِ لا يُغني الإنسانَ عنِ الإرتباطِ بالغيبِ والبحثِ عنِ المُطلق، فتفاعلُ الإنسانِ معَ عالمِ المادّةِ وتسخيرها ضمنَ شروطِها الطبيعيّةِ يُعدُّ خطوةً ضروريّةً للتّكاملِ المادّيِّ للإنسانِ، أمّا تكامله الرّوحيُّ وعروجُه إلى المعاني السّاميةِ والقيمِ الكلّيّةِ لا يكونُ إلّا بإنفتاحِه على الغيبِ، فلا التّجربةُ المادّيّةُ تُحقّقُ للإنسانِ ما يصبو لهُ روحيّاً، ولا الغيبُ والتّأمّلُ في المُطلقِ يُحقّقُ لهُ ما يحتاجُه مادّيّاً، فالإنسانُ ليسَ ذاتاً بسيطةً تنظرُ للأشياءِ مِن زاويةٍ واحدةٍ، ومِن هُنا لم تمُت الأديانُ ولم يمنَع العلمُ والحضارةُ الإنسانَ من أن يكونَ مُتديّناً.
وإذا نظرنا لتفسيراتِ هذهِ النّظريّاتِ لنشوءِ الأديانِ لوقَفنا على مدى السّطحيّةِ التي تُعالجُ بها هذهِ الظّاهرةُ، فالبعضُ أرجعَ الظاهرةَ الدّينيّةَ لتفسيرِ الإنسانِ البدائيّ للأحلامِ ورؤيةِ موتاهُم في المنامِ، حيثُ تصوّروا أنَّ الرّوحَ حقيقةٌ مستوعبةٌ لكلِّ شيءٍ حتّى الطّبيعة أي أنَّ الطبيعةَ مسكونةٌ أيضاً بالأرواحِ، الأمرُ الذي قادَهم إلى عبادةِ الأرواحِ والأسلاف.
وتصوّرَت نظريّاتٌ أخرى أنَّ الإنسانَ البدائيَّ كانَ يعتقدُ بأنَّ الطّبيعةَ مسكونةٌ بقوىً سحريّةٍ فنشأت معتقداتُ السّحرِ عندَه كمرحلةٍ أوّليّةِ لنشوءِ الأديانِ، ومِن هُنا وصفوا تطوّرَ المُجتمعاتِ الإنسانيّةِ عبرَ مرورِها بثلاثِ مراحلَ وهيَ مرحلةُ السّحرِ ومرحلةُ الدّينِ ومِن ثمَّ أخيراً مرحلةُ العلم.
أمّا الإتّجاهُ الذي يُعدُّ إتّجاهاً عقلانيّاً في تفسيرِ نشوءِ الأديانِ والذي تبنّاهُ ماكس موللر يتصوّرُ أنَّ الإعتقادَ الدّينيَّ يأتي منَ الإدراكِ الحسّيّ، بمعنى أنَّ الإنسانَ قد تأثّرَ بالطّبيعةِ وأدهشَتهُ ظواهرُها الغريبةُ ممّا جعلَه يستغرقُ في التّأمّلِ فيها، وكلُّ ذلكَ زرعَ فيهِ شعوراً بالمجهولِ مقابلَ المعلومِ، والمحدودِ في مقابلِ اللّامحدود، والمحسوسِ في مقابلِ اللّامحسوس، فتكوّنَت بذلكَ البداياتُ الأولى للعاطفةِ الدّينيّةِ، وإستدلَّ لإثباتِ ذلكَ باللّغةِ والكلماتِ التي كانَت تُطلقُ على الآلهةِ حيثُ وجدَ أنّها ليسَت إلّا مُسمّياتٌ للظواهرِ الطّبيعيّة.
وهناكَ نظريّاتٌ أخرى فسّرَت نشوءَ الأديانِ تفسيراً إجتماعيّاً، وقد بدأ هذا المشروعُ بشكلٍ مُوسّعٍ معَ الفيلسوفِ الفرنسيّ دور كايم، في كتابِه (الأشكالُ الأوّليّةُ للحياةِ الدينيّةِ) وهيَ نظريّةٌ تقومُ على تهميشِ دورِ الفردِ أو إعدامِه بالمرّةِ في قبالِ المُجتمعِ، والإنسانُ ضمنَ تصوّرِ دور كايم غيرُ قادرٍ حتّى على إختيارِ قناعاتِه بشكلٍ مُستقلٍّ بعيداً عنِ المُجتمعِ، فالدّينُ في نظرِه ليسَ إلّا صناعةً مُجتمعيّةً والأفرادُ المُتديّنونَ ليسوا إلّا تبعاً لخياراتِ المُجتمع.
وهذهِ النّظريّاتُ وغيرُها تبتعدُ تماماً عَن وصفِ الأديانِ السّماويّةِ، ولو تمكّنَت مِن حشدِ بعضِ الشّواهدِ منَ الأشكالِ البدائيّةِ للتّديّنِ إلّا أنَّ تلكَ الشّواهدَ لا تعدُّ وصفاً حقيقيّاً لظاهرةِ الوحي ورسالاتِ الله.
اترك تعليق