أريدُ بحثاً يُوضّحُ العلاقةَ بينَ تعدّدِ التّصوّراتِ عنِ اللهِ وبينَ ضعفِ إمكانيّةِ وجوده.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
لم نفهَم على نحوِ الدّقّةِ ما يرمي إليهِ السّائلُ منَ العلاقةِ بينَ تعدّدِ التّصوّراتِ عنِ اللهِ وبينَ ضعفِ إمكانيّةِ وجودِه، لكونِ اللهِ أصلاً خارجاً عنِ الإدراكِ والتّصوّر، وكلُّ ما تقومُ عليهِ المعرفةُ هوَ إثباتُ وجودِه نفياً للتّعطيلِ وفي نفسِ الوقتِ عدمُ وصفِه بالتّصوّراتِ نفياً للتّشبيهِ، فاللهُ سبحانَه وتعالى لا يُعرفُ بالعقولِ ولا تدركُه الأبصارُ، ولا تحيطه الأوهامُ، ولم يجعَل طريقاً إلى معرفتِه إلّا بالعجزِ عَن معرفتِه، فهوَ الدّالُّ على ذاتِه بذاتِه، ومُنزّهٌ عن مُجانسةِ مخلوقاتِه، وهوَ المُتفضّلُ على العبادِ بتعريفِ نفسِه، معرفةً تُخرجُه عنِ الحدّينِ حدِّ التّعطيلِ وحدِّ التّشبيهِ، بمعنى إثباتِه دونَ إدراكِه والإحاطةِ به فيمتنعُ بذلكَ وصفُه وتسميتُه، ولولا أنَّ اللهَ سمّى نفسَه بأسماءٍ ووصفَها بأوصافٍ لما جازَ لنا أبداً وصفه وتسميتُه، ومِن هُنا نفهمُ النّصوصَ التي تنهى عن وصفِ اللهِ بما لم يصِف بهِ نفسَه، فالإنسانُ إذا أرادَ أن يصفَ شيئاً فلابدَّ أن يكونَ ذلكّ الشّيءُ معلوماً مُتصوّراً للعقلِ، أمّا إذا كانَ العقلُ يعجزُ عَن معرفتِه وتصوّرِه، فحينئذٍ محالٌ أن يصفَه بصفةٍ، ولو تمرّدَ الإنسانُ وسعى لوصفِ اللهِ سبحانَه بعقلِه، فهوَ في واقعِ الأمرِ لا يصفُ ربَّه وإنّما يصفُ ما يتصوّرُه وهوَ غيرُ اللهِ، كما يقولُ الإمامُ الباقرُ (عليهِ السّلام): (كلّما ميّزتموهُ بأوهامِكم في أدقِّ معانيهِ مخلوقٌ مثلكُم مردودٌ عليكم) (بحارُ الأنوار ج66، ص 293)
ويقولُ الإمامُ الصّادقُ (عليهِ السّلام): (مَن زعمَ أنّهُ يعرفُ اللهَ بتوّهمِ القلوبِ فهوَ مُشركٌ، ومَن زعمَ أنّهُ يعرفُ اللهَ بالإسمِ دونَ المعنى فقد أقرَّ بالطّعنِ، لأنَّ الإسمَ مُحدثٌ، ومَن زعمَ أنّهُ يعبدُ الإسمَ والمعنى فقد جعلَ معَ اللهِ شريكاً، ومَن زعمَ أنّهُ يعبدُ المعنى بالصّفةِ لا بالإدراكِ فقَد أحالَ على غائبٍ، ومَن زعمَ أنّهُ يعبدُ الصّفةَ والموصوفَ فقَد أبطلَ التّوحيدَ، ومَن زعمَ أنّهُ يضيفُ الموصوفَ إلى الصّفةِ فقد صغّرَ الكبيرَ، وما قدّروا اللهَ حقَّ قدرِه، قيلَ لهُ فكيفَ سبيلُ التّوحيد؟ قالَ: بابُ البحثِ ممكنٌ، وطلبُ المخرجِ موجودٌ، إنَّ معرفةَ عينِ الشّاهدِ قبلَ صفتِه، ومعرفة صفةِ الغائبِ قبلَ عينِه، قيلَ: وكيفَ نعرفُ عينَ الشّاهدِ قبلَ صفتِه؟ قالَ عليه السّلام: تعرفُه وتعلمُ علمَه، وتعرفُ نفسَك بهِ، ولا تعرفُ نفسَك بنفسِك مِن نفسِك، وتعلمُ ما فيهِ لهُ وبه) (تحفُ العقولِ ص 326).
فمعرفةُ اللهِ معرفةٌ مِن نوعٍ خاصٍّ، لا يجتمعُ معها التّشبيهُ، فلا يُتصوَّرُ بالعقولِ ولا يُتوهَّم بالخيالِ، لأنّهُ أعظمُ مِن أن تنالَه خطراتُ القلوبِ ودقائقُ الأوهامِ، وليسَ بمقدورِ الإنسانِ إذا أرادَ أن يعرفَ أن يعرف، فأيُّ شيءٍ يمكنُ أن يكونَ طريقاً إلى معرفتِه وهوَ خارجٌ عَن هيمنتِه وقُدرتِه؟ فهناكَ حقائقُ يجدُها الإنسانُ ويسلّمُ بوجودِها، مِن غيرِ أن تكونَ مُتصوَّرةً أو محُاطةً بالعقولِ، بلِ العقلُ نفسُه كيفَ يُسلّمُ الإنسانُ بوجودِه؟ هل يتصوّرُه فيعرفُ أنّهُ موجودٌ؟ صحيحٌ يمكنُ أن يتصوّرَ الإنسانُ آياتِ العقلِ وعلاماتِه ولكِن يستحيلُ أن يتصوّرَ ذاتَ العقلِ، فإذا كانَ العقلُ (وهو مخلوقٌ نورانيٌّ) يتقدّسُ مِن أن يُحاطَ بهِ ويكونُ مُتصوّراً وإنّما هوَ دالٌّ على ذاتِه بذاتِه، فكيفَ يجوزُ للمخلوقِ أن يتصوّرَ خالقَه؟ وكما أنَّ الإنسانَ يجدُ العقلَ ويعرفُه مِن دونِ تصوّرٍ أو توهّمٍ، كذلكَ يجدُ الإنسانُ معرفةَ اللهِ من دونِ تصوّرٍ وتوهّم.
وفي المُحصّلةِ ليسَ هناكَ تصوّراتٌ عنِ الخالقِ حتّى تكونَ هذهِ التّصوّراتُ دليلاً على ضعفِ وجودِه، ولو وُجدَت عندَ البعضِ فإنّها لا تُعبّرُ عنِ الخالقِ وإنّما تُعبّرُ عَن مخلوقٍ مثلهم مردودٍ عليهم كما عبّرَ الإمامُ الباقر (عليهِ السّلام).
اترك تعليق