هل هناك تحدٍّ بين الله وبين الشيطان؟
السؤال: لا أدري كيف لإله خالق وكلّيّ الحكمة والمعرفة والقوّة أن يدخل في تحدٍّ مع الشيطان الذي هو أصلاً خالقه؟ ألم يكن هذا الإله قادراً على تأديب أو حتّى على سحق هذا الشيطان الذي عصاه والذي هو أصلاً خالقه؟ أليس في هذا التحدّي تصغير للقدرة الإلهيّة؟؟
الجواب:
أوّلاً: أنّ ما يظهر من سياق الآيات ليس تحدّياً بين الله تعالى وإبليس بمعنى المنافسة أو التقابل المتكافئ. فالله هو الخالق المطلق ذو القوّة والحكمة المطلقة، في حين أنّ إبليس مجرّد مخلوق ضعيف قد وقع في حبائل غروره وجهله. وما يسمّى بـ (تحدّي إبليس) هو في الحقيقة مظهر من مظاهر كِبْر إبليس وغروره، إذ إنّ إبليس اعترف صريحاً بأنّ الله خالقه وصحاب القوّة والسلطان عليه، بل حتّى يتمكّن إبليس من مهمّته التي نذر نفسه لها وهي إضلال البشر طلب من الله الإمهال حتّى يوم القيامة، اعترافاً منه بفقره وحاجته في قبال الله تعالى، وعليه لا يعني ذاك التوعّد الذي أعلنه ابليس تحدّياً حقيقيّاً لله، وإنّما هو تعبير عن حقد إبليس ورغبته في الانتقام، دون أن يملك أيّ قوّة فعليّة أمام إرادة الله.
فإذا رجعنا لسياق الآيات من الآية 12 إلى الآية 18 من سورة الاعراف نجد أنّ إبليس يعترف بضعفه وحاجته لله تعالى، إذْ تبدأ الآيات من موقف إبليس من أمر السجود، حين رفض السجود لآدم استكباراً واعتقاداً بأنّه أفضل منه. قال تعالى: {قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ}. هنا إبليس يُقرّ بأنّ الله هو خالقه، ويعترف ضمناً بأنّه خاضع لقدرة الله وسلطانه، ولكنّه يتمرّد بدافع الكبر.
ثمّ جاءت العقوبة من الله عزّ وجلّ، لـمّا قال له: {قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ}. وهذا الردّ يُظهر أنّ إبليس ليس ندّاً لله، بل مخلوقٌ مذلولٌ في مواجهته للقدرة الإلهيّة.
وبعد ذلك، طلب إبليس أن يُنظر إلى يوم القيامة ليتمكّن من إضلال بني آدم، فقال: {قَالَ أَنظِرْنِي إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ} فأجابه الله تعالى بقوله: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ}. وهو ممّا يؤكّد أنّ الأمر كلّه بيد الله جلّ وعلا.
ثمّ توعّد إبليس بأن يُضلّ البشر قائلاً: {قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}. فجاءه الوعد الإلهي بالمصير المحتوم له ولأتباعه، بقوله تعالى: {قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ}.
فهذا الردّ لا يترك مجالاً للظنّ بأنّ هناك تحدّياً، بل هو تأكيدٌ على أنّ إبليس مذموم ومطرود، ومصيره ومصير من اتّبعه هو جهنّم.
إذنْ: لا يُعدُّ ذلك تحدّياً بمعناه المتعارف عليه، بل هو تعبير عن كبر إبليس وغروره، في مقابل عجزه وحاجته المستمرّة لله، الذي بيده كلّ القدرة والمصير.
ثانياً: أنّ الله تعالى منح الإنسان حريّة الإرادة، وهذا يعني أنّ البشر لديهم القدرة على اتّخاذ قراراتهم بحريّة، فإذا تدخل الله بشكل قسريّ ليمنع الشيطان من إضلال البشر، لمَا استقامت الأمور ولبطل الثواب والعقاب وانتفت الحِكمة من خلق الإنسان وامتحانه في الدنيا، وضمن هذا السياق، فإنّ غرور ابليس وتكبّره ومحاولته لإضلال البشر لا تعني تقليلاً من قدرة الله، بل هو تعبير عن حكمة الله في خلق الإنسان بإرادة حرّة.
فالله تعالى خلق الشيطان، كما خلق كلّ شيء، لغاية محدّدة، والتحدّي الذي يدور بين الشيطان والإنسان هو جزء من اختبار الإنسان، وقد ذكرت الآيات القرآنيّة الإنسان بعداوة الشيطان له، كما أكّدت على محدوديّة ابليس وكيده الضعيف، فقال تعالى:{إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا}، وقال تعالى: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ ۖ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُوراً}، فلا يتعدّى كيده وتأثيره الوسوسة القلبيّة، قال تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ۖ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلَّا أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ۖ فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنفُسَكُم}، وبالتالي ليس لإبليس أيّ سلطة على الإنسان إلّا إذا اراد الإنسان ذلك، يقول تعالى: {انَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِين}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ}.
فوجود الشيطان - إذنْ - لاختبار للبشر، وهذا الاختبار يُظهر مدى إيمان الإنسان وقّوة إرادته في مواجهة الشرّ، ومن خلال هذا الصراع، يستطيع الإنسان أن ينمو روحيّاً ويتكامل معنويّاً من خلال تلك المواجهة.
ثالثاً: الله سبحانه وتعالى ليس مجبراً على إظهار قوّته وسلطانه بشكل مباشر وفوريّ في كلّ موقف؛ بل يحكم الأمور وفق مشيئته، التي تتّسم بالحكمة والرحمة. وإنّ إتاحة الفرصة لإبليس وغيره من أعداء الدين ليس إضعافاً للقدرة الإلهيّة، بل هو جزء من السنن الإلهيّة في اختبار الإيمان وتمييز الصادقين من الكاذبين.
يقول تعالى في ذلك: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا ۚ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ۖ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}، فوجود أعداء لكلّ نبيّ، من شياطين الإنس والجنّ، هو جزء من الحكمة الإلهيّة التي تهدف إلى اختبار الناس وإبراز المؤمنين حقّاً، والذين يسعون لمرضاة الله رغم محاولات الإغواء والفتنة، وقد أكّدت الآية أنّ كلّ ذلك يمضي بمشيئة الله تعالى إذْ قال عزّ وجلّ: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ).
إنّ مشيئة الله تشمل كلّ ما يحدث في الكون، وكلّ ما يقع من أفعال البشر أو الشياطين لا يحدث إلّا بإذن منه، لكن هذا الإذن ليس بمعنى الرضا عن تلك الأفعال، وإنّما لتحقيق حِكم وأغراض عُليَا لا يدركها الجميع. فالله قادر على منع هؤلاء الأعداء من تحقيق غاياتهم، ولكنّه يسمح لهم بإظهار ما في نفوسهم ليتحمّل كلّ واحد منهم مسؤوليّة عمله، يقول تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
كما أنّ هذا التدبير الحكيم يكشف لنا عن الغاية من وجود الشيطان ذاته، فهو ليس كائناً له قوّة مطلقة، بل أداة لتوجيه البشريّة نحو اختبار عظيم، إذْ تتمايز النفوس الطيّبة التي تصمد أمام الفتن عن النفوس الضعيفة التي تضعف أمام وساوس الشيطان. ومن هنا نفهم أنّ الله تعالى يختار الوقت والطريقة الأنسب لإظهار قدرته، فلا يعجّل العقوبة ولا يُبطل أدوار الشياطين فوراً، بل يسمح بحدوثها كجزء من الحكمة العليا في التدبير. فما يسمّى بتحدّي ابليس ليس تقليلاً من قدرة الله، بل هو إظهار لحكمة الله التي تتجاوز فهمنا البشريّ، ومن خلال هذا التحدّي، يُدرك الإنسان أهمّيّة اختياراته وعلاقته بالله تعالى، وهو ممّا يُعزّز من إيمانه وعبادته. والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق