هل أُحرق باب الزهراء؟
السؤال : هل ثبت حقاً أنَّ القوم قد أحرقوا باب السيّدة الزهراء (ع) أو لا، نرجوا بيان الحقّ في هذه المسألة؟
الجواب :
بسم الله الرحمن الرحيم
لا يخفى أنَّ الحقّ في أيّ مسألةٍ من المسائل تابع لقوَّة الدليل الدال عليها، إذْ كلَّما كان الدليل فيها أقوى كان التصديق فيها أسرع، بخلاف ما لو كان الدليل ضعيفاً أو غير واضح، فإنَّ التصديق يكون أبطأ، لطرديّة العلاقة بين الدليل والمدَّعى، كما لا يخفى. ثمَّ إنَّ المستفاد من المعطيات العلميّة المقبولة أنَّ القوم قد أقدموا على حرق باب الصدِّيقة الزهراء (ع)، فضلاً عن التهديد بذلك، وإليكم التفصيل ضمن نُقاط.
النقطة الأولى : أنَّ القضايا التأريخيّة بصورة عامّة قائمةٌ على فكرة حساب الإحتمالات القائم على جمع القرائن والشواهد الدالَّة على وقوع الحدث، ولذلك فلا ينبغي البحث عن بعض الجزئيّات منفرداً عن إطارها العام، وإلَّا فسوف نفقد الكثير من تلك القيم الإحتماليّة التي تسهم في توليد الإطمئنان أو اليقين بحقّانيّة المسألة.
وعلى هذا الأساس، فلا ينبغي البحث عن جزئيّة (حرق الدار) منقطِعاً عن إطارها العامّ وسياقها الطبيعيّ، بل لا بدَّ من الكلام عن بعض الأحداث الحافَّة بها، لما لها من مدخليّة في توليد الإطمئنان بالحادثة.
فمن ذلك مثلاً: تخطيط القوم للغدر بأمير المؤمنين (ع)، ومنها الإسراع في عقد البيعة، حتَّى وُصفت من قبل البعض بـ(الفلتة) وغير ذلك، وبناءً على هذا ـ عزيزي السائل ـ فلو توقَّف هدف القوم على حرق باب الزهراء (ع) فهل يتوانون عن فعله؟ كلَّا بالتأكيد. هذه جملة من الشواهد العامَّة التي يُمكن من خلالها توقُّع النتيجة الطبيعيّة عن هذا السؤال المذكور.
النقطة الثانية : من مسلَّمات التأريخ والسيرة والحديث عند المسلمين كافَّة أنَّ القوم قد(هدّدوا بحرق الدار) على من فيها، حتَّى قال الرجل قولته المشهورة عندما قيل له: إنَّ في الدار فاطمة، فقال: (وإنْ)، وإليكم جملة من الشواهد مع مراعاة الإختصار.
1ـ روى المحدِّث ابن أبي شيبة بسنده الصحيح عن زيد بن أسلم، عن أبيه أسلم قال: إنّه حين بويع لأبي بكر بعد رسول الله (ص) كان عليٌّ والزبير يدخلان على فاطمة بنت رسول الله (ص) فيشاورونها ويرتجعون في أمرهم، فلما بلغ ذلك عمر بن الخطَّاب خرج حتَّى دخل على فاطمة، فقال: يا بنت رسول الله (ص)، والله ما من الخلق أحد أحبّ إلينا من أبيك، وما من أحد أحبّ إلينا بعد أبيك منك، وأيم الله ما ذاك بمانعي إنْ اجتمع هؤلاء النفر عندك أنْ أمرتهم أنْ يُحَرّق عليهم البيت. قال: فلمّا خرج عمر جاؤوها، فقالت: تعلمون أنَّ عمر قد جاءني وقد حلف بالله لئن عدتم ليحرّقنّ عليكم البيت، وأيم الله ليمضين لما حلف عليه، فانصرفوا راشدين، فرأوا رأيكم ولا ترجعوا إليَّ، فانصرفوا عنها، فلم يرجعوا إليها حتَّى بايعوا لأبي بكر[المصنَّف ج21 ص143].
2ـ وروى الطبريّ بإسناده إلى زياد بن كُليب، قال: أتى عمر بن الخطَّاب منزل عليٍّ، وفيه طلحة والزبير ورجال من المهاجرين، فقال: والله لأحرّقنّ عليكم أو لتخرجنّ إلى البيعة. فخرج عليه الزبير مصلتاً بالسيف، فعثر فسقط السيف من يده، فوثبوا عليه فأخذوه[تأريخ الطبريّ ج 3 ص 202].
3ـ وروى أبو الفداء في تأريخه، وفيه: ثُمَّ إنَّ أبا بكر بعث عمر بن الخطَّاب إلى عليٍّ ومن معه ليخرجهم من بيت فاطمة وقال: إنْ أبوا عليك فقاتلهم، فأقبل عمر بشيءٍ من نار على أنْ يُضرم الدار، فلقيته فاطمة وقالت: إلى أين يابن الخطَّاب؟ أجئت لتحرِّق دارنا؟! قال: نعم، أو تدخلوا فيما دخلت فيه الأمَّة[تأريخ أبي الفداء ج1ص219].
والمتحصَّل أنَّ الرجل كان مستعداً لتحريق الدار على من فيها في حال عدم البيعة، وهو ممّا يُشكِّل قرينة قوية على إمكانيّة وقوع التحريق بالفعل، تلبية للغرض المقصود لهم، وهو البيعة والحكم.
النقطة الثالثة : إنَّ إثبات (تحقّق الحرق) من كتب القوم أمرٌ ليس بالسهل، وذلك لشدَّة حرصهم على إخفاءِ كلِّ ما من شأنه الإدانة لرموزهم، ومع ذلك فقد نجدُ بعض المؤشِّرات على ذلك، مضافاً لما ورد من طرق أتباع أهل البيت (عليهم السلام)، وهو ممّا يشكل بمجموعة الإطمئنان بقيام القوم بحرق دار الصدِّيقة الزهراء (ع) بالفعل.
1ـ روى المؤرِّخ المسعوديّ في إثبات الوصيّة، وفيه: ثمَّ اعتزلهم ودخل بيته [أي أمير المؤمنين (ع)] فأقام فيه ومن اتّبعه من المسلمين، وقال: إنَّ لي في خمسة من النبيّين أسوة: نوح إذ قال: إنّي مغلوب فانتصر، وإبراهيم إذ قال: وأعتزلكم وما تدعون من دون الله، ولوط إذ قال: لو أنَّ لي بكم قوَّة أو آوي إلى ركنٍ شديد، وموسى إذ قال: ففررتُ منكم لمّا خفتكم، وهارون إذ قال: إنَّ القوم استضعفوني وكادوا يقتلوني. ثمَّ ألَّف (عليه السلام) القرآن وخرج إلى الناس وقد حمله في إزار معه، وهو ينط من تحته، فقال لهم: هذا كتاب الله قد ألَّفته كما أمرني وأوصاني رسول الله (ص) كما أنزل. فقال له بعضهم: اتركه وامض. فقال لهم: إنَّ رسول الله (ص) قال لكم: إنّي مخلِّف فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي، لنْ يفترقا حتَّى يردا عليَّ الحوض...فانصرف عنهم، فأقام أمير المؤمنين (ع) ومن معه من شيعته في منزله بما عهد إليه رسول الله (ص) فوجَّهوا إلى منزله فهجموا عليه، وأحرقوا بابه [ إثبات الوصيّة ص154].
2ـ وروى مقاتل بن عطيّة البكريّ الحجازيّ، وفيه: إنَّ أبا بكر بعدما أخذ البيعة لنفسه بالإرهاب والسيف والتهديد والقوَّة، أرسل عمر وقنفذاً وخالد بن الوليد وأبا عبيدة الجرَّاح وجماعة أُخرى من المنافقين إلى دار عليّ وفاطمة (عليهما السلام)، وجمع الحطب على باب بيت فاطمة...إلى قوله: وأحرق الباب بالنار[مؤتمر علماء بغداد ص50].
وفي هذا الكتاب يقول الدكتور حامد حفني داوود أُستاذ الأدب العربي بالقاهرة ما نصُّه: هذا الكتاب الذي نقدِّمه للقرَّاء يعتبر على الرغم من ضآلة حجمه من أعظم الكتب التي تعطينا صورة واضحة المعالم لهذا الصراع العنيف الذي كان بين الشيعة وأهل السنة في القرن الخامس الهجريّ، وهو صراع عقديّ يقوم على أساس من الحجج والبراهين، وطرح العويص من المشكلات عند الطائفتين[ نظرات في الكتب الخالدة ص81].
3ـ وروى سُليم بن قيس في كتابه، وفيه: ثمَّ أمر أناساً حوله أنْ يحملوا الحطب فحملوا الحطب وحمل معهم عمر، فجعلوه حول منزل عليّ وفاطمة...ثمَّ نادى عمر حتَّى أسمع عليّاً وفاطمة (عليهما السلام): والله لتخرجنَّ يا عليّ ولتبايعنَّ خليفة رسول الله وإلَّا أضرمتُ عليك بيتك النار. فقالت فاطمة (عليها السلام): يا عمر، ما لنا ولك؟ فقال: افتحي الباب وإلَّا أحرقنا عليكم بيتكم...إلى قوله: ودعا عمر بالنار فأضرمها في الباب[كتاب سُليم بن قيس ص378].
أقول: الملاحظ في خبر سُليم هذا هو النظر إلى السياق الطبيعيّ، وهو التهديد بالحرق أوَّل الأمر، وبعدها تحقّق الحرق فعلاً الأمر الذي أُخفي في تراث القوم، فلاحظ.
والنتيجة من كلِّ ما تقدَّم: أنَّ الشواهد والقرائن تدلُّ بمجموعها على تحقّق الحرق بالفعل، فضلاً عن التهديد الذي يُعدُّ ترويعاً وتخويفاً لآل النبيّ العظيم (صلَّى الله عليه وآله)، فكان ذلك ـ منهم ـ جزاءً ووفاءً لجهوده التي بذلها لهذه الأمَّة!!
نكتفي بهذا القدر من الجواب، رعاية للاختصار.. والحمد لله ربِّ العالمين.
اترك تعليق