إذا كانَ اللهُ موجوداً فلماذا الظّلم؟  

أحدُ المُقرّبينَ لنا يشكُّ بوجودِ اللهِ جلَّ وعلا إذ يقول: لو كانَ اللهُ موجوداً لما رضيَ بوقوعِ الظلمِ على النّاسِ و مِن ضمنِهم أنا ، فما جوابكم؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :  

منَ المؤكّدِ أنَّ هناكَ مظالمَ كثيرةً وبخاصّةٍ في عالمِنا العربيّ والإسلامي، الأمرُ الذي ولّدَ حالةً منَ الإحباطِ والاستسلامِ عندَ البعض، وفي الغالبِ يشكّلُ اليأسُ والإحباطُ بيئةً خصبةً لنموّ الأفكارِ السلبيّةِ المُنحرفةِ، وقد أشارَ أميرُ المؤمنينَ (عليهِ السّلام) للعلاقةِ بينَ ضعفِ الإيمانِ وبينَ الفقرِ والحِرمان في وصيّتِه للإمامِ الحسنِ (عليهِ السّلام) بقولِه: (يا بُني! مَن إبتُليَ بالفقرِ فقد إبتليَ بأربعِ خصالٍ: بالضّعفِ في يقينِه، والنقصانِ في عقلِه، والرقّةِ في دينِه، وقلّةِ الحياءِ في وجهِه، فنعوذُ باللهِ منَ الفقر)، وقالَ قالَ رسولُ اللهِ (صلّى اللهُ عليهِ وآله): كادَ الفقرُ أن يكونَ كفراً) ولذا كانَ أبو ذرٍّ الغفاري يقولُ: (إذا ذهبَ الفقرُ إلى بلدٍ قالَ لهُ الكفرُ خُذني معك) كلُّ ذلكَ يؤكّدُ بأنَّ بيئةَ الظّلمِ والحرمانِ يشكّلانِ مرتعاً خصباً للأفكارِ المُنحرفةِ، ولا يُفهمُ مِن ذلكَ أنّنا نسوقُ التبريراتِ للنّفوسِ الضعيفةِ والمُنهزمةِ، وإنّما نقصدُ وضع َاليدِ على الدّوافعِ النفسيّةِ وغيرِ المنطقيّةِ لحالاتِ الكُفرِ والإلحادِ عندَ البعض، فالإنسانُ الذي تكسرُه الظروفُ وتُشعِرُه الحاجةُ بالهوانِ لا يفكّرُ في وضعِه بموضوعيّةٍ وإنّما يجعلُ مِن نفسِه وشعورِه الشخصي مقياساً للحقِّ والباطل، فما يُشبعُ رغبتَه يكونُ حقّاً وما يخالفُها يكونُ باطلاً، وذلكَ ما عبّرَ عنهُ أميرُ المؤمنينَ بقولِه: (والنقصانُ في عقلِه)، وعليهِ فإنَّ الخياراتِ المُتاحةَ لمواجهةِ هذهِ التشكيكاتِ ليسَت خياراتٍ علميّةً تستهدفُ سردَ الأدلةِ والبراهينِ على وجودِ اللهِ تعالى، وإنّما تنحصرُ الخياراتُ في معالجةِ النفسيّةِ المُتأزّمةِ بأحدِ طريقين، الأوّلُ: تغييرُ نفسيّتِه مِن خلالِ تغييرِ وضعِه المعيشي ورفعِ ما عليهِ مِن ظلمٍ، سواءٌ كانَ ذلكَ بجهدِه الشّخصي أو عن طريقِ طرفٍ آخر، والثاني: تغييرُ نفسيّتِه مِن خلالِ تقويةِ إرادتِه وتبصيرِه بمسؤوليّتِه ودفعِه نحوَ التحدّي والمواجهةِ، وذلكَ يكونُ مِن خلالِ الوعي بفلسفةِ الحياةِ ودورِ الإرادةِ الإنسانيّةِ في تغييرِ الواقعِ، فليسَ هناك أقدارٌ حتميّةٌ على الإنسانِ وكلُّ ما يصيبُه فهوَ مِن جهدِه وعملِه، فالذي يعيشُ في الظّلمِ ولا يسعى لتغييرِ وضعِه يكونُ ظالماً لنفسِه، فاللهُ منحَ الإنسانَ العقلَ والقُدرةَ والإرادةَ وهيّأ لهُ أسبابَ الحياةِ الكريمةِ فلا يتوقّعُ بعدَ ذلكَ أن ينوبَ اللهُ عنه ليعملَ بدلاً منه، وقد بيّنَ القرآنُ الكريمُ نموذجاً لهؤلاء ِفي قولِه تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِم قَالُوا فِيمَ كُنتُم ۖ قَالُوا كُنَّا مُستَضعَفِينَ فِي الأَرضِ ۚ قَالُوا أَلَم تَكُن أَرضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا ۚ فَأُولَٰئِكَ مَأوَاهُم جَهَنَّمُ ۖ وَسَاءَت مَصِيرًا) فقد وصفَتهم الآيةُ بأنّهم ظالمي أنفسِهم معَ أنّهم يعيشونَ حالةً منَ الظّلمِ والاستضعافِ، وأرجعَت الآيةُ السّببَ في ذلكَ إلى مسؤوليّتِهم الشخصيّةِ عن رفعِ الظّلمِ عنهم، ولم تكتفِ الآيةُ بذلكَ وإنّما بيّنَت لهم أحدَ الخياراتِ التي كانَ بإمكانِهم العملُ بها وهيَ الهجرةُ بعيداً عن الظالمينَ، وبالتأكيدِ الخياراتُ مُتعددةٌ ومختلفةٌ بحسبِ الظرفِ الزّمني، ولا عذرَ للإنسانِ أمامَ ما يصيبُه مِن ظلمٍ واستضعاف.  

وقد قُلنا في إجابةٍ سابقةٍ، لا نجدُ أيَّ مبرّرٍ لحشرِ قضيّةِ الإيمانِ باللهِ فيما يحدثُ في عالمِنا مِن مظالمَ، إلّا أن يكونَ نوعاً منَ التهرّبِ منَ المسؤوليّةِ وإيكالِ الأمرِ إلى الغيبِ، فاللهُ سُبحانَه خلقَ الإنسانَ ومنحَه القدرةَ والعقلَ والإرادةَ وسخّرَ له كلَّ ما في الدّنيا ليبني لنفسِه حياةً سعيدةً، فكيفَ بعدَ ذلكَ يحمّلُ اللهَ مسؤوليّةَ ما يصنعُه بيديه؟ والعجيبُ أنَّ الإنسانَ في حالةِ الرّخاءِ ينسى اللهَ ويتصوّرُ أنّ ما عندَه مِن نعمٍ إستحقّها بمُقدّراتِه وكسبِه الخاصّ، كما هوَ حالُ قارونَ الذي (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلمٍ عِندِي) وفي المقابلِ إذا ما ضاقَت على الإنسانِ معيشتهُ إعتبرَ ذلكَ إهانة وظلماً منَ اللهِ، قالَ تعالى: (إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (۱۹) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (۲۰) وَإِذَا مَسَّهُ الخَيرُ مَنُوعاً)  

فما يعانيهِ هذا الإنسانُ هو حالةُ إحباطٍ مِن وضعِه ومنَ المُجتمعِ الذي يرى أنّهُ تخلّى عنهُ، فحتّى ينتقمَ لنفسِه مِن ظلمِ المُجتمعِ أرادَ أن يضربَ المُجتمعَ في أقدسِ ما عندَه وهوَ إيمانُه باللهِ تعالى ظانّاً أنَّ ذلكَ يحقّقُ لهُ إنتصاراً على المُجتمعِ المؤمنِ إلّا أنّهُ بذلكَ يخسرُ الدّنيا والآخرةِ معاً، ونصيحتُنا له أن لا يظلمَ نفسهُ بالاستسلامِ فخياراتُ الخلاصِ متاحةٌ لمَن سخّرَ إمكاناتِه التي وهبَها اللهُ له، أمّا الكفرُ فهوَ خيارٌ خاسرٌ لكونِه لا يغيّرُ حالَه ولا يرفعُ الظّلمَ عنهُ فيخسرُ بذلكَ دنياهُ كما يخسُر آخرتَه.