وكيف يوصف بالأشباح، وينعت بالألسن الفصاح؟
السؤال: ما معنى قول الإمام (عليه السلام) في وصف الله تعالى : ((وكيف يوصف بالأشباح، وينعت بالألسن الفصاح؟ من لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن، ولم ينأ عنها فيقال هو عنها بائن))
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
ورد هذا المضمون في جملة من كلمات لأمير المؤمنين (ع) وبألفاظ مختلفة وصيغٍ متعدّدة، كقوله (ع): ((...، مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُقَارَنَةٍ ، وغَيْرُ كُلِّ شَيْءٍ لَا بِمُزَايَلَةٍ...)) [نهج البلاغة ـــ تحقيق صبحي صالح ، الخطبة رقم (1): ص40] ، وأيضًا ((...، داخل في الأشياء لا كدخول شيء في شيء ، وخارج عنها لا كخروج شيء عن شيء )) [مفتاح السعادة في شرح نهج البلاغة لمحمّد تقي النقويّ القاينيّ الخراسانيّ:ج7،ص461] ، ونظيره: ((داخل في الأشياء لا بممازجة، وخارج عن الأشياء لا بمزايلة)) [المصدر السابق:ج7،ص546]، وكذا قوله: ((باطن لا بمداخلة ، ظاهر لا بمزايلة)) [مصباح البلاغة ( مستدرك نهج البلاغة ) للميرجهانيّ:ج1،ص179] ، إلى آخر ما أُثر عنه (عليه السلام) من عبارات تؤدّي معنى واحدًا في الجملة، إذْ يُراد من ورائها بيان وترسيخ عقيدة التوحيد الحقّة كما هي، وردّ ما سواها من العقائد الفاسدة والبدع الكلاميّة الضالة، كالتجسيم والتشبيه، أو الاتّحاد والحلول، ونظائر ذلك.
والكلمة محلّ البحث واردة في موضعين لا بأس بذكرهما لأهمّية ذلك في بيان مراده (عليه السلام):
فأمّا الموضع الأوّل: فما رواه الصدوق (قدّه) من خطبة له (ع) في التوحيد ونفي التشبيه عن الله تعالى بسنده عن أبي المعتمر مسلم بن أوس ، قال : حضرت مجلس عليّ (عليه السلام) في جامع الكوفة، فقام إليه رجل مصفرّ اللون - كأنه من متهوّدة اليمن - فقال: يا أمير المؤمنين، صف لنا خالقك وانعته لنا كأنّا نراه وننظر إليه..!، فسبّح علي (عليه السلام) ربّه وعظّمه عزّ وجلّ، وقال: ((الحمد لله الذي هو أوّل بلا بدئ ممّا ولا باطن فيما ، ولا يزال مهما ولا ممازج مع ما ، ولا خيال وهمّا ، ليس بشبح فيرى ..... إلى أن قال: لا يُدرَكُ بالحواسِّ ، ولا يُقاسُ بالناسِ ، ولا تُدرِكُه الأبصارُ ، ولا تُحيطُ به الأفكارُ ، ولا تُقَدِّرُهُ العُقُولُ ، ولا تَقَعُ عليهِ الأَوهَامُ ، فكلُّ ما قَدَّرَه عقل أو عُرِف له مثل فهو محدود ، وكيف يوصف بالأشباح من لم يحلل في الأشياء فيقال هو فيها كائن ، ولم ينأَ عنها فيقال هو عنها بائن...))[توحيد الصدوق باب التوحيد ونفي التشبيه:ص79]
وأمّا الموضع الثاني: فما جاء عن طرق العامّة من جواب له (عليه السلام) لبعض مسائل اليهود في الكوفة ، إذْ قال: (( مَعشَرَ اليَهودِ ، اسمَعوا مِنّي ولا تُبالوا ألّا تَسأَلوا أَحَداً غَيري : إنَّ رَبّي عزّ وجلّ هُوَ الأَوَّلُ لَم يَبدُ مِمّا ، ولا مُمازِجٌ مَعَ ما ، ولا حالٌّ وَهماً ، ولا شَبَحٌ يُتَقَصّى ، ولا مَحجوبٌ فَيُوحى ، ولا كانَ بَعدَ أن لَم يَكُن فَيُقالَ حادِثٌ ، بَل جَلَّ أن يُكَيِّفَ المُكَيِّفُ للأَشياءِ كَيفَ كانَ ، بَل لَم يَزَل ولا يَزولُ لاِختِلافِ الأَزمانِ ، ولا لِتَقَلُّبِ شان بَعدَ شان . وكَيفَ يوصَفُ بِالأَشباحِ وكَيفَ يُنعَتُ بِالأَلسُنِ الفِصاحِ مَن لَم يَكُن فِي الأَشياءِ فَيُقالَ: كائِنٌ ، ولَم يَبِن عَنها فَيُقالَ: بائِنٌ)) [كنز العمّال للمتّقيّ الهنديّ:ج1،ص408 ، وكذا حلية الأولياء لأبي نعيم الأصفهانيّ:ج1،ص129 لكنْ فيه اضطراب هكذا: ((مَن لَم يَكُن فِي الأَشياءِ فَيُقالَ: بائِنٌ ، ولَم يَبِن عَنها فَيُقالَ: كائِنٌ )) وهو خطأ واضح].
فإذا عرفت ذلك، فَهَاكَ شرحاً مفصّلاً لبعض العبارات المهمّة الواردة في السؤال، فمنها:
1- قوله (ع) : "وكيف يوصف بالأشباح"
الأشباح جمع شبح وهو: (شاخص الشيء المرئي من بعيد بنحو يكون له امتداد في الطول والعرض ولكن من دون تمييز لحقيقته ؛ ولذا يحصل الاختلاف فيه بين الناظرين، «ومنه قول العرب: "الحرباء تشبّح على العود" ، أي تمتدّ . وقولهم : "شبحان" أي طويل ، و "رجل شبح الذراعين" أي طويلهما» [صحاح الجوهريّ:ج1،ص377 (بتصرّف)] ، وقيل: سميّت بعض خطبه (ع) بخطبة الأشباح - وهي الخطبة الواردة تحت الرقم (91) في نهج البلاغة ـــــ لطولها وامتدادها. [انظر معارج نهج البلاغة لعليّ بن زيد البيهقيّ:ص169]. وكيفما كان الأمر، فحاصل مراده (ع) في مورد السؤال: هو أنّ الله تعالى لا يمكن للعقول مهما بلغت من الحكمة والعلم والمعرفة أن تتصوّره ولو على نحو الشبح الموهوم أو المتخيّل أو المقيس إلى غيره، ويشهد لهذا المعنى ما في كلامه (ع) في الموضع الأوّل بدءًا بقوله: "لا يُدرَكُ بالحواسِّ" وانتهاءً بقوله: "فكلُّ ما قَدَّرَه عقل أو عُرِف له مثل فهو محدود".
والسرُّ فيه: هو أنّ الشبح يمكن تقصّي حقيقته والوقوف على كنهه إلّا أنّ ذلك منحصر في المرئيّات أي الجسمانيّات من الممكنات، فلا يمكن فيه تعالى لتنزّهه عن الجسمانيّة؛ فلذا قال (ع) : (ليس بشبح فَيُرى) و (ولا شبحٌ يُتَقصَّى).
2- قوله (ع) : "وكَيفَ يُنعَتُ بِالأَلسُنِ الفِصاحِ"
إذْ لا يخفى عليك أنّه بعد أن انحسرت العقول عن كنه معرفته وتصوّره تعالى بالكيفيّات المتقدّمة، فقد كلّت الألسن عن صفته ولم يمكن لها نعته ابتداءً، قال الإمام زين العابدين (ع) : ((اللّهُمّ أنت الذي عجزت الأوهام عن الإحاطة بك ، وكلّت الألسنُ عن صفةِ ذاتك)) [الصحيفة السجّاديّة (أبطحي) من دعائه (ع) في يوم الإثنين:ص546] ؛ وذلك لأنّ نعت الشيء فرع الوقوف على حقيقته والإحاطة به ولو من بعض الجهات ؛ ولهذا كانت أسماؤه وصفاته تبارك وتعالى توقيفيّة فلا يصحّ لنا إطلاق شيء منها عليه إلّا إذا كان قد وصف ذاته المقدّسة به، ولا ينافي ذلك إمكان الإيمان به والتصديق بوجوده، فقد يتعقّل الإنسان الكثير من المعاني ويقطع بثبوتها إلّا أنّه يعجز عن وصفها وتعريفها، وذلك كعدم إمكاننا تعريف الوجود المفاض علينا من قِبله تعالى، أو جهلنا بمعنى الحياة التي ننعم بها، أو خفاء حقيقة الروح علينا.
3- قوله (ع) : "مَن لَم يَكُن فِي الأَشياءِ فَيُقالَ: هو فيها كائِنٌ ، ولَم يَنأَ عَنها فَيُقالَ: هو عنها بائِنٌ".
فقد عرفت أنّ المراد من وراء هذا التعبير ونظائره نفي الجسميّة والحلول والاتّحاد ولوازمها ، وبايّ تعبير منها أخذت فالمعنى واحد ، وهو أنّه تعالى لم يكن داخلًا في الأشياء الممكنة والحادثة بأي نحو من أنحاء دخول بعضها ببعض، وإلّا كان شيئًا ممكنًا وحادثًا مثلها، الأمر الذي يلزم منه منافاته لوجوب وجوده، ولقوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] ؛ ومن ثَمَّ لا يقال عنه تعالى: "إنّه كائن فيها"؛ لأنّ الكينونة تعني إمّا الزمان والحدوث معًا فيما لو كانت مفاد كان التامّة ، أو الزمان فقط على تقديرها ناقصة، وكلاهما - أعني الزمان والحدوث - من شؤون الممكن، وإنّما دخوله في الأشياء متحقّق بقاهريّته وحاكميّته عليها، وبعلمه وإحاطته بها، وبقدرته وربوبيّته لها، أي بقيّوميّته التي تفتقر إليها جميع الممكنات حدوثًا وبقاءً ، والتي بها يمسك السماء أن تقع على الأرض ويرزق ويخلق ويحي ويميت وما إلى ذلك.
ومن هنا لم يكن تعالى مباينًا لتلك الأشياء بمثل مباينتها لبعضها البعض، أيْ ليس خارجًا عنها خروج الشيء عن الشيء ؛ وإلّا عادت اللوازم المذكورة وانتهى الأمر إلى إمكانه تعالى ، فضلًا عن استلزامه فناء تلك الممكنات لتقوّمها به تعالى، وهو مِـمّا ينافي الحكمة من إيجادها، ويستلزم العبثيّة المنزّه عنها تعالى، أو استقلالها عنه تعالى، وذلك ممنوع؛ لكونه تعالى علّة حقيقيّة لا مُعِدّة، أو يقتضي القول بالتفويض، وهو في منتهى الفساد، وإنّما المباينة بينه تعالى وبينها حاصلة من جهتين:
إحداهما: امتيازه عنها وعدم مشابهته لها في ذاته وصفاته وسائر خصائصه التي ليس للأشياء حظٌّ منها ، كما جاء في صحيحة زرارة بن أعين قال: (( سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: "إنّ الله خِلْوٌ من خلقه وخلقه خِلْوٌ منه، وكلّ ما وقع عليه شيء ما خلا الله فهو مخلوق والله خالق كلّ شيء، تبارك الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير"))[الكافي للكلينيّ ، (باب: إطلاق القول بأنّه شيء):ج1، ص83] ، «فالخلو هو الخالي، يقال: فلان خلوٌ من كذا أيْ خالٍ بريء منه، والمعنى أنّ بينه وبين خلقه مباينة في الذَّات والصفات لا يتّصف كلُّ واحد منهما بصفات الآخر».[شرح أصول الكافيّ للمولى محمّد بن صالح المازندرانيّ، (باب: إطلاق القول بأنّه شيء):ج3،ص36]
والأخرى: في قهره لها وحاكميّته وقدرته عليها في عين كونها مقهورة له وخاضعة لعظمته وراجعة إليه، كما قال أمير المؤمنين(ع) : ((...، بَانَ مِنَ الأَشْيَاءِ بِالْقَهْرِ لَهَا والْقُدْرَةِ عَلَيْهَا ، وبَانَتِ الأَشْيَاءُ مِنْه بِالْخُضُوعِ لَه والرُّجُوعِ إِلَيْه...)) [نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، الخطبة (152) في صفات الله تعالى وصفات أئمّة الدّين:ص212]
وبهذا الصدد قال المازندرانيّ: (( "داخل في الأشياء" بالعلم والإحاطة بكلّيّاتها وجزئيّاتها وكيفيّاتها والتصرُّف كيف يشاء. ولمّا كان المتبادر من الدُّخول هو الظرفيّة والحلول أشار إلى تقدُّسه عن هذا المعنى بقوله: "لا كشيء داخل في شيء" أيْ لا كدخول الممكنات بعضها في بعض كدخول الجزء مثلاً في الكلِّ ودخول الحالِّ في المحلِّ ودخول الجسم في المكان، فإنَّ الدُّخول بهذا المعنى من لواحق الإمكان وتوابع الافتقار وهي على واجب الوجود لذاته محالٌ. "وخارج من الأشياء" المراد بخروجه منها مباينة ذاته المقدَّسة وصفاته الكاملة عن مشابهة شيء منها. ولمّا كان المتبادر من خروج شيء من شيء اختصاصه بالوضع والتحيّز وخروج الجسم والجسمانيّ من مكانه نزَّهه تعالى عن هذا المعنى بقوله: "لا كشيء خارج من شيء" كخروج الجسم من مكانه وخروج الحالِّ من محلّه وخروج ذي الهيئة من هيئته إلى هيئة اُخرى، فإنَّ أمثال ذلك من خواصِّ الإمكان....)) [شرح أصول الكافي للمولى محمّد صالح المازندرانيّ، (باب: أنّه تعالى لا يُعرف إلّا به):ج3،ص86].
وعن النائينيّ قال: (( وقوله: "داخل في الأشياء" أي لا يخلو شيء من الأشياء ولا جزء من أجزائه بالغاً ما بلغ كيف بلغ عن تصرّفه وحضوره العلميّ، لا كدخول الممكنات في الأمكنة ، ولا كدخول الجزء في الكلّ، ولا كدخول العارض في المعروض.
والحاصل: أنّ دخول المادّيات بعضِها في بعض بحسب قرب الأمكنة والاتّصالات والأوضاع الجرمانيّة، ودخولَ المهيّات بعضِها في بعض دخول الجزء في الكلّ، أو دخول العارض في المعروض، وقرب المجرّد المفارق عن المادّة قربٌ بحسب الحضور العلميّ والاتّصالات العقليّة، فهو داخل حاضر في الأشياء بعلمه بها، خارج من الأشياء، بتعالي ذاته عن ملابستها ومقارنتها، والاتّصاف بصفتها، والائتلاف منها، لا كخروج شيء من شيء بالبُعد المكانيّ، أو المحلّيّ، أو التحدّد بحدود مختلفة يوجب خروج شيء من شيء مع التشارك في المهيّة الإمكانيّة، بل لتعاليه عن المهيّة المغايرة للوجود)). [الحاشية على أصول الكافي لمحمّد بن حيدر النائيني: ص385].
هذا بإيجاز تمام ما يمكن تحريره في المقام من بيان للمعنى المذكور، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين...، ودمتم سالمين.
اترك تعليق