في حديث الرزية لماذا لم يكتب رسول الله (ص) الكتاب بعد تلك الحادثة؟

السؤال: هل يصدق على رسول الله (ص) الذي لا ينطق عن الهوى أن يأمر بكتابة العلم ولا يكون هو أوّل من يكتب؟! كذلك قول النبيّ (ص) عن هذا الكتاب بأنّ القوم لا يضلّون بعده أبدا، فهذا الكتاب كتاب هداية أبديّة. أكان بعث النبيّ (ص) للهداية أم لإضلال الناس؟ فمن يقول: إنّه لم يكتب الكتاب يكون قد اتّهم رسول الله صلّى الله عليه وآله بأنّه أضل الناس، وتلك لعمري رزية ما بعدها رزيّة ؟!

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

يشير السائل إلى في سؤاله إلى الحديث المعروف الذي أمر فيه رسول الله (ص) بكتف ودواة ليكتب لهم كتاب لن يضلّوا بعده أبداً، وقد حصل جدل بين الصحابة الذين كانوا معه بين من يقول: أحضروا له كتاباً، وبين من يمتنع عن ذلك بقوله: إنّ النبيّ غلب عليه الوجع أو أن النبيّ يهجر حسبنا كتاب الله، فلمّا اشتدّ الجدل واللّغط في حضرة رسول الله (ص) طردهم من مجلسه وقال: قوموا عنّي لا ينبغي عند النبيّ التنازع.

وقد جاء هذا الحديث في الصحيحين وغيرهما بروايات متعدّدة، فمنها ما أخرجه البخاري عن ابن عباس قال: لما حضر رسول الله (ص)، وفي البيت رجال منهم عمر بن الخطاب، قال النبيّ: "هلمّ أكتب لكم كتاباً لا تضلّوا بعده" فقال عمر: إنّ النبيّ قد غلب عليه الوجع وعندكم القرآن حسبنا كتاب الله، فاختلف أهل البيت فاختصموا، منهم من يقول: قرّبوا يكتب لكم النبيّ كتاباً لن تضلّوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلمّا أكثروا اللّغو، والاختلاف عند النبيّ. قال رسول الله (ص): "قوموا" قال عبيد الله: فكان ابن عباس يقول: إنّ الرزيّة كلّ الرزيّة، ما حال بين رسول الله، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب من اختلافهم، ولغطهم. وفي رواية في الصحيحين عنه أيضاً قال: ... "فتنازعوا، ولا ينبغي عند نبيّ نزاع، فقالوا: ما له أَهَجَر: استفهموه، فقال: "ذروني، فالذي أنا فيه خير ممّا تدعونني إليه." [صحيح البخاريّ - كتاب العلم، وكتاب المغازيّ، وكتاب الأشربة، وكتاب الاعتصام بالكتاب والسنّة، وأخرجه مسلم في كتاب الوصيّة].

وعليه فأصل الرواية من مرويات أهل السنّة، وهي صحيحة عندهم بالإجماع، ولم نسمع بمن شكّك في صحّتها من العلماء المتقدّمين أو المتأخرين، والرواية واضحة في مخالفة بعض الصحابة لأمر رسول الله (ص)، وواضحة أيضاً في اتّهام عمر له بالهجر والخرف، كما أنّ قول عمر: حسبنا كتاب الله؛ فيه إشارة واضحة على أنّ الرجل يرفض كلّ شيء من رسول الله غير القرآن الكريم، وقد وقع علماء أهل السنّة في حرج شديد فيما يتعلّق بهذه الرواية، وسعوا بكلّ جهدهم لتبرئة عمر، وتقديم العذر له، إلّا أنّ كلّ هذه المحاولات باءت بالفشل؛ لأنّها مجرّد محاولات عاطفيّة تنطلق من صورة مثاليّة للصحابة، فكلمات الرواية ونصّها لا يقبل مثل هذه التبريرات التبرعيّة، كما أنّ بكاء ابن عباس عند ذكره لهذا الخبر ووصفه للحادثة بالرزيّة خير دليل على عظيم ما ارتكبه بعض الصحابة في حقّ رسول الله (ص).

فكلّ ما قيل من أعذار لما فعله عمر بن الخطاب هو أنّ عمر كان مشفقاً لوضع رسول الله (ص) ولم يرد أن يثقل عليه، وهو في تلك الحالة، يقول ابن حجر في الفتح: كان عمر فهم من ذلك أنّه يقتضي التطويل، قال القرطبي وغيره: ائتوني أمر، وكان حقّ المأمور أن يبادر للامتثال، لكنْ ظهر لعمر مع طائفة أنّه ليس على الوجوب، وأنّه من باب الإرشاد إلى الأصلح، فكرهوا أن يكلّفوه من ذلك ما يشقّ عليه في تلك الحالة مع استحضارهم قوله تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) [الأنعام:38]. وقوله تعالى: (تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ) [النحل: 89]. ولهذا قال عمر: حسبنا كتاب الله" (فتح الباري ج 1 ص 186).

وفي مقابل هذا التبرير البارد، وقف علماء الإماميّة موقف الحقّ كما هو معهودٌ عنهم، في بيان ما يقتضيه هذا الحديث، وكشفوا حقيقة الرافضين لهذا الكتاب، فحمّلوا عمر بن الخطّاب ومن تبعه في ذلك كلّ ما لحق بالإسلام من آثار سيّئة، وضياع للأمّة، إذْ يقول أحد علمائهم في هذا الصدد: ((والحقّ أنّ موقف عمر كان رزيّة كبيرة تسبّبت في تعويق مسيرة الإسلام وضياع الأمّة وشتاتها بين الحكام والفقهاء وأهل الأهواء. وهو فعل يضاف إلى سيّئات الرجل وليس محمدة له كما يحاول فقهاء التبرير تصوير ذلك.

والعقل لا يقبل أن يحمل مثل هذا السلوك من قبل عمر على محمل الخير. فأيّ خير في معارضة نبيّ؟

وإذا اعتبرناه مجتهداً فهل يحقّ له الاجتهاد على أمر رسول الله..؟

وقول عمر: حسبنا كتاب الله قول مغرض. فهو لم يكن من الحافظين لكتاب الله، المسلمين بأحكامه، وإن كان مخترعو الأحاديث وفقهاء التبرير قد حاولوا أن يضفوا عليه صفة الفقيه المجتهد.

ويدلّ على ذلك موقفه بعد وفاة الرسول (ص) حين ادّعى عدم موته وهدّد القائلين بموته وهو موقف لا ينمُّ عن علمه بطبيعة الرسالة ودور الرسول. ولم يتّخذ هذا الموقف أحد سواه حتّى جاء أبو بكر ففقّهه بالآية. فقال: كأنّي أسمعها أوّل مرّة..

إنّ موقف عمر ومن حالفه إنّما يشير إلى أنّ هناك جبهةً من الصحابة كانت ضدّ كتابة الوصيّة وموقف هذه الجبهة إنّما ينبع من يقينها أنّ هذه الوصيّة ليست في صالحها. إذْ لا يعقل أن ترفض أمّة وصيّة نبيّها في احتضاره وهي تعلم أنّه خاتم الرسل. فإنّ عدم وجود رسل من بعده يجعل الحاجة لهذه الوصيّة أشدّ وأكثر مصيريّة...

لقد مرض أبو بكر مرضا شديدا قبل أن يموت، وقبل وفاته بقليل دعى عثمان ليكتب له توجيهاته النهائيّة، وأصغى المسلمون لأبي بكر ونفّذوا توجيهاته النهائيّة بدقّة، وعاملوه بكلّ احترام وتوقير، ولم يقل أحد منهم: إنّ أبا بكر قد هجر، ولا قالوا: حسبنا كتاب الله.

وعندما كتب أبو بكر توجيهاته النهائيّة كان عمر يقول: أيّها الناس: اسمعوا، وأطيعوا قول خليفة رسول الله...

فهل لأبي بكر قيمة وقداسة عند عمر وحزبه أكثر من قيمة الرسول وقداسته؟! أجب كما يحلو لك فإنّه الواقع المر.

ثمّ انظر إلى موقف المسلمين عند طعن عمر، وأراد أن يكتب توجيهاته النهائيّة وقد اشتدّ به المرض أكثر مما اشتدّ برسول الله. ومع هذا كتب عمر توجيهاته، وعهد للستّة نظريّا، وعهد لعثمان عمليّا، وأمر بضرب عنق من يخالف تعليماته النهائيّة.

وصارت توجيهات أبي بكر وعمر شرعا سياسيّا نافذا لم يقل أحد إنّ عمر قد هجر!! ولم يقل أحد: حسبنا كتاب الله. إنّما عومل عمر بكلّ تقديس واحترام ونقلت توجيهاته النهائيّة حرفيّا كأنّها كتاب منزل من عند الله وأكثر)). (مع رجال الفكر للسيّد مرتضى الرضويّ ج2 ص 120 –123).

فإذا تقرّر ذلك، فالواضح من الرواية أنّ رسول الله (ص) جمع المخالفين لإمامة عليّ بن أبي طالب (ع) وإلزامهم بقبول إمامته من خلال كتابة هذا الكتاب بمحضرهم، فيكون المقصودين بهذا الكتاب هم جماعة بعينها، وهم الذين قادوا التمرّد والانقلاب بالفعل بعد وفاة رسول الله (ص) في سقيفة بني ساعدة ونصبوا أبي بكر خليفة! ورسول الله (ص) لم يدفن بعد.

وعليه: فليس هناك أيّ معنى لما طرحه السائل من أسئلة، إذْ إنّ رسول الله (ص) أراد بهذا الكتاب تثبيت حقّ أمير المؤمنين (ع) لجماعة بعينها، وتلك الجماعة أحدثت تلك الجلبة واللّغو في محضر رسول الله (ص) واتّهمته بالهجر والخرف، حتّى تمنعه من كتابة هذا الكتاب.

وفي المحصّلة: أنّ السبب الرئيس الذي جعل رسول الله (ص) لا يكتب هذا الكتاب، يكمنُ فيما صدر من أولئك الجماعة الذين فهموا قصد رسول الله (ص) من هذا الكتاب، فمنعوه من كتابته باتّهامه بالهجر! [حاشاه من ذلك]، وهو - كما يفهم العقلاء - اتّهامٌ خطير لا يمكن معه الإصرار على تدوين الكتاب. فتدبّر.