شبهة المنافاة بين وجود الحق سبحانه وبين نفي الجسمية ولوازمها عنه تبارك وتعالى

السؤال: الشيعة تقول: إنّ الله ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيّز ومع هذا فإنّه لا يجوز أن يكون فوق غيره ولا تحته، ولا عن يمينه ولا عن يساره ولا أمامه ولا وراءه وإنّه لا يكون مجامعا له ولا مفارقا له ولا قريبا منه ولا بعيدة عنه ولا متّصلا به ولا منفصلا عنه ولا مماسّا له ولا محايثا له وأنّه لا يشار اليه بأنّه هنا أو هناك ولا يشار إلى شيء منه دون شيء ولا يرى منه شيء دون شيء ونحو ذلك من الأوصاف السلبيّة ... ، وهذه الصفات يتّصف بها المعدوم لا الموجود وهذا ما يحكم به العقل .فإنّ هذه الصفات لا يصحّ إطلاقها للموجود، هذه الصفات هي التي تصدُّ القلوب عمّا فطرت عليه..!.

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

للإجابة عن السؤال المذكور لا بدّ من ملاحظة ما يلي:

أوّلًا: أنّ ما ذكر في السؤال من ذهاب الشيعة إلى القول بنفي الجسميّة ولوازمها المذكورة أمر صحيح لكنّه غير منحصر بهم بل هو عقيدة بقيّة أكثر المذاهب الإسلاميّة الأخرى كما سيتّضح ، وما جاء فيه إنّما هو حاصل شبهة عرضت لابن تيميّة أفضت به إلى مخالفة المسلمين والقول بالتجسيم. [ٱنظر نصّ كلامه في كتابه بيان تلبيس الجهميّة في تأسيس بدعهم الكلاميّة لابن تيميّة الحراني:ج2،ص364] ، وذلك لاعتقاده بالمساوقة وتساوي النسبة بين الجسميّة والوجود كما صرّح به في بعض كتبه فقال: ((ومعلوم أنّ كون البارئ ليس جسمًا ليس هو ممّا تعرفه الفطرة والبديهة ....، وطوائف كثيرة من أهل الكلام يقدحون في ذلك كلّه، ويقولون: بل قامت القواطع العقليّة على نقيض هذا المطلوب، وأنّ الموجود القائم بنفسه لا يكون إلّا جسمًا، وما لا يكون جسمًا لا يكون إلّا معدومًا. ومن المعلوم أنّ هذا أقرب إلى الفطرة والعقول من الأوّل..!.)) [بيان تلبيس الجهميّة في تأسيس بدعهم الكلاميّة لابن تيميّة الحرّانيّ:ج1،ص359]

ثانيًا: إنّ عقيدة المسلمين ــــــ ومنهم الشيعة ـــــ بتنزيه الباري تبارك وتعالى عن الجسميّة ولوازمها إنّما تستند إلى الأدلّة القطعيّة الواضحة التي تحصّلت بين أيديهم من العقل والنقل:

فأمّا الدليل العقليّ: فهو حكم العقل والواقع بأنّ كلّ جسم إنّما يتركّب من أجزاء ولا يمكن حصوله في الخارج من دونها ، كما أنّه يحتاج إلى المكان الذي متى حلّ فيه فقد خلا منه المكان الآخر ، فلو كان الله تعالى جسمًا لكان محتاجًا إلى أجزائه ، وإلى المكان فيصير حينئذٍ مثل مخلوقاته ممكنًا ؛ لأنّ الافتقار والحاجة هما عين الإمكان ، فكلّ فقير ممكن ، وكلّ ممكن فقير كما تقرّر في محلّه من فنّ المعقول ، ولو كان جسمًا لما صحّ أن يكون إلهاً ؛ لأنّ الإله لا يغيب عن مخلوقاته فيكون في مكان دون آخر.

وأما الدليل النقليّ: فمنه قوله تعالى: (لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) [لقمان: 26] فهو صريح في أنّه تعالى غنيّ وليس فقيرًا ، بل غناه تعالى غنىً مطلق أيْ من جميع الجهات ، ولهذا توعّد سبحانه من نسب إليه الفقر بالعذاب كما في قوله عزّ وجلّ: (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [آل عمران: 181].

ومنه كذلك قوله تعالى: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ) [الرحمن: 78] القاضي بوجوب تنزيهه وإجلاله عن كلّ نقص وحاجة لأنّ ذلك سمة الممكن ، ومن هنا ٱتّفقت كلمة الحكماء والمتكلمين على أنّ الجامع لنفي الصفات السلبيّة عنه سبحانه هو نفي الإمكان عنه لاستلزامه النقص والفقر والاحتياج.

وكذلك قوله تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) [الشورى: 11] ، ووجه الاستدلال به أنّه متى كان وجود المولى تبارك وتعالى وجودًا مادّيًا جسمانيًا فقد صار له مثلٌ بلا إشكال ولم يفرق حينئذٍ عن سائر المخلوقات الماديّة ، وهذا ما منعه إجماع علماء الأمّة ؛ لمنافاته صريح الآية المذكورة فإنّ الله لا مثل له ولا شبه، بل حتّى ابن تيميّة نفسه يمنع من تشبيهه وتمثيله تعالى بخلقه، إذْ يقول: ((((.... فَإِذَا أَثْبَتَ لِلَّهِ تَعَالَى الصِّفَاتِ وَنَفَى عَنْهُ مُمَاثَلَةَ الْمَخْلُوقَاتِ - كَمَا دَلَّ عَلَى ذَلِكَ الْآيَاتُ الْبَيِّنَاتُ - كَانَ ذَلِكَ هُوَ الْحَقَّ الَّذِي يُوَافِقُ الْمَعْقُولَ وَالْمَنْقُولَ ، وَيَهْدِمُ أَسَاسَ الْإِلْحَادِ وَالضَّلَالَاتِ ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ لَا تُضْرَبُ لَهُ الْأَمْثَالُ الَّتِي فِيهَا مُمَاثَلَةٌ لِخَلْقِهِ فَإِنَّ اللَّهَ لَا مَثِيلَ لَهُ ؛ بَلْ لَهُ "الْمَثَلُ الْأَعْلَى" فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُشْرَكَ هُوَ وَالْمَخْلُوقَاتُ فِي قِيَاسِ تَمْثِيلٍ ، وَلَا فِي قِيَاسِ شُمُولٍ تَسْتَوِي أَفْرَادُهُ وَلَكِنْ يُسْتَعْمَلُ فِي حَقِّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى ، وَهُوَ أَنَّ كُلَّ مَا اتَّصَفَ بِهِ الْمَخْلُوقُ مِنْ كَمَالٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِهِ ، وَكُلَّ مَا يُنَزَّهُ عَنْهُ الْمَخْلُوقُ مِنْ نَقْصٍ فَالْخَالِقُ أَوْلَى بِالتَّنْزِيهِ عَنْهُ....!)) [مجموع الفتاوى لابن تيميّة:ج3،ص30] ، فانظر إلى شدّة التهافت والتناقض بين كلامه هذا وبين اعتقاده بالتجسيم ودفاعه عنه...! ؛ لتعلم أنّ الرجل إمّا جاهلٌ بالمطالب العلميّة المعقولة والمنقولة ، أو متجاهلٌ لها ومستهدفٌ لضرب عقيدة التوحيد، وليس غير.

ثالثًا: بخصوص ما تضمّنه السؤال من دعوى كون هذه الصفات متى تمّ نفيها كانت صفاتٍ لمعدوم لا لموجود وأنّ ذلك هو حكم العقل والعقلاء...! ، فهي في الحقيقة دعوى غريبة لابتنائها على المساواة بين الوجود والجسميّة ، وهذه مصادرة واضحة فإنّ إجماع الحكماء مع الأعمّ الأغلب من المذاهب الكلاميّة للمسلمين يذهبون إلى انقسام الموجودات إلى: موجودات مادّية محكومة بجميع قيود ولوازم المادّة من الجسميّة والمحلّ والجهة والإشارة إليها ونحو ذلك، وموجودات مجرّدة عن جميع تلك القيود واللوازم ، وأظهر تلك الموجودات المجرّدة على الإطلاق وجود الباري سبحانه وتعالى، وبذلك يتّضح زيف ما في السؤال من نسبة عقيدة التنزيه عن الجسميّة لخصوص الشيعة دون المذاهب الأخرى...!. هذا ، ودمتم سالمين.