هل القول بالرجعة مخالف للقرآن؟

السؤال: يعتقد الشيعة بالرجعة مع أنّ الله تعالى يقول في كتابه: (قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) (المؤمنون : 99-100 ).فقول الله: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) صريح في نفي الرجعة مطلقًا. وقال سبحانه: (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنْ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ) (يس: 31)...

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

الرجعة في مدلولها العقائديّ تعني رجعة بعض الأموات - وليس جميعهم - إلى الدنيا قبل يوم الحساب، وقد اختصّ الشيعة بهذا الاعتقاد دون غيرهم من المذاهب، وهو ممّا جعلهم عرضة للهجوم والاستهجان من قبل المخالفين، والمتصفّح لكتب العقائد والنحل يجد سيلاً من الاستخفاف والاستهزاء بهذه العقيدة، وقد عدّ بعض علماء الجرح والتعديل مجرّد القول بالرجعة كافياً للطعن في رواية الراوي، وقد ساعدت الأنظمة التاريخيّة التي حكمت العالم الإسلاميّ على نشر هذه التهم وترويجها، وهو ممّا أخرجها من إطار البحث إلى إطار التهكّم، وهو أوّل انحراف للمسار الطبيعيّ لدراسة الرجعة.

وقبل مناقشة الرجعة في إطار الأدلّة الشرعيّة، يجب أن نختبر هذه العقيدة على المستوى الإمكان العقليّ، ولمعرفة ذلك لا بدّ أن نطرح على العقل سؤالاً يتضمّن المحتوى الداخليّ لهذه العقيدة.

فنقول: هل من الممكن عقلاً أن يرجع الإنسان إلى الحياة في هذه الدنيا وقبل يوم القيامة بعد أن يموت ويقبر، أو أنّ ذلك مستحيل عقلاً؟

وقبل أن نجيب، لا بدّ أن نعرف متى يحكم العقل باستحالة تحقّق شيء ما؟ إذْ إنّ العقل لا يحكم باستحالة تحقّق الشيء، إلّا إذا كان في تحقّقه اجتماعاً للنقيضين، فيحكم مثلاً باستحالة اجتماع النور والظلمة، الموت والحياة، الوجود والعدم، الخير والشرّ ... في موضع واحد، وزمن ولحاظ واحد؛ لأنّه سيفضي إلى اجتماع المتناقضين، وهو محال.

وبناءً على ذلك لا يرى العقل أيّ محال في رجعة الإنسان إلى دار الدنيا بعد مماته، فرجوع الميّت إلى الدنيا لا يؤدّي إلى اجتماع المتناقضين ولو كان عبر عشرين واسطة، فالعقل لا يرى أيّ تناقض في وجود الإنسان في هذه الدنيا بعد أن كان عدماً، ولا يرى أيّ تناقض في خروجه من قبره حيّاً يوم القيامة، فكيف يحكم بتناقض رجوعه إلى الدنيا بعد موته وقبل يوم القيامة؟ فلو كان ذلك محالاً عقلاً، لكان رجوعه يوم القيامة محالاً أيضاً، فالعقل هنا هو نفسه هناك، لا فارق بين الأمرين.

وعليه: فمن جهة العقل لا يرى أيّ محال في رجوع الإنسان إلى الدنيا بعد موته، وإذا ثبت هذا الإمكان على المستوى النظريّ؛ لا يبقى حينها أيّ مبرّر للاستغراب والاستهجان إلّا بحكم العادة والأُلفة، وهو الأمر الذي لا يُعوَّل عليه عند الاستدلال والبرهنة، فقد يرفض الإنسان كثيراً من الحقائق لكونها غير مألوفة لديه، ولكن هذا الرفض لا يعني أبداً عدم وجودها أو عدم إمكانيّتها، فهناك فارق بين حكم العقل الذي يرى الأشياء كما هي، وبين حكم النفس التي ترى الحقائق من خلال البعد الشخصيّ والتجربة الذاتيّة.

وأمّا الرجعة على مستوى الادلّة الشرعيّة والكلام عن حصولها عمليّاً بشهادة القرآن الكريم، فهناك بعض الآيات التي تؤكّد رجوع بعض الأموات إلى الدنيا بعد موتهم، نشير هنا إلى بعض النماذج.

1- قصّة عزير (ع) الذي مرّت على وفاته عشرات السنيين، ثمّ عاد للحياة من جديد، لهي دليل واضح على تحقّق الرجعة عملاً. قال تعالى: (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْ‏ءٍ قَدِيرٌ) (سورة البقرة/259)

2- رجوع السبعين رجلاً من أصحاب موسى (ع): قال تعالى: (وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ). (البقرة/ 55)

3- آلاف من الناس أحياهم الله من بعد مماتهم: قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (البقرة/ 243)

قال ابن جرير الطبريّ عند تفسيره لهذه الآية في تفسيره جامع البيان: عن ابن عباس في قوله: (ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت)، كانوا أربعة آلاف، خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس فيها موت، حتّى إذا كانوا بموضع كذا وكذا، قال لهم الله: موتوا!، فمرّ عليهم نبيّ من الأنبياء، فدعا ربّه أن يحييهم، فأحياهم، فتلا هذه الآية: (إِنَّ اللهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ) (تفسير الطبريّ جامع البيان ج2 ص 793).

وقال في موضع آخر في تاريخه: حتّى إذا هلكوا وبليت أجسادهم، مرّ بهم نبيّ يقال له حزقيل، فلمّا رآهم وقف عليهم، فجعل يتفكّر فيهم، ويلوي شدقيه وأصابعه، فأوحى الله إليه: يا حزقيل، أتريد أن أريك فيهم كيف أحييهم؟ - قال: وإنّما كان تفكّره أنّه تعجّب من قدرة الله عليهم، - فقال: نعم، فقيل له: ناد فنادى: يا أيّتها العظام إنّ الله يأمرك أن تجتمعي!، فجعلت تطير العظام بعضها إلى بعض حتّى كانت أجسادا من عظام، ثمّ أوحى الله إليه أن ناد يا أيّتها العظام، إنّ الله يأمرك أن تكتسي لحماً! فاكتست لحماً ودماً وثيابها التي ماتت فيها وهي عليها، ثمّ قيل له: ناد! فنادي: يا أيّتها الأجساد إنّ الله يأمرك أن تقومي، فقاموا) (تاريخ الطبريّ ج1 ص 323).

وهذه الرواية تحكي بشكل مفصّل، حدوث الرجعة لمجموعة كبيرة من الناس، أماتهم الله عزّ وجلّ، ثمّ أحياهم بعد أن أصبحوا عظاماً نخرة تذروها الرياح، وفي روايات أهل البيت (ع) أسكنهم الدور بعد أن أحياهم، ففي تفسير العياشيّ عن حمران بن أعين عن أبى جعفر عليه السلام قال : قلت له حدّثني عن قول الله: (ألم ترَ إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثمّ أحياهم)، قلت: أحياهم حتّى نظر الناس إليهم ثمّ أماتهم من يومهم، أو ردّهم إلى الدنيا حتّى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء؟، قال: بل ردّهم الله حتّى سكنوا الدور وأكلوا الطعام ونكحوا النساء، ولبثوا بذلك ما شاء الله ثمّ ماتوا بآجالهم) (تفسير العياشيّ ج1 ص 130).

أما ما يثبت حدوث الرجعة في هذه الأُمّة فنكتفي بقوله تعالى: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ) (النمل/ 83)، والحشر في هذه الآية ليس هو حشر يوم القيامة؛ لأنّه حشر مخصوص لبعض الطوائف من كلّ أُمّة، والآية هنا نصٌّ صريحٌ في ذلك، ولا تحتاج إلى إعمال جهد ونظر، فكيف يكون المقصود حشر يوم القيامة والآية صريحة في قولها: (من كلّ أُمّة فوجاً)، وهذا بخلاف حشر يوم القيامة الذي يقول فيه تعالى: (وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً) (الكهف/ 47).

فإذا ٱتّضح كلّ ذلك تتّضح الإجابة عن الإشكال الذي طرحه السائل، فمن يقول بالرجعة لا يقول برجوع جميع الأموات، وإنّما رجوع البعض لحِكمة لا نريد الدخول فيها هنا، وعليه فإنّ الأصل هو عدم رجوع الأموات إلّا لبعض الاستثناءات، كما في النماذج التي أشرنا لها، مثل الذين خرجوا وهم ألوف حذر الموت، فإذا كان رجوع هؤلاء بعد موتهم لا يتعارض مع قوله تعالى: (وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)، كذلك لا يتعارض مع رجوع بعض الأموات في أمّة محمّد (صلّى الله عليه وآله).