كمال توحيده تعالى نفي الصفات عنه..!
السؤال: (( كيف يكون كمالُ توحيد الله تعالى متوقّفًا على نفي الصفات عنه؟ وهذا في كلمات أمير المؤمنين (عليه السلام) في خطبةٍ، حيث قال(عليه السَّلام): " أَوَّلُ الدِّينِ مَعْرِفَتُهُ.. كَمَالُ تَوْحِيدِهِ الْإِخْلَاصُ لَهُ ، وَكَمَالُ الْإِخْلَاصِ لَهُ نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْهُ ، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ؟ )).
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم ..
وبعد..، فإنّ وصف الذات الإلهيّة المقدّسة بصفة معيّنة عند علماء الطائفة له ضابطة تتقوّم بثلاثة أركان تمثّل في حقيقتها الشروط الشرعيّة المعتبرة في إطلاق الصفات والأسماء على الذات المقدّسة، وهي:
الركن الأوّل: هو أن تكون الصفة صفة كمال لائق بالذات المقدّسة؛ لأنّها مجمع الكمالات كلّها، وإلّا فلو كانت الصفة معدودة نقصًا كما في صفات المخلوقين كالفقر والجهل مثلًا، أو مستلزمة للنقص كوصفه جلّ وعلا بالشابّ الأمرد المستلزم للإمكان لعدم لياقته إلّا بالممكنات، فإنّه يمتنع حينئذٍ وصفه تعالى بها؛ لوجوب تنزيهه عن كلّ نقص، بل قيل بعدم جواز التوقّف فيه.
قال في الإلهيّات: ((..، وأمّا تنزيهه سبحانه عن كلّ شين وعيب، وعن كلّ ما يناسب صفة المخلوق فليس ذلك أمراً توقيفيّاً، والتوقّف حتّى في تنزيهه سبحانه عن صفات المخلوقين، ونقص الممكنات، ليس أمراً توقيفيّاً، وإلّا لكان معنى ذلك تعطيل باب المعارف. ومن يتوقّف في تنزيهه عن هذه الصفات غير المناسبة لساحته سبحانه فهو معطِّل في باب المعرفة، عِنّينٌ في ذلك المجال، قال سبحانه: "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ" [الأنعام:91]. وعلى ذلك يترتّب نفي كلّ صفة تناسب صفة الممكنات وكلّ نقص لا يجتمع مع الغنى ووجوب الوجود))[الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل تقريرا لمحاضرات الشيخ السبحانيّ، بقلم الشيخ حسن بن محمّد مكّي العامليّ:ص452].
الركن الثاني: أن تكون الصفة عين الذات الإلهية، وكذلك قديمة بقدم الذات، لا أن تكون زائدة عليها، أو قائمة فيها، أو عارضة عليها؛ وإلّا لزم إمّا تعدّد القدماء، وإمّا خلوُّ الذات منها في مرحلة ما قبل الاتّصاف بها.
الركن الثالث: بناءً على القول بأنّ صفاته وأسمائه تعالى توقيفيّة، يجب أن تكون الصفة ثابتة إمّا بطريق العقل، كضرورة اتّصاف الإله بالحياة والعلم والقدرة ووجوب الوجود والأزليّة والأبديّة ونحوها من الصفات الكماليّة اللائقة به وحده تبارك وتعالى دون خلقه، أو بطريق النقل، كاتّصافه تعالى بأهل الكبرياء والجبروت؛ وإلّا فلا يحقّ لنا تسميته أو وصفه تعالى إلّا بما عُلم إذن الشارع المقدّس به، سواء في القرآن أم على لسان المعصوم (عليه السلام).
فإذا عرفت ذلك، فاعلم أنّ للتوحيد مراتب أربع: ((التوحيد في الذات، وفي الصفات، وفي الأفعال، وفي الطاعة والعبادة))، والثاني منها أخطر من الأوّل ضرورة أنّ الشرك في الذات ممّا ينفيه الدخول في الإسلام، بخلافه في التوحيد الصفاتي فإنّ فيه "الشرك الخفي"، وقد يسقط فيه العالم قبل الجاهل كما يشهد بذلك سقوط المعتزلة بذهابهم إلى نفي واقعيّة الصفات والقول بنيابة الذات عنها، فأرادوا أن يحفظوا وحدة الذات وبساطتها فجرّدوها عن صفاتها..!، ومثله سقوط الأشاعرة باعتقادهم زيادة الصفات على الذات وقِدَمها قِدَم الذات، فكان الناتج تعدّد القدماء، وأشركوا من حيث لا يشعرون. وعليه فإنّ مراد الإمام (عليه السلام) هنا هو الإشارة إلى الركنين الأوّل والثاني، أي أنّ تمام الإخلاص في التوحيد الصفاتي إنّما يتقوّم بنفي صفات المخلوقين عن الخالق؛ ضرورة كونها زائدة عليهم، مغايرة لهم، عارضة عليهم ولاحقة لهم وقائمة فيهم قيام الصفة في الموصوف، وهذا لا يتمُّ إلّا بالاعتقاد بعينيّة الصفات الإلهيّة للذات المقدّسة، فمن أراد كمال الإخلاص لله تعالى في توحيده تعالى فلا بدّ له من تنزيهه جلّ وعلا عن مجانسة الخلق وعن المشابهة لهم في زيادة صفاتهم على ذواتهم، وليس مراده (عليه السلام) هو أنّ كمال الإخلاص نفيها مطلقاً.
وقد نصّ على هذا المعنى كلّ مَن تعرّض لشرح كلام الإمام (ع) من علماء الطائفة، ولنأخذْ نموذجاً من كلماتهم في هذا الصدد، قال العامليّ: ((قال أمير المؤمنين: "وكمال الإخلاص له نفي الصفات (الزائدة) عنه، لشهادة كلّ صفة أنّها غير الموصوف، وشهادة كلّ موصوف أنّه غير الصفة، فمن وصف الله (أيْ بوصف زائد على ذاته) فقد قرنه (أيْ قرن ذاته بشيء غيرها) ومن قرنه فقد ثنّاه، ومن ثنّاه فقد جزّأه ، ومن جزّأه فقد جهله". وفي هذا الكلام تصريح بعينيّة الصفات للذات، وفيه إشارة إلى برهان الوحدة، وهو أنّ القول باتّحاد صفاته مع ذاته يوجب تنزيهه تعالى عن التركيب والتجزئة ونفي الحاجة عن ساحته...)) انتهى ، [الإلهيّات على هدى الكتاب والسنّة والعقل تقريراً لمحاضرات السبحانيّ، بقلم حسن بن محمّد مكّي العامليّ:ص385]
وبالرجوع إلى جميع شروح نهج البلاغة لعلماء الطائفة والوقف على ذلك، سنجد هناك عدّة وجوه يمكن أن تشهد لمراده (عليه السلام) في خصوص هذا المعنى دون غيره، وأبرزها ما يلي:
الأوّل: ما يعرف بقرينة "وحدة السياق" ، أيْ ملاحظة ما قبل وما بعد كلّ كلام مقتَطَع يحتمل عدّة وجوه ومعانٍ ، كما هو الحال فيما نحن فيه، فإنّه وبالعود إلى أصل الخطبة نلاحظ أنّ ما بعد المقطع المذكور يرشد إلى نفي صفات الخلق عن الخالق، وليس نفي مطلق الصفات التي منها ما يليق به تعالى، إذْ يقول (عليه السلام):(( وكَمَالُ الإِخْلَاصِ لَه نَفْيُ الصِّفَاتِ عَنْه، لِشَهَادَةِ كُلِّ صِفَةٍ أَنَّهَا غَيْرُ الْمَوْصُوفِ ، وشَهَادَةِ كُلِّ مَوْصُوفٍ أَنَّه غَيْرُ الصِّفَةِ، فَمَنْ وَصَفَ اللَّه سُبْحَانَه فَقَدْ قَرَنَه ومَنْ قَرَنَه فَقَدْ ثَنَّاه ومَنْ ثَنَّاه فَقَدْ جَزَّأَه ، ومَنْ جَزَّأَه فَقَدْ جَهِلَه ومَنْ جَهِلَه فَقَدْ أَشَارَ إِلَيْه، ومَنْ أَشَارَ إِلَيْه فَقَدْ حَدَّه ومَنْ حَدَّه فَقَدْ عَدَّه...)) [نهج البلاغة تحقيق صبحي صالح ـــ الخطبة الأولى:ص39].
فمن الواضح أنّ جميع اللوازم المذكورة في هذا النصّ، من مغايرة الصفة للموصوف، والقرن بينهما، والتثنية... إلى آخره إنّما هي حاصلة في الممكنات؛ وذلك لزيادة الصفات فيها على ذواتها وحدوثها لها بعد أن لم تكن متّصفة بها، فأراد (ع) أن ينبّه على وجود الصفات وواقعيّتها أوّلًا، وإلى العينيّة بينها وبين الذات وعدم زيادتها عليها ثانياً.
والوجه الثاني: أنّ نفي الصفات عنه تعالى بشكل مطلق مستلزم لردّ الأدلّة العقليّة القطعيّة الدالّة على اتّصافه تعالى بالحياة والعلم والقدرة ووجوب الوجود ونحو ذلك، كما أنّه خلاف الأصل في باب العقائد؛ إذِ الأصل فيه تقديم الدليل العقليّ القطعيّ على النقليّ المظنون، بل قد ثبت في محلّه أنّ الأدلّة النقليّة قطعيّة الصدور إذا ما تعارضت مع الدليل العقليّ الواضح والصريح وجب تأويلها على ما يوافق العقل، ولا يصار إليها هنا إلّا مع فقد نظيرتها العقليّة. ولا فقد للدليل العقليّ على اتّصافه تعالى بهذه الصّفات الكماليّة؛ لذا فلا محيص عن تأويل كلامه (ع) وحمله على معنى لا يتعارض معها.
والوجه الثالث: أنّ الاعتقاد بنفي الصفات مطلقاً عنه تعالى موجب عقلاً للتعطيل؛ فإنّ الإله الذي لا يتّصف بالحياة ولا العلم ولا القدرة، ولا بالخلق أو الرزق ونحو ذلك من الصفات الثبوتيّة الذاتيّة والفعليّة لهو إلهٌ ميّتٌ أصمّ أبكم عاطل، ووجوده كعدمه على السواء، ولا ريب في أنّ هكذا اعتقاد يمثّل منتهى الكفر كما لا يخفى والعياذ بالله تعالى.
والوجه الرابع: أنّ حمل كلامه (ع) على نفي الصفات مطلقاً يلزم منه معارضته مع صريح القرآن والسنّة، بل هو مناقض لكثيرٍ من خطبه وكلماته (ع) التي وردت عنه بالطرق الصحيحة والمعتبرة، سواءٌ ما كان منها في نهج البلاغة أم في غيره، إذْ يصف (ع) الله تعالى فيها بأوصاف شتّى. ودمتم سالمين.
اترك تعليق