كيف يكون وجودنا نعمة ونحن لم نطلبه أصلا؟!

السؤال: البعض يجيب عن سؤال سبب خلقنا وإيجادنا في الحياة، ووجوب عبادتنا وطاعتنا لله، بأن الله سبحانه وتعالى منعم، ومن أعظم نعمه علينا أنه عز وجل خلقنا وأوجدنا في هذه الحياة، والسؤال: كيف يكون خلقه إيجاده لنا نعمة علينا يجب أن نشكره عليها، ونحن لم نطلب منه أن يخلقنا ويوجدنا من الأصل؟!

: الشيخ علي محمد عساكر

الجواب:

لا شكّ في أنّ الله تبارك وتعالى منعمٌ، وأنّ من أعظم وأكبر نعمه علينا هي نعمة الخلق والإيجاد، وبما أنّ شكر المنعم واجب عقلا، وتحكم به القيم الأخلاقية والإنسانية، وتؤكده النصوص الدينية خصوصاً الإسلاميّة، يكون شكرنا لله عن طريق عبادته وطاعته واجباً عقلياً وأخلاقياً ودينياً على حدّ سواء.

أما عن سؤال: كيف يكون خلقه وإيجاده لنا نعمة علينا يجب أن نشكره عليها، ونحن لم نطلب منه أن يخلقنا ويوجدنا من الأصل؟!

فيمكننا أن نجمل الإجابة عنه فيما يلي من نقاط:

الأولى: كيف يمكننا أن نطلب أو لا نطلب منه عز وجل أن يقوم أو لا يقوم بخلقنا وإيجادنا، ونحن قبل الخلق والإيجاد عدم، لا وجود لنا ولا أثر يدلّ علينا؟!

الثانية: إنّ الله عزّ وجلّ لا يفعل وفق رغبات الآخرين لنعترض على هذا الفعل أو ذاك بأنّه سبحانه لم يسألنا عنه، أو يأخذ رأينا فيه! كما أنّه سبحانه لا يفعل ما هو مخالف للحكمة، أو ما لا غاية له، ولا مصلحة فيه، ولا تترتب عليه فائدة، لنسأله أو نعترض عليه بأنّه لماذا فعل هذا الفعل أو ذاك وهو لا حكمة له، ولا فائدة فيه؟!

وإنّما أفعاله سبحانه وتعالى كلّها متصفة بالحكمة، ومعلّلة بالغايات والمصالح، ويترتب عليها ما لا حدّ له من الفوائد والثمرات، فكيف والحال هذا نعترض على أفعاله سواء في خلقنا وإيجادنا أو غير ذلك، ونحن نعلم أنّها متّصفة بهذه الصفات؟!

الثالثة: إضافة إلى ما ذكرناه في النقطة الثانية، نحن نعلم أنّ الله عز وجل هو الربّ، وله الخلق والأمر، وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [الحج 14] وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}، [الحج 18] وقال عزّ وجلّ: {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ}. [الأنبياء 23]

فله تبارك اسمه وعزّ شأنه أن يفعل ما يشاء وما يريد، وليس لأيّ أحد كائناً مَنْ كان أنْ يسأله عن فعله بقصد الاعتراض عليه، أو النّقد له، وإنْ كان يمكن السؤال عن فعله بقصد الاستفسار والتعلم والتعمّق في المعرفة الإلهيّة.

الرابعة: إنّ المطالبة بعدم خلق الإنسان هي - في حقيقتها - مطالبة بعدم خلق هذا الكون، لأنّ الغرض من خلق الإنسان أنْ يكون عابداً لله وحده، ومع عدم خلقه وإيجاده ينتفي هذا الغرض، وبانتفائه تنتفي الحاجة إلى الرسل والأنبياء، والتبشير والإنذار، والوعد والوعيد، والثواب والعقاب، والجنة والنار، بل والدنيا والآخرة، لأنّ ذلك كلّه متوقف على وجود الناس في هذه الحياة، وعلى دعوتهم عن طريق الرسل والأنبياء إلى الإيمان بالله، وترغيبهم في ذلك عن طريق التبشير بالجنة، وترهيبهم من الكفر عن طريق الإنذار بالنار، ممّا يدلّ على أنّ وجود الإنسان هو الذي يصون وجود الكون من العبثية.

وبشيء من التفصيل والبيان نقول: لا يشك عاقل في أنّ الوجود أفضل من العدم، وعليه يكون وجودنا أفضل من عدمه، وبما أنّه أفضل، فهذا يعني أنّه نعمة في حدّ ذاته.

بل لا شكّ في أنّ نعمة إيجاد الإنسان في الحياة هي أعظم النّعم وأفضلها، ذلك أنّ كلّ النّعم الأخرى متعلقة بها، متفرّعة عليها، ولولا أنّ الله تعالى أوجدنا، لأصبح الخلق عبثاً، ولم يكن هناك ما يدعو إلى إيجاد هذا الكون بكلّ ما فيه من خيرات حسان، ونعم هي فوق العدّ والإحصاء.

وهذا ربما ممّا يُدرك بالبداهة العقليّة، وهو أيضا ما تؤكده النصوص الإسلاميّة كتاباً وسنةً، خصوصاً القرآن الكريم، الذي فيه عشرات الآيات التي تتحدّث عن هذا الكون، وتؤكّد أنّ الله عز وجل لم يخلقه إلا لنا، ومن أجلنا.

ولك أنْ تستجليَ هذه الحقيقة الجليّة من خلال التدبر في الآيات (5-18) من سورة النحل: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَىٰ بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنفُسِ ۚ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ۚ وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ۚ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ۖ لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَىٰ فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلَامَاتٍ ۚ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ}.

ولاحظوا أنّ كلمة (لكم) تكرّرت بعد ذكر كلّ (خلق) وعدِّ كلِّ (نعمة) تذكرها هذه الآيات المباركة، لتؤكّد أنّ ذلك كلّه إنّما كان لنا ومن أجلنا، ثم أجمل الله هذا التفصيل بقوله سبحانه: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} ليبيّن أنّ نعمه علينا لا تنحصر فيما ذكره وعدده، بل هي بلغت حداً من الكثرة الكثيرة، بحيث أننا لا نستطيع أن نعدّها أو نُحصيها!

ولهذا ورد في الحديث القدسيّ كما في (الجواهر السنية في الأحاديث القدسية) للشيخ محمد بن الحسن بن علي بن الحسين الحر العاملي: (عبدي: خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي، وهبتك الدنيا بالإحسان والآخرة بالإيمان).

وهو حديث يفيد أنّ كلّ الأشياء إنّما خلقها الله من أجل الإنسان، وسخّرها له، وجعلها في خدمته، ومن أجل راحته وسعادته، وجعله سيّد هذا الكون بكلّ ما فيه، وأعطاه التكريم، وفضّله على كثير ممّن خلق تفضيلاً، تماماً كما يقول عز وجل: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}. [الإسراء 70].

وهنا يجب أنْ نلاحظ أنّ هذا الحديث القدسيّ الشّريف في الوقت الذي يؤكّد فيه أنّ الله عز وجل إنّما خلق الأشياء - كل الأشياء - لأجل الإنسان، أيضاً يؤكّد أنّه تبارك وتعالى وهبه الدنيا - كلّ الدنيا - بالإحسان، ولا شكّ أنّ الإحسان من النّعم التي مَنّ وتفضل الله تعالى بها علينا.

ولهذا قلنا والآن نؤكّد: إنّ نعمة خلق الإنسان وإيجاده في الحياة هي أعظم وأفضل النّعم، وكلّ النّعم الأخرى متعلّقة بها، متفرّعة عليها، بل لولا نعمة إيجاد الإنسان وإلا لما أصبح لوجود الكون معنى، ولأصبح الخلق عبثاً، والله منزّه عن العبث واللعب، وقد قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ}. [الأنبياء 16 – 17].

وإنما قلنا: إنه لولا وجود الإنسان لأصبح الخلق عبثاً، لأنّ الإنسان نفسه لم يُخلق عبثاً، وقد قال سبحانه في الآيتين (115-116) من سورة المؤمنون {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ}. [المؤمنون 115 – 116].

فالإنسان إنّما خُلق لغرض عظيم يكشف عنه القرآن الكريم في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}. [الذاريات 56].

فالغرض من خلقنا وإيجادنا أنْ نكون عابدين له سبحانه، ولو أنّه عزّ وجلّ أوجد الكون ولم يوجدنا فيه، لما تحقّق غرضه عزّ وجلّ من الخلق والإيجاد، وإذا لم يتحقق الغرض بانتفاء وجود من يحقّقه ويجسّده، أصبح الخلق عبثاً، ولعل هذا من معاني حديث: (خلقت الأشياء لأجلك وخلقتك لأجلي...)

فالغرض من خلق الأشياء أنْ تكون في خدمة الإنسان، والغرض من خلق الإنسان أنْ يكون عابداً لله تعالى، ممّا يعني أنّ تجسيد العبوديّة الحقّة لله تعالى هو الغرض الأساس من خلق الكون والإنسان معاً.

والإنسان الواعي بَدَلَ أنْ يعترض على نعمة وجوده، ويجحدها ويكفر بها، ويسبّب لنفسه بذلك البلاء والشقاء الأبديّ، عليه أنْ يستثمر هذه النّعمة الجسيمة العظيمة ويستفيد منها في تحقيق سعادة الدّارين لنفسه، وذلك من خلال اتصاله بربّه، وتجسيده العملي للغرض الذي خلقه الله وأوجده من أجله.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.