لماذا كان بيت المقدس القبلة الأولى؟
السؤال: لماذا يعتبر المسجد الأقصى القبلة الأولى للمسلمين رغم أنّ البيت الحرام تمّ تأسيسه أوّلاً؟
الجواب:
يتّضح الجواب عن السؤال ببيان ثلاث أمور:
الأول: القبلة بين التوقيف الإلهي والوهم الزماني:
في ميدان العبودية الخالصة لله تعالى، لا يسع المؤمن إلَّا أنْ يمتثل لأوامره ويصغي إلى صوت وحيه، ذلك الصوت الذي يهدي القلوب ويضبط خطوات السالكين في طريق القرب الإلهيّ. إنّ العبادات في الدين السماويّ لا تخضع لاجتهادات العقول ولا تكييف الأهواء والذوقيّات، بل هي أمورٌ توقيفيَّةٌ محضة، لا يُدرك مرادها إلّا من خلال النصّ الإلهيّ، المبلَّغ عن طريق النبي أو الوصيّ.
ومن هنا، فإن فهم شروط العبادات ـ ومنها اتّجاه القبلة، لا يكون صحيحًا إلّا إذا استند إلى الوحي.
فتحديد القبلة باعتبارها شرطاً من شروط الصلاة ليس فعلاً بشريّاً، ولا نابعا من رأيٍّ أو اجتهاد، بل هو أمرٌ إلهيٌّ خالص، يدلّ على أنّ الله تعالى يحكم في شؤونه كيف يشاء ومتى يشاء، فالأمكنة كلّها متساويةٌ في ذاتها، ولا ميزةٌ لمكانٍ دون آخر إلَّا بما خصّه الله تعالى به.
وقد أشار السيد الطباطبائيُّ إلى هذا المعنى بقوله: (إنّ جعل بيتٍ من البيوت كالكعبة، أو بناءٍ من الأبنية أو الأجسام كبيت المقدس، أو الحجر الواقع فيه قبلةً، ليس لاقتضاء ذاتيّ منه... بل جميع الأجسام والأبنية والجهات التي يمكن أنْ يتوجّه إليه الإنسان، في أنّها لا تقتضي حكمًا ولا يستوجب تشريعاً على السواء، وكلّها لله، يحكم فيها ما يشاء وكيف يشاء ومتى يشاء) [تفسير الميزان ج1 ص318].
وعليه، فإنّ الاعتقاد بأنّ الأفضليّة المكانيّة أو الأسبقيّة الزمانيّة لأيّ مسجدٍ توجب تَقدُّمه في التشريع، هو وَهم منطقيّ يُعرف في علم المنطق بمغالطة "السببيّة الزائفة"، حيث يُتوهَّم أنّ ما ليس بعلّةٍ هو علّة. فهذا التفكير يغفل عن جوهر العبوديّة، وهو التسليم الكامل لله، لا تحليل أحكامه بناءً على معايير بشريّة دنيويّة.
الثاني: القبلة الأولى وحكمة التغيير:
لقد كانت القبلة في بداية الدعوة الإسلاميّة باتّجاه المسجد الأقصى، وقد صلّى النبي (صلّى الله عليه وآله) نحوه طيلة فترة وجوده في مكّة، ثمّ لأكثر من عامٍ بعد هجرته إلى المدينة، جاء الأمر الإلهيّ بتحويل القبلة إلى المسجد الحرام، وكان هذا التحوّل لحكمة إلهيّة لا تُدرك إلّا بالوحي.
وفي هذا السياق، وردت روايات عن أهل بيت العصمة توضّح هذا التحوّل، نذكر بعضاً منها:
روى الشيخ الطوسيّ بالإسناد عن أبي بصير، عن أحدهما (عليه السلام) في حديثٍ، قال: «قلت له: إنَّ الله أمره أنْ يصلي إلى بيت المقدس؟ قال: نعم، ألا ترى أنَّ الله يقول: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ... الآية}، ثمّ قال: إنّ بني عبد الأشهل أتوهم وهم في الصلاة قد صلوا ركعتين إلى بيت المقدس، فقيل لهم: إنّ نبيّكم صرف إلى الكعبة، فتحوّل النساء مكان الرجال، والرجال مكان النساء، وجعلوا الركعتين الباقيتين إلى الكعبة، فصلوا صلاةً واحدةً إلى قبلتين فلذلك سمّي مسجدهم: مسجد القبلتين» [تهذيب الأحكام ج2 ص44].
وروى الشيخ القميّ بالإسناد عن الإمام الصادق (عليه السلام): «تحوّلت القبلة إلى الكعبة، بعدما صلّى النبي (صلى الله عليه وآله) بمكّة ثلاث عشرة سنة إلى بيت المقدس، وبعد مهاجرته إلى المدينة صلّى إلى بيت المقدس سبعة أشهر، قال: ثمّ وجهه الله إلى مكّة، وذلك أنّ اليهود كانوا يعيّرون على رسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويقولون: أنت تابع لنا، تصلّي إلى قبلتنا، فاغتمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله) من ذلك غمّاً شديداً، وخرج في جوف الليل ينظر إلى آفاق السماء، ينتظر من الله في ذلك أمراً، فلمّا أصبح وحضر وقت صلاة الظهر كان في مسجد بنى سلمة، وقد صلّى من الظهر ركعتين، فنزل جبرائيل فأخذ بعضديه وحوّله إلى الكعبة وأنزل عليه: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، فكان قد صلّى ركعتين إلى بيت المقدّس وركعتين إلى الكعبة، فقالت اليهود والسفهاء: ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها». [ينظر: مجمع البيان ج1 ص415].
الثالث: القبلة رمز الطاعة ووحدة الوجهة:
والقبلة - إذًا - ليست مجرّد جهةٍ جغرافيَّةٍ نُوجّه وجوهنا نحوها، بل هي رمزٌ للطاعة والخضوع لإرادة الله، ودلالة على منهج هداية الإنسان نحو الكمال والصلاح، وعلامة لتوحيد صف المسلمين واتجاههم. إنّ في كلِّ تحوّلٍ في اتجاه القبلة امتحانًا للقلوب، كما قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} [البقرة: 143].
النتيجة:
إنّ من أعظم دروس مسألة القبلة أنَّها تعلّمنا كيف نكون عبادًا خاضعين، لا نُملي على الشريعة ما نراه صوابًا، بل نأخذ منها ما تأمر به، ولو خالف أهواءنا أو تصوّراتنا. فالتشريف والتقديس يأتيان من اختيار الله وحده في كلّ أمرٍ إلهيّ، سواء كان في القبلة أو في العبادة أو في السلوك.
فلنكن على يقين أنّ القبلة ليست مجرد موضع نتوجه إليه، بل هي بوصلتنا نحو الله، وعهد طاعتنا له، حيثما أمر وكيفما شاء.
والحمد لله رب العالمين.
اترك تعليق