ثنائية التشيّع والتسنّن الأسباب والنتائج
السؤال: يقول بعض السياسيّين من مخالفينا: (ما علاقة أحداثٍ وقعت قبل 1400 سنةٍ بنا اليوم؟ ولماذا يكرهنا الشيعة ويحاربوننا من أجل خلافٍ لا يخصّنا؟) فهل بالإمكان الردُّ عليه؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
اعلم أخي السائل الكريم أنّ السؤال مؤلّفٌ من شقّين، أحدهما: يتمحور حول علاقتنا بالأحداث التي جرتْ بين الصحابة وأهل البيت (عليهم السلام)، والآخر: حول موقف الشيعة إزاء أتباع السقيفة ومدرسة الخلافة من الطوائف الأخرى، من هنا كان لابدّ من عقد الكلام في مقامين:
المقام الأوّل: حول ما جاء في الشقّ الأوّل من السؤال، وفيه:
أوّلا: لا ريب أنّ الدعوة إلى التفكيك بين ماضي الأمّة وحاضرها تتقاطع بشكلٍّ واضحٍ وصريحٍ مع نهج العقلاء وسيرتهم في مختلف الأمم والحضارات، فالأمة التي لا تمتلك رؤيةً واضحةً عن ماضيها لا يمكنها رصد أخطاء الحاضر، ولا العمل على تصحيحها، ولا رسم مساراتها المستقبليّة نحو التقدّم والتكامل، أضف إلى ذلك: ما تنطوي عليه هذه الدعوة من مخالفةٍ صريحةٍ للمنهج القرآنيّ في تقديمه التجارب العمليّة للأمم السالفة عبر التاريخ بوصفها أحد أبرز المناهج التربويّة البنّاءة، ومن أهمّ عوامل تصحيح المسارات الحاضرة والمستقبليّة؛ لذا يحثُّ الإنسان بشكلٍ عامٍّ على النظر فيها والاستفادة منها، حيث يمكنها أنْ تُسهم في ثبات الصالحين على مبادئهم وعقيدتهم كما قال تعالى: {وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ} [هود: 120]، كما أنّها تدفع بالطالحين نحو الاعتبار بمصائر الماضين والتراجع عن متابعتهم في غيّهم وفسادهم كما قال عزّ من قائل: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [يوسف: 111]، وبالتالي فإنّ الإعراض عن التاريخ يُفقد الأمّة أهم عوامل البناء والتقدّم.
بناءً على ذلك لابدّ وأنْ يُدرك المسلمون أنّ حاجتنا إلى مراجعة التاريخ الإسلاميّ هي حاجة المسبَّب إلى سببه والمعلول إلى علّته، والنتيجة إلى مقدّماتها؛ إذ من الواضح أنّه لولا ما جنته أيدي أسلافنا لما آلَ بنا الأمر إلى ما نحن فيه من الفرقة والتباغض والتكفير والتقاتل. وإذن: فالعلاقة بين الماضي والحاضر علاقةٌ وثيقةٌ ترتكز في وجودها على الموضوعيَّة ومنطق العقل، وتستند في قيامها ونشوئها إلى حوادث تاريخيّةٍ حقيقيّةٍ ألقت بظلالها على حاضرنا فما زالت تؤثر فيه؛ ولهذا فما لم نضع أيدينا على الأسباب التي باعدت بين أسفارنا، وما لم نشخّص الأخطاء التي ارتكبها السابقون في سلوكهم، ونتعرّف إلى المنهجية الفاسدة التي اعتمدوها في تفكيرهم، فإنّه لن يمكن لنا تحديد مسارنا فضلاً عن تصحيح أخطائنا أو جمْع شملنا.
والحاصل: أنّ دعوة البعض إلى ضرورة معالجة مشكلاتنا المعاصرة من دون البحث عن جذورها أو الوقوف على أسبابها لا يعدو كونه عمليّة ترقيعٍ آنيّةٍ سرعان ما ينتهي مفعولها وتضمحلّ آثارها لتعود الفرقة والاقتتال الطائفيّ من جديد. [للمزيد ينظر مقالٌ سابقٌ على موقعنا بعنوان: الصراع الشيعيّ- السنّي.. ضرورات الحاضر أم هيمنة التاريخ].
ثانياً: من الواضح أنّ للتاريخ - بوصفه مسرحاً لأقوال وأفعال الإنسان - انعكاساً كبيراً على تحديد مصيره وعاقبته في الآخرة، ضرورة أنّ جميع الأحداث التاريخيّة المفصليّة التي تعرّضت لها النبوّات السابقة وأممها إنّما تمثّل في ضوء فلسفة التاريخ حلقاتٍ متسلسلةً للجدليّة القائمة والصراع المستمر بين حزب الله وحزب الشيطان، وقد قضت الحكمة الإلهيّة بأنْ يكون الإنسان في ذلك الصراع محوراً أساساً وهدفاً مستهدفاً لبعثات الأنبياء من ناحية، ولكيد الشيطان من الناحية الأخرى، وقد أُنيطت بهذا الإنسان وظيفة التولّي لحزب الله في تأدية رسالة الصلاح والإصلاح، والبراءة من حزب الشيطان الذي يعيث في الأرض فساداً، كما صرّح القرآن الكريم بذلك عبر العديد من آياته الكريمة، فمن ذلك:
ما دلّ على وجوب تولّي أولياء الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) كقوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55ـ56]، هذا.. وقد اعترف غير واحدٍ من علماء العامّة بانعقاد إجماع المفسّرين من الفريقين على نزول هذه الآيات في أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) كالقاضي عضد الدين الإيجيّ، والشريف الجرجانيّ ، وسعد الدين التفتازانيّ، وغيرهم [ينظر على التوالي: المواقف في علم الكلام ج3 ص614، شرح المواقف ج3 ص614، شرح المقاصد في علم الكلام ج2 ص288]، وكما ترى فالآيتان صريحتان بأنّ انتماء الإنسان لحزب الله الغالب مشروطٌ بتحقّق الولاء منه لله ولرسوله ولأمير المؤمنين (عليه السلام).
وكذلك ما دلّ على وجوب التبرّي كقوله عزّ وجلّ: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22] والملاحظ في هذه الآية أنّه - وبملاك وحدة حزب الله- لابدّ - إلى جنب الولاية - من إظهار التبرّي من أعداء الله وأعداء رسوله (صلّى الله عليه وآله)، بل قد أوجب الله سبحانه على أوليائه مقاتله أولياء الشيطان وحزبه، كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} [النساء: 76].
ومن هنا، فإنّ ثنائيّة التشيّع والتسنّن جاءت على خلفية الحوادث التي لحقت بأهل البيت (عليهم السلام) من قِبَل خصومهم منذ رحيل النبيّ (صلّى الله عليه وآله) حتّى غيبة الإمام المهديّ (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، وهي أحداث لن تخرج عن كونها حلقةً من حلقات ذلك الصراع بين الحزبين، وبالتالي فنحن متى نظرنا إليها بشكلٍ مستقلٍّ وتعاطينا معها بمعزلٍ عن العقيدة الإسلاميّة كان ذلك تفريغاً لرسالات السماء من محتواها، وتجريداً للخِلقة عن الغرض والغاية من ورائها.
ويتّضح ذلك غاية الوضوح عند العود إلى القرآن الكريم الذي تكلّم عن تلك الأحداث معتبراً إيّاها انقلاباً على الأعقاب وتمرداً على قيم السماء وتعاليم الرسالة، فيقول تعالى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ} [آل عمران: 144]، ومن هنا كان لها تأثيرها الأخرويّ على مصائر محدثيها من الصحابة كما تواترت به أحاديث الفريقين، فمثلاً روى البخاريُّ عن غير واحدٍ من الصحابة وفي تسع رواياتٍ ورود الأغلب الأعمّ من الصحابة إلى النار منها: ما عن أبي هريرة عن النبيّ (صلّى الله عليه [وآله] وسلّم) قال: «بينا أنا قائِمٌ فإذا زمرة حتّى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم فقال: هلمَّ!، فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: وما شأنهم؟ قال إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقريّ، ثمّ إذا زمرٌة حتّى إذا عرفتهم خرج رجلٌ من بيني وبينهم فقال: هلم، قلت: أين؟ قال: إلى النار والله، قلت: ما شأنهم؟ قال: إنّهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري، فلا أراه يخلص منهم إلّا مثل هَمَل النعم» [صحيح البخاريّ ج7 ص208].
وبذلك بات اللازم عقلاً وشرعاً على كلّ مسلم أنْ يتحرّى تلك الأحداث بعين البصيرة ويُخضِعها للبحث المجهريّ الدقيق متوخّياً الموضوعيّة والحياديّة؛ إذ من خلال ذلك يتجلّى له مَن هم حزب الله وأولياؤه، ويتشخّص عنده أعداء الله أولياء الكفر وحزب الشيطان، وإلّا فمن غير المعقول ولا الممكن أنْ يتحقّق له معنى الولاية والبراءة من دون أن يُحدّد موضوعاً لهما كما وهو واضح.
المقام الثاني: دعوى كراهة الشيعة لغيرهم ومحاربتهم لهم، وفيها:
إنّ تأريخ الأمّة ما زال بين أيدينا، وكلّ من طالعه علم من خلاله أنّ أحداث السقيفة وما جرى مجراها كانت قد دفعت أهل البيت (عليهم السلام) عن مقامهم وأزالتهم عن مراتبهم التي رتّبهم الله فيها، الأمر الذي أدّى بدوره إلى تعاقُب سلاطين الجور على كرسيّ الخلافة، ولاسيّما في الدولتين الأمويّة والعبّاسيّة، وأفضى إلى تعرّض الأئمّة الأطهار (عليهم السلام) وشيعتهم لأبشع حملات التصفية والاضطهاد والقتل والتشريد ونهب الأموال على مرّ العصور، وقد لخّص الإمام الباقر (عليه السلام) جانباً من تلك الظروف بقوله لبعض أصحابه: «يا فلان ما لقينا من ظلم قريش إيّانا وتظاهرهم علينا؟ وما لَقي شيعتنا ومحبّونا من الناس؟!، إنّ رسول الله (صلّى الله عليه وآله) قبض وقد أخبر أَنَّا أولى الناس بالناس فتمالأت علينا قريشٌ حتّى أخرجت الأمر عن معدنه واحتجّت على الأنصار بحقّنا وحُجّتنا، ثمّ تداولتها قريشٌ واحدٌ بعد واحد حتّى رجعت إلينا فنُكثت بيعتنا ونُصبت الحرب لنا... ثمّ لم نزل - أهل البيت - نُستذلّ ونُستضام ونُقصى ونُمتهن ونُحرم ونُقتل ونخاف ولا نأمن على دمائنا ودماء أوليائنا... وكان عظم ذلك وكبره زمن معاوية بعد موت الحسن (عليه السلام) فقُتلت شيعتنا بكلّ بلدة وقُطّعت الأيدي والأرجل على الظنّة وكان من يذكر بحبّنا والانقطاع إلينا سجن أو نُهب ماله أو هُدمت داره ثمّ لم يزل البلاء يشتدُّ ويزداد إلى زمان عبيد الله بن زياد قاتل الحسين (عليه السلام) ثمّ جاء الحجاج فقتلهم كلّ قتله وأخذهم بكلّ ظنّة وتهمة حتّى أنّ الرجل لَيُقال له زنديق أو كافر أحبّ إليه من أن يُقال شيعة عليٍّ» [شرح نهج البلاغة ج11 ص44].
بهذا يظهر لك جليّاً أنّ اتهام الشيعة بالكراهيّة للآخرين ومحاربتهم فيه ما فيه من مجانبة للصواب وبُعد عن الواقع؛ فالشيعة لم يتسلّموا مقاليد الحكم، بل كانوا وما يزالون طائفةً مهمّشةً مضطهدةً ومظلومةً على مرّ العصور كما يشهد بذلك حالهم المعاصر في مختلف البلاد الإسلاميّة؛ كاليمن ولبنان والبحرين والعراق وغيرها، وهم - مع ذلك كلّه - كانوا وما يزالون يؤمنون بضرورة الحفاظ على وحدة الإسلام والمسلمين، ويمتثلون لأوامر أئمّتهم (عليهم السلام) التي أكّدوا فيها على وجوب التعايش السلميّ مع أبناء المكوّنات والطوائف الأخرى، ففي صحيحة معاوية بن وهب عن الإمام الصادق (عليه السلام)، قال: «قلتُ له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا وبين خلطائنا من الناس ممّن ليسوا على أمرنا؟ قال: تنظرون إلى أئمّتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنّهم لَيعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدّوا الأمانة إليهم» [الكافي ج2 ص636]، وإذا ما اتفق للشيعة يوماً أن رفعوا سلاحهم بوجه أحد الطغاة والحكّام الجائرين كمعاوية بن أبي سفيان أو ابنه يزيد (عليهما اللعنة) فليس ذلك إلّا للدفاع عن عقيدتهم ومقدّساتهم وأنفسهم وأعراضهم، كما يشهد به وضعهم الراهن وحربهم الأخيرة ضد الإرهاب السلفيّ التكفيريّ.
ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.
اترك تعليق