لماذا جاء لفظ (بناتك) بصيغة الجمع في القرآن؟
السؤال: في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ... الآية} لماذا جاء لفظ (بناتك) بصيغة الجمع في هذه الآية؟ وهل كان للنبيّ عدّة بنات؟
الجواب:
بسم الله الرحمن الرحيم
يشير الأخ السائل إلى ما جاء من اللفظ المذكور في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59]، والإجابة عن مضمون سؤاله تتمّ ببيان مقدّمةٍ؛ فنقول:
لقد اضطربت كثيراً كلمات المؤرّخين وأرباب السيرة في ذريّة النبيّ (صلّى الله عليه وآله) فذهب بعضهم إلى وجود أربع بناتٍ له هنّ: زينب وأم كلثوم ورقيّة بالإضافة إلى السيّدة فاطمة الزهراء (عليها السلام)، وذهب آخرون منهم إلى نفي ذلك وأنّه ليس له سوى مولاتنا الزهراء (عليها السلام)، ثمّ اختلف هؤلاء في أنّ الثلاث الباقيات هل هنّ بنات للسيّدة خديجة (عليها السلام) من زوجها السابق عتيق بن عائذ المخزوميّ بناءً على أنّها كانت متزوّجة به قبل زواجها برسول الله (صلّى الله عليه وآله)؟ أم أنّهنَّ بنات هالة أخت خديجة (عليها السلام)؟ أم هنالك غير ذلك؟.
وفي الجملة، ليس هنالك ما يمكن السكون إليه والاطمئنان به في كلماتهم؛ لذا فقد جرت العادة في مثل هذه الأمور التاريخيّة أنْ تكون كلمة الفصل بيد المحقّقين والباحثين فهم الفيصل وعليهم المعوّل في ذلك، وقد توصّل بعض هؤلاء إلى عدم وجود أدلّةٍ كافيةٍ يمكن أنْ تفيد القطع بوجود بنات للنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) سوى مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام)، فإنّ ذلك هو القدر المتيقّن والمتّفق عليه عند جميع المسلمين؛ ولذا رجّحه بعضهم كالشيخ الكورانيّ في [مسائل جيش الصحابة ص72]، وجزم به بعض آخر كالسيّد جعفر مرتضى العامليّ في [كتابه: بنات النبيّ (ص) أم ربائبه، وفي خلفيات مأساة الزهراء (ع) ج6 ص44].
إذا اتّضح ذلك، فإنّ تخريج لفظ {وَبَنَاتِكَ} في الآية محل البحث يكون على أحد ثلاثة أوجه:
أوّلها: أنْ يكون المراد من لفظ الجمع المذكور هنا معناه الحقيقيّ بناء على ما عرفت من أنّ بعض المؤرّخين وأرباب السيرة قد ذهبوا إلى القول بوجود أربع بنات للنبيّ (صلّى الله عليه وآله)، وحينئذٍ يكون استعمال اللفظ في الآية استعمالاً حقيقيّاً.
وثانيها: أنْ يكون المراد هو خصوص مولاتنا فاطمة الزهراء (عليه السلام) بناءً على القول الراجح والصحيح الذي عليه جملة من المحقّقين وبعض المؤرّخين من أنّه لا بنات للنبيّ الأكرم (صلّى الله عليه وآله) سواها (عليها السلام). وحينئذٍ يكون من الواضح كون استعمال الجمع وإرادة المفرد به استعمالاً مجازيّاً من جهة هيئة الكلمة، أعني استعمال صيغة الجمع وهيأته في المفرد، فيكون قد جيء به للتعظيم، والمسوّغ لهذا المجازيّة هو العموم والخصوص، فقد يُستعمل العام ويراد منه الخاصّ، ويستعمل الجمع ويراد به المفرد، وهو استعمالٌ شائعٌ في لغة العرب، والمحاورات العرفيّة شاهدة عليه فإنّنا كثيراً ما نخاطب المفرد بصيغة الجمع تعظيماً له، كما في سلام بعضنا على بعض بصيغة (السلام عليكم) مع أنّ المخاطب شخصٌ واحد.
ومثل هذا الاستعمال كثيرٌ جدّاً في آيات القرآن الكريم، فمن ذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ} [المائدة: 55] فإنّ فيها خمسة ألفاظ بصيغة الجمع: (الذين ، أمنوا ، يقيمون ، يُؤتون ، وهم ، راكعون) ومع ذلك فقد صرّح غير واحدٍ من علماء العامّة كالقاضي عضد الدين الإيجيّ في المواقف، والشريف الجرجانيّ في شرح المواقف، والقوشجيّ في شرح التجريد، والتفتازانيّ في شرحه على المقاصد، بانّ إجماع المفسّرين من الفريقين منعقدٌ على نزولها في خصوص شخص مولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام). [ينظر: المواقف ص405 ، شرح المواقف ج8 ص360، شرح تجريد الاعتقاد ص368، شرح المقاصد ج5 ص170].
ومنه أيضاً قوله تعالى: {فَمَن حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعدِ مَا جَاءكَ مِنَ العِلمِ فَقُل تَعَالَوا نَدعُ أَبنَاءنَا وَأَبنَاءكُم وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُم وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُم ثُمَّ نَبتَهِل فَنَجعَل لَّعنَةَ اللّهِ عَلَى الكَاذِبِينَ} [آل عمران:61] فقد أجمع علماء الفريقين على أنَّ الذين دعاهم النبيّ (صلّى الله عليه وآله) للمباهلة من أهل بيته (عليهم السلام) هم: الحسنان (عليهما السلام) ، ثمّ خصوص أمير المؤمنين (عليه السلام) ومع ذلك فقد ذكره القرآن بلفظ {وَأَنفُسَنَا} إذ الإنسان لا يدعو نفسه، وخصوص مولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) ومع ذلك جاءت بصيغة الجمع: {وَنِسَاءنَا}.
وثالثها: أن يكون الاستعمال مجازيّاً كذلك، لكن لا من ناحية هيئة الكلمة بل من ناحية مادتها (ب ن ت)، فإنّ العرب الأوائل أجازوا استعمال لفظ البنت في الربيبة، فيكون الاستعمال القرآنيّ للفظ {وَبَنَاتِكَ} استعمالاً في الجامع الأعمّ من البنت الحقيقيّة ومن الربيبة، ولاسيّما وأن المناسب لموضوع الآية هو إظهار حالةٍ من الاهتمام بالنساء وتكريمهنَّ ووصف الربيبة منهنَّ بأنّها بنت لمن هي في حِجره تشجيعاً لها على الحشمة واشعاراً لها بالمسؤولية المناطة بها في ضرورة الحفاظ على النفس من الرذائل ومزالق الشيطان.
فاتّضح من خلال ما تقدّم أنّه سواءٌ تعدّدت بنات النبي (صلّى الله عليه وآله)، أم انحصرت البنوّة بمولاتنا فاطمة الزهراء (عليها السلام) فإنّ الآية لا إشكال فيها من حيث إيرادها للفظ: {وَبَنَاتِكَ} بصيغة الجمع فإنّه استعمال عربيٌّ صحيحٌ فصيح.
ختاماً هذا ما وفّقنا الله تعالى لبيانه في المقام، والحمد لله ربّ العالمين، وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
اترك تعليق