دور الإمام الرضا (عليه السلام) في تثبيت العقيدة

السؤال: السلام عليكم، ما هو الدور الذي تميّز به الإمام الرضا (عليه السلام) على الصعيد العقائديّ؟

: الشيخ فاروق الجبوري

الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

من المعلوم أنّ الإمام الرضا (عليه السلام) قد عاش أواخر القرن الثاني ومطلع الثالث للهجرة الشريفة، وهو الوقت الذي نشطت فيه الحركة العلميّة بشكلٍ لم يسبق له نظير، وبدأت عمليّات التدوين والتأليف تنتشر على نطاقٍ واسعٍ، كما شاعت آنذاك ترجمة كتب الفلسفات الغربيّة التي تلقّاها الكثير من علماء المسلمين بالقبول التام ممّا أفرز ظهور عدّة حركاتٍ إلحاديّةٍ وتوجّهاتٍ عقديّةٍ مختلفة المشارب تبلورت على هيئة فرقٍ كلاميّةٍ، فكان لابدّ من التصدّي لها وحياطة عقائد الإسلام من أفكارها المنحرفة عن مقتضيات الفطرة ومنطق العقل السليم؛ ولَمّا كان حضور الإمام (عليه السلام) على مستوى الساحة العقديّة حضوراً فعّالاً ومتميّزاً، وله مجالاتٌ مختلفةٌ لا يسع هذا المختصر ذكرها آثرنا الاقتصار على أهمّ المسائل التي عالجها (عليه السلام) في خصوص أصول الدين، فكان من ذلك:

أوّلا: أصل التوحيد، وفيه:

لقد تكلّم الإمام (عليه السلام) في عدّة مسائل ترتبط بالتوحيد، والأسماء الإلهيّة ومعانيها، وصفات الذات المقدّسة؛ سواء الثبوتيّة كالعلم والقدرة أم السلبيّة منها كاستحالة الرؤية ونفي الحيّز والمكان وغير ذلك، [ينظر: مسند الإمام الرضا (ع) للعطارديّ ج1 ص9].

فمن بين أهم المسائل التي عنى بها الإمام (عليه السلام) مسألة إثبات الصانع، فقد روى ثقة الإسلام الكلينيّ بإسناده عن محمد بن عبد الله الخراسانيّ خادم الرضا (عليه السلام) قال: « دخل رجل من الزنادقة [أي الملحدين] على أبي الحسن (عليه السلام) وعنده جماعة، فقال أبو الحسن أيها الرجل أرأيت إن كان القول قولكم وليس كما هو تقولون، ألسنا وإيّاكم شرعاً سواء، لا يضرّنا ما صلينا وصمنا وزكيّنا وأقررنا؟. فسكت الرجل، ثمّ قال أبو الحسن (عليه السلام): وإن كان القول قولنا وهو قولنا ألستُم قد هلكتُم ونجونا؟!، فقال: رحمك الله أوجدني كيف هو وأين هو؟، فقال: ويلك إنّ الذي ذهبت إليه غلط، هو أيّن الأين بلا أين وكيّف الكيف بلا كيف فلا يعرف بالكيفوفيّة ولا بأينونيّة ولا يُدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء. فقال الرجل: فإذاً أنّه لا شيء إذا لم يُدركه بحاسة من الحواس؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): ويلك لَمّا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيّته؟ ونحن إذا عجزت حواسنا عن إدراكه أيقنّا أنّه ربنا بخلاف شيءٍ من الأشياء!

قال الرجل: فأخبرني متى كان؟. قال أبو الحسن (عليه السلام): أخبرني متى لم يكن؟ فأخبرك متى كان. قال الرجل فما الدليل عليه؟ فقال أبو الحسن (عليه السلام): إنّي لَمّا نظرت إلى جسدي ولم يمكنّي فيه زيادةٌ ولا نقصانٌ في العرض والطول ودفع المكاره فيه وجرّ المنفعة إليه علمتٌ إنّ لهذا البنيان بانياً فأقررت به، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته وإنشاء السحاب وتصريف الرياح ومجرى الشمس والقمر والنجوم وغير ذلك من الآيات العجيبات المبينات علمت أنّ لهذا مُقدراً ومُنشئاً » [الكافي ج1 ص78].

ثانياً: العدل الإلهيّ، وفيه:

من الواضح لمن تتبّع كتب العقائد وعلم الكلام أنّ أبرز مسائل العدل الإلهيّ فيها مسألتان هما: مسألة القضاء والقدر ، ومسألة الجبر والتفويض، فقد أخذت هاتان المسالتان حيّزاً واسعاً من اهتمام المسلمين وعلمائهم، وأفضيتا إلى نشوء عدّة فرقٍ إسلاميّةٍ أبرزها الخوارج، والمجبّرة والمفوّضة ومذهب الأمر بين الأمرين الذي هو مذهب أهل البيت (عليهم السلام)، وما من وقتٍ اشتدّ فيه النزاع الكلاميّ في هاتين المسألتين كالذي كان في القرن الثاني للهجرة الشريفة؛ لذا كان لابدّ للإمام (عليه السلام) من أنْ يوليهما اهتماماً خاصّاً فتكلّم فيما وأوضحهما للناس على أكمل وجه، وله أخبار كثيرة فيهما فمن ذلك مثلاً:

المسألة الأولى: القضاء والقدر:

أخرج الصدوق في التوحيد والخصال بإسناده عن أبي أحمد الغازيّ قال: « حدَّثنا علي بن موسى الرضا قال: حدَّثنا أبي موسى بن جعفر قال: حدَّثنا أبي جعفر بن محمد قال: حدَّثنا أبي محمد بن عليّ ، قال حدَّثنا أبي عليّ بن الحسين، قال: حدَّثنا أبي الحسين بن علي (عليهم السلام) قال : سمعت أبي عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) يقول: الأعمال على ثلاثة أحوال: فرائض وفضائل ومعاصي، وأما الفرائض فبأمر الله عزّ وجلّ وبرضاء الله وقضاء الله وتقديره ومشيته وعلمه ، وأما الفضائل فليست بأمر الله ولكن برضاء الله وبقضاء الله وبقدر الله وبمشيته وبعلمه ، وأما المعاصي فليست بأمر الله ولكن بقضاء الله وبقدر الله وبمشيته وبعلمه ، ثم يعاقب عليها » [التوحيد ص369، الخصال: 168]، والملاحظ أنّه (عليه السلام) قد أسند الخبر المذكور مع أنّ المعصوم لا يحتاج إلى ذلك لا في ثبوت صدقه، ولا في وجوب تصديقه، ولكن لمّا كثرت الأكاذيب ووضع الأحاديث من قبل المذاهب الأخرى لإثبات آرائها ومعتقداتها الفاسدة استدعى الأمر ذكر السند دفعاً للشبهات، ودرأً للشكوك.

المسألة الثانية: الجبر والتفويض:

روى الشيخان الكلينيّ والصدوق بالإسناد إلى الحسن بن عليّ الوشّاء، عنه (عليه السلام) قال: « سألته فقلت: الله فوّض الأمر إلى العباد ؟ قال: الله أعزُّ من ذلك. قلت: فجبرهم على المعاصي ؟ قال: الله أعدل وأحكم من ذلك، ثمّ قال: قال الله: يا بن آدم، أنا أولى بحسناتك منك، وأنت أولى بسيئاتك منّي، عَمِلْتَ المعاصي بقوّتي التي جعلتها فيك » [الكافي: ج1 ص157، التوحيد ص362. عيون الأخبار ج1 ص131]، وأيضاً روى الشيخ الصدوق بإسناده عن سليمان بن جعفر الجعفريّ، عنه (عليه السلام) قال: « ذُكر عنده الجبر والتفويض فقال: أَلا أُعطيكم في هذا أصلاً لا تختلفون فيه ولا تخاصمون عليه أحداً إلّا كسرتموه ؟ قلنا: إنْ رأيت ذلك. فقال: إنّ الله عزّ وجلّ لم يُطَع بإكراهٍ ولم يُعصَ بغلبةٍ ، ولم يُهمل العباد في ملكه، هو المالك لما ملّكهم والقادر على ما أقدرهم عليه. فإن ائتمر العباد بطاعته لم يكن الله عنها صادّاً ولا منها مانعاً، وان ائتمروا بمعصيته فشاء أنْ يحول بينهم وبين ذلك فعل، وان لم يَحُلْ وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيه، ثمّ قال (عليه السلام): مَن يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم مَن خالفه!» [التوحيد ص361، عيون الأخبار ج1 ص131، مختصر البصائر ص134]

ثالثاً: أصل النبوّة:

لقد أوضح (عليه السلام) عدّة مسائل غامضة لدى الناس في هذا الأصل؛ منها ما يرتبط بالنبوّة العامّة، ومنها ما يرتبط بالنبوّة الخاصة؛ فذكر عدّة أمور حول الأنبياء آدم وإبراهيم وإسماعيل ويوسف وموسى ويوشع ودانيال والخضر وسليمان وعيسى (عليهم السلام) وكذا حول الحبيب المصطفى (صلّى الله عليه وآله)، فمن مسائل النبوّة العامّة مثلاً:

بيانه (عليه السلام) علّة اختلاف معاجز الأنبياء (عليهم السلام)، حيث روى الشيخان الكلينيُّ والصدوق بإسنادهما إلى أبي يعقوب البغداديّ قال: « قال ابن السكيت لأبي الحسن الرضا (عليه السلام) لماذا بعث الله عزّ وجلّ موسى بن عمران بالعصا ويده البيضاء وآلة السحر، وبعث عيسى (عليه السلام) بالطبّ، وبعث محمداً بالكلام والخُطب؟!. فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إنّ الله تبارك وتعالى لَمّا بعث موسى (عليه السلام) كان الأغلب على أهل عصره السحر فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن في وسع القوم مثله، وبما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم. وإنّ الله تبارك وتعالى بعث عيسى (عليه السلام) في وقت ظهرت فيه الزمانات [ أي الأمراض] واحتاج الناس إلى الطبّ فأتاهم من عند الله عزّ وجلّ بما لم يكن عندهم مثله وبما أحيا لهم الموتى وأبرأ لهم الأكمه والأبرص بإذن الله وأثبت به الحجّة عليهم. وأنّ الله بعث محمداً (صلّى الله عليه وآله وسلّم) في وقت كان الأغلب على أهل عصره الخُطَب والكلام [ وأظنه قال:] والشعر، فأتاهم من كتاب الله عزّ وجلّ ومواعظه وأحكامه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجّة عليهم. فقال ابن السكيت: تالله ما رأيت مثلك اليوم قطّ ، فما الحجّة على الخلق اليوم ؟ فقال( عليه السلام) : العقل يعرف به الصادق على الله فيصدّقه والكاذب على الله فيكذّبه فقال ابن السكيت هذا والله الجواب » [الكافي ج1 ص24، عيون الأخبار ج2 ص85].

رابعاً: أصل الإمامة، وفيه:

للإمام الرضا (عليه السلام) حضورٌ متميّزٌ في موضوع الإمامة، فقد تناول الكثير من مسائلها بالبيان والتوضيح وكشف الكثير من خفاياها، مثل بيان أنّ الأرض لا تبقى بلا إمام وإلّا لساخت بأهلها [ينظر: بصائر الدرجات ص508]، وبيان الفرق بين الرسول والنبيّ والإمام [الكافي ج1 ص176]، وأنّ الأئمّة(عليهم السلام) أمناء الله في الأرض [ينظر: بصائر الدرجات ص139]، وكذلك وجوب العمل بالتقيّة على الأئمّة (عليه السلام) وأنّه قد عمل بها فقبل بولاية العهد للمأمون العبّاسيّ كرهاً وبعد تهديده بالقتل. فقد روى الصدوق بإسناده عن الريان بن الصلت، قال: دخلت على عليّ بن موسى الرضا (عليه السلام) فقلت له: « يا ابن رسول الله، الناس يقولون: إنّك قبلت ولاية العهد مع اظهارك الزهد في الدنيا ! فقال (عليه السلام): قد علم الله كراهتي لذلك، فلمّا خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل، اخترت القبول على القتل، ويحهم ! أما علموا أن يوسف (عليه السلام) كان نبيّاً ورسولاً ، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز قال له: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك، على أنّي ما دخلت في هذا الأمر إلّا دخول خارج منه، فإلى الله المشتكى وهو المستعان » [علل الشرايع: ج1 ص239، وللمزيد حول الموضوع يراجع: حياة الإمام (ع) للقرشيّ ج2 ص312 – 324].

وكذلك من جملة ما تناوله (عليه السلام) ما يتعلّق بالعقيدة المهدويّة كانتظار الفرج،، والكشف عن بعض علامات الظهور المقدّس، والتحذير بعض الفتن آخر الزمان، والإخبار بأحداث عصر الظهور، وحركة السفيانيّ وغير ذلك الكثير [ينظر: مسند الإمام الرضا (ع) للعطارديّ ج1 ص216 – 228]، إلّا أنّ من أبرز آثار الإمام الرضا (عليه السلام) في باب الإمامة والتي يستحسن ذكرها هنا ثلاث مسائل:

الأولى: بيانه (عليه السلام) منزلة الإمامة وصفات الإمام بشكلٍ مفصّلٍ ودقيق، ووضوحٍ لا يبقى معه لبسٌ ولا شكٌ في أنّ الإمامة لا يمكن أنْ تكون إلّا في آل محمد (صلّى الله عليه وعليهم أجمعين)، ولولا طول الرواية لنقلناها هنا، لكنّنا ننصح بشدّة الأخوة المؤمنين بالوقوف عليها وقراءتها في مصادرها المشار إليها. [ينظر: الكافي ج1 ص198، عيون الأخبار ج1 ص195، الاحتجاج ج2 ص226، بحار الأنوار ج25 ص120].

الثانية: إقامته (عليه السلام) الحجّة على علماء العامّة في مسألة الإمامة الإلهيّة وارتباطها الوثيق بالتوحيد من خلال حديثه المعروف بحديث (سلسلة الذهب)، وهو حديثٌ قُدسيٌّ شريفٌ رواه الإمام (عليه السلام) مسنداً عن آبائه الطاهرين (عليهم السلام) عن النبيّ (صلى الله عليه وآله) عن جبرئيل (عليه السلام) عن الله عزّ و جلّ، فكانت سلسلة رواته كلّهم معصومون ولذلك أسماه علماء العامّة – وليس الشيعة - بحديث (سلسلة الذهب)، وإلّا فالشيعة يعتقدون أنّ جميع أحاديث الأئمّة (عليهم السلام) الصادرة عنهم هي بنفس هذه السلسلة الذهبيّة من السند، وترجع إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سواء ذكروا (عليهم السلام) أسانيدها أم لا.

وكيفما كان فقد روى حديث سلسلة الذهب عنه (عليه السلام) الكثير من الرواة حتّى عُدّ أهل المحابر والدوي الذين سمعوا الحديث منه وكتبوه عنه في تلك الواقعة فأنافوا على العشرين ألفاً من علماء مختلف المذاهب الإسلاميّة؛ مثل أبي زرعة الرازيّ، ومحمد بن أسلم الطوسيّ، وإسحاق بن راهويه، وغيرهم، ولقد مدح هذا الإسناد كبار علماء أهل السنة وأئمّتهم، منهم أحمد بن حنبل حيث قال: (لو قرأ هذا الإسناد على مجنون لبرئ من جنته). وقد كتبه بعضهم بالذهب تعظيماً واجلالاً له. [ينظر: ينابيع المودّة ج3 ص123، الفصول المهمّة ج2 ص103، الصواعق المحرقة ص205، ذكر أخبار أصبهان ج1 ص138].

فمن طرقه – مثلاً - ما رواه الصدوق بإسناده إلى إسحاق بن راهويه قال: «لَمّا وافى أبو الحسن الرضا (عليه السلام) بنيسابور وأراد أنْ يخرج منها إلى المأمون اجتمع إليه أصحاب الحديث، فقالوا له: يا بن رسول الله، ترحل عنّا ولا تحدَّثنا بحديث فنستفيده منك؟! وكان قد قعد في العماريّة، فأطلع رأسه وقال: سمعتُ أبي موسى بن جعفر يقول: سمعتُ أبي جعفر بن محمد يقول: سمعتُ أبي محمد بن عليّ يقول: سمعتُ أبي عليّ بن الحسين يقول: سمعتُ أبي الحسين بن علي بن أبي طالب يقول: سمعتُ أبي أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب يقول: سمعتُ رسول الله (صلّى الله عليه وآله ) يقول : سمعتُ جبرئيل يقول : سمعتُ الله جل جلاله يقول: لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أَمِنَ من عذابي. قال: فلَمّا مرت الراحلة نادانا: بشروطها، وأنا من شروطها » [توحيد الصدوق ص25، عيون الأخبار ج2 ص144] لقد أقام الإمام (عليه السلام) بهذا الحديث الحجّة على علماء المذاهب جميعاً بوجوب الإقرار بإمامة أهل البيت (عليهم السلام) والولاية لهم ولزوم طاعتهم والرجوع إليهم والأخذ عنهم، وأنّه لا توحيد إلّا مع ولايتهم.

ومن العجب العجاب أنْ يسمع القوم هذا الحديث من فم الإمام المعصوم (عليه السلام) ويكتبونه ويعرفون ما يعنيه، وهم مع ذلك كلّه لا يقرّون له ولآبائه بالإمامة ولا يدينون لهم بالولاية، بل الأعجب من ذلك أنْ يروى علماء العامّة في كتبهم حديثا قدسيّاً آخر من طرقهم بالإسناد إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب قال: « قال رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) قال لي جبرئيل: قال الله تعالى: ولاية عليّ بن أبي طالب حصني فمن دخل حصني أمن من عذابي » [شواهد التنزيل للحاكم الحسكانيّ ج1 ص170] وبالرغم من ذلك تجدهم لا يوالون عليّاً والأئمّة من ولده!!، وصدق الله تعالى إذ يقول: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ} [النمل: 14].

المسألة الثالثة: تحصين الشيعة من فتنة الواقفة، فلقد حدثت في عصر الإمام الرضا (عليه السلام) واحدةٌ من أخطر الفتن التي عصفت بالتشيّع وكادت تودي به إلى الهاوية، وقد تمثّلت هذه الفتنة بظهور الواقفة، وهم جماعة من النفعيّين الذين صحبوا الإمام الكاظم (عليه السلام) وكانوا أمناء له على أموال الصلات الشخصيّة التي كانت تصله من شيعته ومواليه كرامة له فكان غالباً يفرّقها على المستضعفين والفقراء من المؤمنين، فلمّا حبسه هارون العبّاسيّ وطال حبسه صارت تلك الأموال تُجمع وديعة وأمانة عند هؤلاء النفعيّين فكثرت وتنامت، قال الشيخ الصدوق: لم يكن موسى بن جعفر (عليهما السلام) ممّن يجمع المال، ولكنّه حصل في وقت الرشيد وكثر أعداؤه ولم يقدر على تفريق ما كان يجتمع إلّا على القليل ممّن يثق بهم في كتمان السر، فاجتمعت هذه الأموال لأجل ذلك، وأراد ان لا يتحقق على نفسه قول من كان يسعى به إلى الرشيد ويقول إنه يحمل إليه الأموال ويعتقد له الإمامة ويحمل على الخروج عليه ولولا ذلك لفرق ما اجتمع منه هذه الأموال، على أنّها لم تكن أموال فقراء وإنّما كانت أموالاً تصله بها موالوه لتكون له إكراماً منهم له وبرّاً منهم به صلّى الله عليه) [علل الشرايع ج1 ص236]، فلمّا توفّي الإمام الكاظم (عليه السلام) أغرت الدنيا وزبرجها هؤلاء الوكلاء، فزعموا أن الإمام الكاظم (عليه السلام) حيٌّ لم يمت وأنّه في غيبة فوقفوا عليه وأنكروا إمامة الإمام الرضا (عليه السلام) وبدأوا بإشاعة ذلك بين الناس ستراً على أنفسهم، فحاول الإمام نصحهم وإرشادهم، فتاب جماعة منهم وأصرّ آخرون على انحرافهم وعنادهم ولم تنفع معهم جميع محاولات الإصلاح والهداية، فتصدّى لهم الإمام (عليه السلام) خشية أنْ يُفسدوا على الناس عقيدتهم في إمامة الأئمّة الاثني عشر (عليهم السلام) وأصدر فيهم بيانات يعلنهم فيها ويفضح أكذوبتهم حتّى عرفهم الناس على حقيقتهم فانحسرت حركتهم وتبدّد شملهم، ومن أحاديثه (عليه السلام) فيهم، ما رواه الصدوق بإسناده عن جعفر بن محمد النوفلي، قال: « أتيت الرضا وهو بقنطرة أربق [موضع في خوزستان] فسلّمتُ عليه ثمّ جلستُ وقلت: جعلت فداك إنّ أناساً يزعمون أنّ أباك حيٌّ، فقال: كذبوا لعنهم الله، ولو كان حيّاً ما قُسّم ميراثه ولا نُكح نساؤه، ولكنّه والله ذاق الموت كما ذاقه عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) » [عيون الأخبار ج2 ص223].

هذا غيضٌ من فيض الحضور القدسيّ للإمام الرضا (عليه السلام) على صعيد العقائد والكلام بالرغم من موقف السلطة العباسيّة المعادي له والذي انتهى إلى وضعه تحت الإقامة الجبريّة أواخر سنين حياته الشريفة، وقد أعرضنا عن الأعمّ الأغلب من المسائل الأخرى له (عليه السلام) سواءٌ في أصول الدين، أم في الأبواب العقديّة الأخرى؛ كالإيمان والكفر، ووجوب الكتمان، التحذير من المنافقين البتريّين فعن الحسن بن عليّ الخزّاز قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: « إنّ ممّن ينتحل مودّتنا أهل البيت من هو أشدّ فتنةً على شيعتنا من الدجال، فقلت: بماذا ؟ قال: بموالاة أعدائنا ، ومعاداة أوليائنا إنَّه إذا كان كذلك اختلط الحق بالباطل، واشتبه الأمر فلم يُعرف مؤمنٌ من منافق» [وسائل الشيعة ج16 ص179]، وكذلك التعريف بشيعتهم وأنّهم مكتوبون عندهم ويعرفونهم بأسمائهم، وغير ذلك العشرات من المسائل، فمن أراد الازدياد فليرجع إلى: عيون أخبار الرضا للشيخ الصدوق، مسند الإمام الرضا (عليه السلام) للعطارديّ – الجزء الأوّل، وكتاب حياة الإمام الرضا (عليه السلام) للشيخ القرشيّ.

ختاماً هذا ما وفّقنا الله لتحريره في المقام، والحمد لله ربّ العالمين.