هل يحاسب مَن بحث في العقائد وكانت نتيجة بحثه خاطئة؟

السؤال: شخص بحث في العقائد وتوصّل إلى أنّ الحقّ مع (س) وليس مع (ش) واطمئنّ بذلك.. على فرض هو أخطأ في النتيجة التي توصّل إليها.. هل يحاسبه الله على خطئه؟

: الشيخ معتصم السيد احمد

الجواب:

من الصّعب الإجابة عن هذا السؤال من خلال تبنّي أحد طرفيه؛ وهما القول بمحاسبته أو عدم محاسبته، فكلا القولين لا يخلوان من شواهد عقليّة ونصيّة، وعليه من الصعب ذكر قاعدة عامّة تكون شاملة لكلّ الأفراد وفي كلّ الظروف، هذا مضافاً إلى أنّ الجزم بوقوع المحاسبة أو عدمها في عين الواقع أمرٌ غيبيّ خارج عن قدرتنا، فقد يكون بعضهم معذوراً عند الله تعالى، وبعضهم الآخر غير معذور، ولذا نكتفي هنا بذكر ضوابط عامّة لها علاقة بطبيعة اليقين الذي يجب أنْ يحصل عليه الإنسان الباحث عن العقائد الحقّة.

ولتحقيق ذلك لا بدّ من تحديد مصطلح البحث العقائديّ بدقّة، فمجرّد القول بأنّ فلاناً بَحَثَ عقائدياً ليس كافياً ما لم يحقّق مجموعة من الشروط التي تؤهله ليكون باحثاً عقائديّاً، فهناك مجموعة من الشروط والضوابط التي يجب تحصيلها لكي تصدق عليه هذه التسمية، فمضافاً للشروط الباطنيّة والنفسيّة مثل الإخلاص والتجرّد للحقيقة هناك شروط علميّة لها علاقة بالموضوعيّة والحياديّة والانضباط المنهجيّ والعلميّ، وقد فصّلت تلك الشروط الكثير من الكتب المختصّة في هذا المجال.

ونكتفي هنا بالشروط التي ذكرها الشيخ علاء الحسون:

1 ـ التحلّي بالرؤية الشموليّة: وهي أن يتوجّه الباحث في دراسته للقضايا العقائديّة توجّهاً شاملاً بحيث يتناولها من جميع جوانبها، ويلحظ جميع ما يرتبط بها، لأنّ تقصّي المعطيات والإحاطة بكل ما له صلة بموضوع البحث من شأنه أن يتيح للباحث القدرة على أداء عمليات التحليل والنقد والتفسير في نطاق واسع وشامل، وبهذا يتمكّن الباحث من كشف الحقيقة بصورة كاملة.

أما النظرة الجزئيّة أو الضيّقة التي يقتصر فيها نظر الباحث إلى الموضوع من زاوية محدّدة، فإنّها تفضي في الغالب إلى النتائج الخاطئة، وتكون النتائج عموماً قاصرة نتيجة قلّة المعلومات التي يمتلكها الباحث حول الموضوع المطروح على طاولة البحث. ومن أهم السبل للحصول على الشموليّة في الرؤية العقائديّة هي الوقوف على مختلف الاتّجاهات المذهبيّة، والانفتاح على الأفكار والرؤى المختلفة، وتحليلها ومعرفة أدلّتها وتبيين إيجابيّاتها وسلبياتها، لأن ذلك يتيح للباحث أن يوسّع دائرة معارفه من خلال تعرّفه على الرأي الآخر.

وفي هذا الصعيد ينبغي لكلّ باحث يستهدف التعرّف على عقائد وأفكار باقي المدارس الفكريّة والمذاهب الإسلاميّة، أن يعيَ بأنّ أفضل السبل لمعرفة آراء الغير ومعتقداته هي أقواله وتصريحاته، وعليه أن يبحثها بنفسه ويطّلع عليها من مصادرها المعتبرة والمعتمدة والموثوقة عندهم، لا من كتب ومصادر غيرهم أو ما كتبه عنهم خصومهم.

2 ـ الموضوعيّة: من أهمّ شروط الدراسة في المجال العقائدي أن يكون البحث موضوعيّاً، بحيث يتناسى الباحث انتماءه المذهبي ويصعد إلى أعلى درجات التجرّد، ومن ثَمّ يقوم بالمقارنة القائمة على توثيق الحقائق، ليستطيع أن يصل إلى فكر موضوعي لا تحكمه عاطفة متحيّزة أو نزعة متعصبة أو رؤية موروثة أو تصوّرات سابقة.

ومن أهم سمات البحث الموضوعي في هذا المجال، هو التحلّل من القيود والمجاملات وانتحاء منحى الصراحة والتوجّه إلى البحث العلميّ المجرّد من التحيّز، والترفّع عن التعصّب البغيض والتمسّك بالحقائق مهما كانت مزعجة ومؤلمة، واستعمال العقل والتفكير العلمي المجرّد عن ضباب الانحراف النفسي والتعتيم الدعائي المخرّب، ودراسة المذاهب الأخرى دراسة واعية متأمّلة من منابعها الأصليّة.

وفي ظلّ هكذا أجواء يتمكّن الباحث بسهولة ومن دون أي توجّهات سلبيّة أن يعيد النظر في مصادر هدايته، وأن يقرأ من جديد وبروح بنّاءة قراءة المتدبر المستهدي المستفيد.

3 ـ اتّباع المنهج العلمي الرصين: إنّ الجهد الذي يبذله الباحث خلال تحرّي الحقيقة لا يؤدي ثماره إلاّ إذا سار الباحث في حركته طلبا للحقيقة وفق دراسة منهجيّة واضحة تخضع لخطّة مدروسة ومحدّدة، يلتزم فيها الباحث حين النظر إلى ما يطرحه من أحداث ومواقف تاريخيّة وقضايا فكريّة لها صلة بالعقيدة منهجا غايته الوصول إلى الحق فيما يخص دينه ومعتقده) (التحول المذهبي، علاء الحسون ص 22).

وغير ذلك من الشروط العلميّة والاكاديميّة التي أشار إليها المختصّون في هذا المجال.

وممّا لا يخفى أنّ تحصيل الباحث لهذه الشروط هو الذي يوفّر له الضّمانة العقلائيّة لإصابة الحقيقة، فطالما كان باب العلم مفتوحاً والطريق إلى معرفة الصواب ممكناً فمن السهل الوصول إليه، فمعرفة الحقّ وتمييزه عن الباطل ليس أمراً عسيراً في نفسه، وإنّما الالتزام بالحقّ هو الذي يمثّل في الغالب العقدة الصّعبة أمام الأكثرية، أمّا إذا كان باب العلم في نفسه منسدّاً وطريق الوصول إلى الحقيقة متعذّراً في ذاته فحينها يكون الباحث معذوراً فيما توصّل إليه طالما استنفذ جهده في ذلك.

ولخلق توازن بين وجهتيْ النظر لا بدّ من الاعتراف أولاً بأنّ الحقائق التي جاء بها الإسلام واحدة، إلا أنّ الإنسان بتركيبته المعقّدة جدّاً والمتأثّرة – بالبيئة، والتربية، والحالة النفسيّة، والمحيط السياسيّ، والاقتصاديّ، والاجتماعيّ - لا يقارب الأشياء بصرامة المنهج الموضوعيّ، وإنّما يقاربها بما ينسجم مع ظرفه ونفسيّته ومصلحته، فلا يرى الحقائق كما هي، وإنّما يراها بالشكل الذي يحبّ هو أنْ يراه، ومن هنا ركّز الإسلام على ضرورة تهذيب النفس وتزكيتها وتوخّي الحقّ ونبذ التعصّب واجتناب الظنّ، يقول تعالى: (وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) فجعل التزكية سابقة لتحصيل العلم والحِكمة، وفي نفس الوقت دعا القرآن إلى احترام الفكرة القائمة على البرهان، قال تعالى: (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، فالبرهان هو الوحيد الذي يجب أن يسود، والمنطق السّليم هو الذي يجب أن يحكم بين المختلفين في الفهم.

والاختلافات التي تحدث في ظلّ المناهج العلميّة هي اختلافات مقبولة طالما تتحرك جميعها في دائرة المناهج العلميّة، ومن هنا فإنّ الاعتراف بالتباين ضرورة تفرضها الطبيعة الإنسانيّة كما أنّ الاعتراف بالحقائق المحدّدة ضرورة تفرضها طبيعة الرسالة الإلهيّة، والجامع بين الأمرين هو الفهم القائم على الضوابط العلميّة.

ومن هنا ليس في مقدورنا أكثر من التوصية بضرورة تحرّي الدقة والانضباط المنهجيّ لإدراك الحقيقة، وكل من يسلك هذا الطريق يكون معذوراً عند العقلاء في ما توصّل إليه من حقائق أمّا حكمه عند الله فمن الصعب الجزم به، فالله وحده هو العالم بدواخل القلوب.

ولا يفوتنا الإشارة إلى أنّ البعض قد حاول الاستدلال بحجيّة القطع على رفع المحاسبة عن كلّ مَنْ قطع بشيء وإنْ كان قطعه مخالفاً للواقع، حيث ثبت في علم الأصول أنّ الإنسان إذا كان قاطعاً بفكرة معيّنة فإنّ قطعه يكون منجّزاً في حقّه ومعذّراً له إذا عمل على مقتضاه، أي: لا يكون مؤاخَذاً وإنْ كان قطعه مخالفاً للواقع.

ولكن هذا الاستدلالٌ لا يخلو من تأمّل، وذلك لأنّ المشهور لا يذهب إلى رفع المؤاخذة مطلقاً عمّن قطع بخلاف الواقع، بل يذهب إلى أنّ القاطع بخلاف الواقع مقصّرٌ في مقدّمات قطعه، ولذا يؤاخَذ ويحاسب على التقصير في تلك المقدمات التي أوصلته إلى القطع بخلاف الواقع.

وهناك رأي آخر يذهب إلى عدم حجية القطع الذي لم يبتنِ على مقدمات موضوعية، حيث إنّ المقصود من القطع في علم الأصول هو العلم، ومن الواضح أنّ العلم الذي يكون حجّة هو العلم الكاشف عن الواقع، أو القائم في كشفه على مستند منطقي وعقلانيّ، أمّا القطع الذي هو أعمّ من العلم ومن (الجهل المركب) لا يكون حجّة إلا إذا قام على دليل وبرهان مقبول عند العقلاء، وبمعنى آخر: أنْ لا يكون مستند القطع مستنداً شخصيّاً، وإنما يكون مستنده عقلائيّاً، أي أنّ العقلاء يجب أن يرو ما يراه القاطع إذا نظروا إلى القضيّة من نفس الزاوية التي ينظر منها القاطع، وعليه فإنّ القطع الشخصيّ القائم على أسباب غير علميّة لا يكون مبرءاً للذمّة، فقد يقطع الإنسان بصحّة ما عليه بسبب البيئة أو العادة أو المصلحة أو غير ذلك، ممّا لا يعتدّ به في مجال التمييز بين الحق والباطل، قال تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗ أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ).

وعليه، فإنّ الترجيح بين الحقّ والباطل يجب أنْ لا يعتمد على الرؤية الشخصيّة والانطباعات الذاتيّة، وإنّما يعتمد على الحجّة والبرهان التي تفيد العلم عند العقلاء، وبالتالي لا تكون ذمّة الإنسان فارغة ما لم يحصل له العلم ويقدّم البرهان على مدعاه، قال تعالى (قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ)، فالبرهان هو الذي يمثّل مشترَكاً بين جميع العقلاء وعليه تدور الحقائق، أمّا القطع الشخصيّ الذي لا يستند على البرهان لا يُنجِي الإنسان في الدنيا فضلاً عن الآخرة.